التأمين التكافلي.. أقساط بقيمة 94,9 مليون درهم خلال سنة 2024 (تقرير)    الفنيدق: وضع خيمة تقليدية بكورنيش الفنيدق يثير زوبعة من الإنتقادات الحاطة والمسيئة لتقاليدنا العريقة من طنجة إلى الكويرة    مصرع شخصين في حادث اصطدام مروع بين سيارتين على الطريق الساحلية بين تطوان والحسيمة    أنظمة التقاعد الأساسية واصلت تسجيل اختلالات هيكلية سنة 2024    سقوط "قايد" و"مقدم" متلبسين بتلقي رشوة من صاحب مقهى    وفاة المدافع الدولي البرتغالي السابق جورجي كوستا عن سن 53 عاما    الأوقاف ترد على الجدل حول إعفاء رئيس المجلس العلمي لفيكيك: "بعض المنتقدين مغرضون وآخرون متسرعون"    الشرطة القضائية بإمزورن توقف مروجاً للمخدرات وتضبط بحوزته كوكايين و"شيرا"    ترامب يهدد بزيادة الرسوم الجمركية على الاتحاد الأوروبي إذ لم يستثمر 600 مليار دولار في الولايات المتحدة            في تطور جديد بنما تؤكد بوضوح مغربية الصحراء        مستشار الرئيس الأمريكي يؤكد للجزائر عبر حوار مع صحيفة جزائرية .. الصحراء مغربية والحل الوحيد هو الحكم الذاتي    انتخاب السفير عمر هلال نائبا لرئيس مؤتمر الأمم المتحدة الثالث للبلدان النامية غير الساحلية    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع أداء إيجابي                برقية تهنئة إلى جلالة الملك من رئيس جمهورية السلفادور بمناسبة عيد العرش    كونية الرؤية في ديوان «أجراس متوسطية» للشاعر عاطف معاوية    نحن والحجاج الجزائريون: من الجوار الجغرافي …إلى الجوار الرباني    تركمنستان.. انتخاب المغرب نائبا لرئيس مؤتمر الأمم المتحدة الثالث للبلدان النامية غير الساحلية    احتياجات الخزينة ستتجاوز 12 مليار درهم خلال غشت    اسرائيل تستعد لمرحلة جديدة من العدوان على غزة قد تتضمن إعادة احتلال القطاع بالكامل    "مستوطنة على أرض أمازيغية مغربية".. كتاب يصور مليلية مثالا لاستمرار الاستعمار وتأثيره العميق على الناظور    نظام تأشيرات جديد: 15 مليون للحصول على ڤيزا أمريكا    لطيفة رأفت تعلن تأجيل حفلها بأكادير وتعد بلقاء قريب    سائقو الطاكسي الصغير يحتجون بطنجة ضد التسعيرة وأوضاع النقل بمطار ابن بطوطة    زيادة إنتاج نفط "أوبك+" تنعش آمال المغرب في تخفيف فاتورة الطاقة    نشرة إنذارية: موجة حر وزخات رعدية مصحوبة بالبرد وبهبات رياح مرتقبة من الثلاثاء إلى الجمعة بعدد من مناطق المملكة    أمريكا تسلح أوكرانيا بمال اسكندينافيا    الإفراج بكفالة مشروطة عن توماس بارتي لاعب أرسنال السابق    "ألكسو" تحتفي بتراث القدس وفاس    الدورة السادسة عشرة من معرض الفرس للجدیدة سلسلة من الندوات حول العنایة بالخیل والتراث الفروسي    "منتخب U20" يستعد لكأس العالم    رضا سليم يعود للجيش الملكى على سبيل الإعارة    دراسة: الحر يؤثر على الصحة العقلية للإنسان    المغرب ‬يسير ‬نحو ‬جيل ‬جديد ‬من ‬برامج ‬التنمية ‬المجالية.. ‬نهاية ‬زمن ‬الفوارق ‬وتفاوت ‬السرعات    خواطر تسر الخاطر    الموهبة الكبيرة وزان يوقع عقدًا جديدًا مع أياكس بعد رفض ريال مدريد التعاقد معه    "سورف إكسبو" لركوب الأمواج في دورته الرابعة أكتوبر المقبل    22 شهرا من الإبادة.. الجيش الإسرائيلي يقتل 20 فلسطينيا في غزة فجر الثلاثاء    تارودانت… 14 مليون درهم لتأهيل المواقع السياحية بأسكاون وتيسليت    وَانْ تُو تْرِي دِيرِي عَقْلك يَا لاَنجِيرِي!    توقعات أحوال الطقس اليوم الثلاثاء    كاميرات مراقبة صينية في سبتة ومليلية تثير الجدل في إسبانيا    اتحاديون اشتراكيون على سنة الله ورسوله    علي الصامد يشعل مهرجان الشواطئ بحضور جماهيري غير مسبوق    الرباط تحتضن النسخة الأولى من "سهرة الجالية" احتفاءً بالمغاربة المقيمين بالخارج    بجلد السمك.. طفل يُولد في حالة غريبة من نوعها    من الزاويت إلى الطائف .. مسار علمي فريد للفقيه الراحل لحسن وكاك    الأطعمة الحارة قد تسبب خفقان القلب المفاجئ    دراسة كندية: لا علاقة مباشرة بين الغلوتين وأعراض القولون العصبي    دراسة: الانضباط المالي اليومي مفتاح لتعزيز الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية    بنكيران يدعو شبيبة حزبه إلى الإكثار من "الذكر والدعاء" خلال عامين استعدادا للاستحقاقات المقبلة    حبس وغرامات ثقيلة تنتظر من يطعم الحيوانات الضالة أو يقتلها.. حكومة أخنوش تُحيل قانونًا مثيرًا على البرلمان    "العدل والإحسان" تناشد "علماء المغرب" لمغادرة مقاعد الصمت وتوضيح موقفهم مما يجري في غزة ومن التطبيع مع الصهاينة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فتنة الغيرية .. قراءة في رواية «جيرترود» لحسن نجمي *

تنقلنا رواية «جيرترود» إلى أجواء نصية تؤثثها محكيات متقاطعة تنضح بالغرابة والدهشة؛ محكيات تستعيد وفق لعبة الكتابة وكيمياء الخيال، سيرا ومصائر مغربية وأجنبية، حدث أن تقاطعت مساراتها في زمن مضى (بدايات القرن الماضي)، فاشتعلت بتماس الحواس وتفاعل الشعور، وشعت بوهج الأمكنة وغبطة اكتشاف الآخر.
هكذا، أقامت الرواية جسرا رابطا بين مدينة طنجة، المدينة المغربية الكوسموبوليتية آنذاك، التي رحبت بجنسيات مختلفة وبكتاب ومبدعين أجانب، ومدينة باريس التي كانت بدورها محجا أثيرا لمبدعي العالم وكتابه المشاهير. تم ذلك عبر استعادة علاقة فريدة، تفتقت في صدفة لقاء بطنجة، ثم نمت وتطورت، قبل أن تنفصم وتنقطع في باريس. وهي العلاقة التي صهرت في حميا التجاوب شخصيتين رئيسيتين: المغربي محمد الطنجاوي الذي كان عضوا ضمن البعثة العلمية المغربية التي سافرت للدراسة بالخارج دون أن تتمكن بعد عودتها من توطين معارفها الحديثة بسبب سيادة ثقافة الانغلاق والمحافظة في تلك المرحلة، والذي سبق له أيضا أن اشتغل بقصر السلطان و عمل ترجمانا في دار النائب السلطاني بطنجة؛ ثم جيرترود، الكاتبة الأمريكية التي أقامت في باريس، والتي كانت مهتمة بالرسم والكتابة واشتهرت بصالونها الفني الذي ظلت تعرض بفضائه لوحات فنية مقتناة وتستقبل فيه مشاهير الفن والأدب.
وعبر استعادة سيرة هذه العلاقة المجنحة، اللاحمة بين ذاتين يفصل بينهما الانتماء الجغرافي والثقافي، لكن يجمع بينهما تفاعل وجداني عميق، وتجاذب حسي، سري وغامض، تكون الرواية قد منحت وجودا روائيا لمرحلة من تاريخ طنجة (إضافة إلى استعادة «موثقة» لباريس ما بعد الحرب العالمية الأولى)، لم تكن خلالها هذه الأخيرة موطنا عابرا أو قارا لمبدعي العالم فحسب، بل أضحت بهدوئها المتوسطي، وبالزرقة الساطعة لمياه بحرها، والإشعاع الباهر لضوئها، ونسجها المجبول على السجية للحكايات عبر رواتها الشفويين، مصدرا خصبا لإبداعاتهم الفنية والأدبية.
تقدم رواية «جيرترود» نفسها على أنها سيرة، سيرة غيرية، انبرى كاتبها (وهو بالمناسبة شاعر، يحمل اسم حسن1)، إلى تدوينها استجابة لرغبة صديقه محمد الطنجاوي. وقد عاش هذا الأخير تجربة ألم ظل نازفا لسنوات عقب انفصاله القاسي عن صديقته الكاتبة الأمريكية، فلم يشأ أن يطال الموت والنسيان تجربته تلك، وأن يرحل عن العالم وفي حلقه غصة الإهانات و فظاظة التجاهل والنكران اللذين لقيهما منها حين قررت الانفصال عنه بعد سنوات من العيش المشترك .
كتابة الرواية، أو كتابة هذه السيرة، مبعثها، إذن، ألم نازف وصدع فاغر وانفصال مكين. ويمكن القول بهذا الخصوص، أن قرار حسن بمباشرة كتابتها، بعد تلكؤ طال أمدا، سيكون «صعودا» نحو هذه الهاوية، أي نحو هذا الانفصال القاطع، لفهم مكامنه وملابساته، محاولا إعادة بناء سيرة متشظية وتقييم مساراتها المكلومة.
سيعتمد حسن لذلك على الأوراق الشخصية لمحمد، وعلى ما احتفظت به ذاكرته من حكيه الشفوي وتعبيراته الجسدية وإيماءاته الصوتية وفساحاته الصامتة. لكن كتابة هذه السيرة ستستعين أساسا بإفادات صديقة حسن الأمريكية، ليديا، التي ساعدته في جمع المعلومات التي تخص «جيرترود» وتدقيقها وإجراء البحث في يومياتها ومراسلاتها.
هذه الوضعية المنتجة لكتابة السيرة، تستدعي منا إبداء الملاحظات التالية:
1. تعرض السيرة نفسها كبناء وتشييد. تفصح عن كيفيات تبلورها، عن مصادر كتابتها، وعن رهاناتها..الخ. وهي بذلك تنزع عن ذاتها صفة بداهة الكتابة التي لا تكشف لقارئها خلفية إنتاجها، وسيرورة تبنينها.
2. ستكون كتابة السيرة، بالتالي، مفعول المحافل التي ساهمت في بنائها: محمد بمذكراته المتشذرة، حسن بصياغته للمحكيات، بوصفه البصري والحسي للمشاهد والمواقف، بتخييلاته وتخميناته وتقييماته للوضعيات، ثم ليديا بالمادة التي سكبت قي قالب السيرة، وبخطاباتها الفارقة حول كيفيات التعامل مع الوقائع وتقييم المواقف بعيدا، كما سنرى، عن التمثلات السائدة والتهيؤات الرائجة.
3. لم يكن دور ليديا في بناء السيرة دورا تقنيا أو توثيقيا فحسب، بل هو أبعد من ذلك. إذ يمكن أن نلاحظ بهذا الصدد أن حسن اقترن عاطفيا والتهب حسيا بهذه المستشارة الإعلامية بالسفارة الأمريكية حدا أضحت علاقته بها صدى يردد علاقة محمد بجيرترود .بل ويمكن الذهاب إلى حد القول أن تشخيص وإدراك ملابسات العلاقة بين جيرترود ومحمد تمر أحيانا عبر مصفاة علاقة كاتب السيرة، حسن، بليديا. هذه تضئ تلك، حسن ينظر إلى ذاته في مرآة محمد، يتماهى معه أحيانا، وينفصل عنه أحيان أخرى، ويحرص على أن يجنب نفسه تكرار تجربة صديقه من خلال تلافي انسياقه في المشاريع التي تعد له صديقته ليديا، والانصهار طوعا في غيرية تريد أن «تعيد تشكيله من جديد»2 ، فيما ليديا تنظر إلى ذاتها في مرآة جيرترود، وتدعو حسن إلى تجاوز الفهم المحدود لشخصيتها ولتجربتها، وتجنب اختزالها في تمثلات سهلة وجاهزة.
كيف تشكلت، إذن، سيرة محمد وكيف انتظم تواشجها الوثيق، البهيج والأليم في الآن معا، مع الكاتبة الأمريكية جيرترود؟
غالبا ما تخضع الكتابة عن الارتباط بين شخصيات تتباين انتماءاتها الثقافية والإثيقية، إلى خطاطات ثقافية، أنتربولوجية، تجعل التواؤم بينها صعبا، بل مستحيلا. ذلك ما أنتجته روايات يمكن وسمها بالروايات الثقافية romans culturalistes، يشغلها إبراز الاختلاف الثقافي في تسويغ التباينات وتبرير الانفصالات واستحالات التواؤمات. كما لو أن الذات المشروطة ثقافيا، لا يمكن لها أن تجترح لنفسها مصائر غير تلك التي حددتها لها ثقافتها سلفا .
بالتالي، بوسعنا التساؤل إن كنا سنعيد اللقاء بمعالم الخطاطة ذاتها في سياقات استعادة سيرة محمد الطنجاوي، ذي الانتماء المغربي، والذي سيجد نفسه، صدفة، منجذبا إلى امرأة أمريكية فريدة؟ أم ستكون هذه السيرة متخلصة من هذه الخطاطة ومن مزاعم اشتراطاتها، لتشرع اللقاء بين محمد وجيرترود على رحابة الاحتمالات، تلك التي تشق مداها، وبجدارة، ذوات مستقلة تذعن بالأحرى لتجاذباتها السرية وتفاعلاتها المتوهجة الحرى؟
الرواية، بمستويات تأليفها المتراكبة، وتعدد محافلها وتباين تقييماتها للسياقات والمواقف، لا تسمح بجواب جازم. فإذا كانت رواية «جيرترود» لا تخلو من قرائن نصية ومؤشرات لغوية تشف عن تمثلات وتقييمات ذات حمولة ثقافية للوضعيات والمواقف، إلا أنها في نظرنا تظل أبعد ما تكون عن رواية ذات نزوع أو منحى ثقافوي.
يمكن الزعم بدءا أن الرواية لم تعمد إلى الترسيخ الثقافيEnracinement Culturel، الأنتربولوجي لشخصيتها الرئيس، محمد الطنجاوي. إذ بدا هذا الأخير بالأحرى ذاتا متفردة، متوحدة، تحيا منفصلة عن السلوكات العامة والمشتركات الجماعية ، شخصية لا تتجذر في مكان محدد ، تقيم داخل زمنها الخاص وتتحدث لغة لا يفهمها الغير. إنها شخصية بهوية أقل، إن صح التعبير، فهو شخص مسلم لا يمارس الشعائر، «مسلم دينه ضعيف» كما يقال ( ص 250). شخصية بمثل هذه المواصفات، يصعب أن تكون صدى نصيا لانتماء ثقافي راسخ أو تجسيدا لتميز حضاري ثابت.
واللافت أن محمد الطنجاوي لم يحدث له أن أشهر أمام صديقته جيرترود اختلافه الثقافي واستثناءه الأخلاقي (عدا ما خالجه للحظة حين دعته صديقته إلى اختبار تجربة السرير المشترك)، إذ عاش ارتباطه بها بذات عارية سوى من اندفاعاتها الحسية و دفقاتها الشعورية. ويمكن القول في هذا السياق أنه عاش تجربة حب قصية، قطعت صلته بعالمه القريب، ودفعت به في جموح لحظة غامضة إلى التخلي عن ارتباطاته العامة والسفر رأسا إلى باريس للعيش مع صديقته جيرترود، سفر أشبه ما يكون ب «قفزة في الفراغ» (ص75).
محمد الطنجاوي، من هذه الزاوية إذن، مثال للشخصية المترحلة التي تصغي فحسب إلى نداءاتها الباطنية، وإلى اندفاعاتها السرية، فتمضي على إيقاع ذبذباتها الشعورية الحية، إلى مثوى النداء. بالتالي، بدا لقاؤه بجيرترود، أشبه باللقاءات الفاصلة والقاطعة، أي بنوع اللقاءات الواعدة بحياة قادمة جديدة، وباختبار تجربة مفتوحة على المخاطرة والمغايرة.
لقد حمل لقاؤه بجرترود أثر الصعق والافتتان الصادع، إذ بدا مفتونا بجسدها «الملحمي» ، جسد امرأة «خنثى» ، كما بدا منجذبا بالصفاء الروحي لنظرتها الآسرة ، فضلا عن أنها مثلت له أفقا للمغايرة حين أتاحت له الإقامة في قلب حداثة الفن والرسم والتشكيل ومصاحبة مشاهيره والتعرف عليهم ، وفتقت لديه ذائقة بصرية جديدة ونمت فيه رغبة الكتابة وتدوين التفاصيل العابرة.
بانتقاله إلى باريس، صار محمد أقرب إلى سلالة الغجر، « السلالة التي لا تتجذر في الأرض» (ص167)، لذا بدا مشدوها ومنجذبا إلى حياتهم الغريبة في ضواحي باريس، بل إنه لمس في نفسه رغبة أن يصير غجريا مثلهم، وأن يحيا نمط حياتهم المترحل. لهذا لم يكف عن زيارتهم ومشاطرتهم حياة الصخب والرقص والعربدة، تحذوه رغبة دفينة في التحرر من مواضعات الحياة البورجوازية الباريسية.
تشترك السمات المذكورة في اعتبار محمد الطنجاوي شخصية لا تحمل مواصفات شخصية هوياتية personnage identitaire، ومساراته في الرواية لم تتدرج وفق مستلزمات ثقافية أو دينية أو أخلاقية..الخ. لقد بدا منغمرا في سيرورات ذاتية وغيرية لا تعد بالفرح وحده، بل تخفي أيضا مخاطر الإخفاق والانكسار والانقطاع، شأن أي سيرورة عارية سوى من احتمالاتها المضيئة أو المعتمة. وقد اختبر محمد بنفسه هذا الإخفاق حين تضافرت ملابسات عديدة وضعت نهاية أسيفة لحياته المشتركة مع جيرترود.
تعرض الرواية مستويات متباينة لمحاولة استقراء هذا الإخفاق وفهم هذا المآل الكسير. يمكن أن نقتصر بهذا الخصوص على مستويين اثنين:
مستوى حبكة الأحداث:
وهو المستوى الأقرب لما يمكن أن نعتبره تقديرا موضوعيا لسلسلة الأحداث التي أفضت إلى انفصال جيرترود عن محمد. ضمن هذا المستوى، تبدو القطيعة بينهما حصيلة الملابسات التي تحف عادة تجارب الحب والعشق، والتي تنطوي على مشاعر الغيرة والحسد والخيانة أو ما يبدو كذلك. من هذه الزاوية، ستتضافر الشكوك التي استولت على محمد بخصوص حكاية البورتريه الذي وضعه الرسام بيكاسو لجيرترود، وتخميناته بخصوص سر العلاقة التي ربطت بينهما أثناء إعداد هذا البورتريه، ثم الغيرة الصامتة والغاضبة التي أذكتها في سريرة جيرترود أنباء عن ارتباط محمد بغجرية أثناء زيارته لأحياء الغجر بباريس. بيد أن الأحداث «الموضوعية» سرعان ما تنظفر بدلالات تجعلها نهبا لتضارب التأويل وصراع المعنى. فيصبح مصدر الخلاف بين عشيقين كامنا وفق منظور بعض محافل الرواية في اختلاف متوحش بين منظومتين ثقافيتين وأخلاقيتين !
مستوى ملابسات
الغيرية ومآلاتها:
لقد بدت جيرترود، الكاتبة الأمريكية، الحلقة الأصعب في إعادة بناء سيرة محمد الطنجاوي. إذ كانت أحد رهانات كتابة السيرة كيفية التعامل مع شخصيتها ومع رمزيتها الفنية وهيبتها الثقافية، وتجنب محاذير اختزالها إلى ما تمليه أحكام جاهزة وتصنيفات بخسة، بل وتجنب مشاعر النقمة التي قد تحذو بكاتب السيرة إلى تبخيس صورة جيرترود، بغية إعادة الاعتبار لصديقه الذي صار بعد الافتراق عنها حطاما وكائنا شبه ميت ( لنتذكر أن محمد طلب من حسن لحظة احتضاره « أن ينتصر لأخيه»!.) بصيغة أخرى، يمكن القول أن أحد رهانات الرواية، هو كيفية تشخيص هذه الغيرية المتميزة الممثلة في جيرترود، وتمتيعها بحضور روائي منصف.
بدت جيرترود بدورها كائنا مفردا، يصعب اعتباره تمثيلا لانتماء جماعي وثقافي ( لتمركز أوروبي أو أمريكي ethnocentrisme). امرأة بدورها، شأن محمد، مترحلة، غير متجذرة في مكان، متراوحة بين الذكورة والأنوثة، منجذبة إلى الرسم والكتابة، ترافق الفنانين الجامحين ( بيكاسو، أبولينير)، تقبل بجموح وعنفوان على الحياة، تبتهج بالحواس وبالأمكنة المضيئة المشبعة بالماء والضوء.
لكن الرواية بادرت إلى جانب ذلك، إلى انتقاد طريقة تعاملها مع محمد، حيث وسمتها بصفة امرأة استحواذية، تسخره لأعمال المنزل، بل وتضمنت الرواية آراء لشخصيات ولأسماء فنية أظهرتها بالأحرى أمريكية معتدة بنفسها، أنانية، لن تتوانى عن التخلص من محمد أو من غيره فور استنفاد الحاجة إليه، فضلا عن تحذير محمد من أوهامه العاطفية والسكون الساذج إلى جوارها.
ثمة إذن تراوح في تشخيص جيرترود، بين استعادة فرادتها وتميزها باعتبارها ذاتا غير نمطية atypique، وبين الوقوف على ما قد يدل على سطوتها واعتدادها بذاتها وإلغائها الصريح للآخر.
بيد أن الرواية لم تكتف بذلك، بل إنها عرضت احتمالات أخرى بإمكان سبرها الكشف عن أبعاد أخرى في شخصية جيرترود. لذا لجأت إلى تضمين منظور ليديا، الأمريكية صديقة حسن، التي نبهته إلى مزالق الارتكان السهل إلى التمثلات الجاهزة المسيئة إلى جيرترود، وإلى القصور الكامن في تجاهل أسئلة كفيلة بإضاءة أبعادها المجهولة، وفهم حياتها برحابة أوسع:
* « أرجو أن تتأمل موضوع كتابك. هل سألت نفسك لماذا تترك امرأة مثل جيرترود بلادها وتبحث عن بلد بديل؟ سمه هروبا، سمه تخليا، سمه ما شئت، لكنه ليس بالتأكيد سفرا لممارسة جسدية كيفما كانت طبيعتها. ولك أن تتأمل حالة هيمنغواي، حالة ميلر، حالة فيتزجرالد(...) إن أولئك العظماء لم يأتوا إلى أوربا، ولم يأت بعضهم إلى بلادك هذه ليعرضوا مؤخراتهم أو شغفا في القنب الهندي كما كتب بعض كتابكم المتهورين ممن ينقصهم الذوق.» (ص300)
* «أرجوك، لا تجرد امرأة عظيمة مثل جيرترود من أدلة حياتها، فقط لأنها ماتت الآن أو لأنها اختلفت مع صديق لك ذات يوم» (ص302).
بهذا الصنيع، تكون رواية «جيرترود» في نظرنا، قد هجست أثناء كتابتها بمخاطر التمثلات ومزالق الكتابات التي تكتفي بترسيخ تصورات مسبقة واستدامة منظورات قاصرة عن فهم ما يعتمل في المصائر المفردة، الوافدة من آفاق متباعدة، حين يتفق لها اللقاء و يتهيأ لها الانغمار في تجارب شعورية وحسية فائرة. لذا بدا لها أن الأساسي يكمن في حمل الكتابة على استقصاء ما اختزنه الارتباط الفريد بين جيرترود ومحمد الطنجاوي من مظاهر ثرة، معالمها اكتشاف الآخر، والاستجابة لغيريته الخصبة والواعدة حتى لو احتوت بداخلها بذرة التفكك والانفصام، والإقبال الشهي على مباهج الحس والجسد، والنهل من حياة مطرزة بألق الكتابة والإبداع .
الإحالات:
1- فضلا عن كون الاسم الشخصي لسارد الرواية «حسن» يقترن باسم المؤلف ( حسن نجمي)، فإن الحرص داخل الرواية على «تسويغ» انتقال حسن من كتابة الشعر( وهو ما عرف به المؤلف) إلى كتابة النثر ( الرواية)، يمعن في تأكيد التماثل بين المحفل التخييلي ( حسن، سارد الرواية) والمحفل الواقعي ( حسن نجمي، كاتب الرواية) !. نشير أيضا إلى أن «تسويغ» الانتقال من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية، يعد مستوى في الخطاب يرمي إلى البحث عن شرعية الولوج إلى كتابة الرواية من طرف شخص «غريب عن مجالها»، استباقا منه لتساؤلات محتملة قد تشك في مقدرة شاعر على كتابة الرواية، بل وقد تستنكر اقتحامه مجالا إبداعيا لم يكن من أهله !.
2- بخلاف محمد الطنجاوي، يبدو حسن أكثر حذرا في القبول الطوعي لغيرية الآخر، مصرا على كبح جماح انطلاقه اللاهب نحو ليديا. فهو أشد حرصا على إبداء اختلافه الثقافي والقيمي، بل إنه وجد في نفسه صدودا، يكاد يكون «غريزيا» منعه من انفتاح «عفوي» على غيرية بدت له دوما «نابذة».
3- ثمة إشارات في الرواية، خاصة في الحوار الذي دار بين حسن وليديا حول مآل علاقة محمد بجيرترود، إلى أن سوء فهم محمد للطبيعة الفنية للبورتريه، ولسياقات إبداعه، ووقوعه ضحية تخميناته السادرة المحمومة بغيرة حادة حول طبيعة العلاقة بين بيكاسو وجيرترود هو ما سرع بتفكك ارتباطه بهذه الأخيرة. من ثمة، يمكن القول أن محمد أخطأ جيرترود حين أخطا فهم اللغة الفنية للبورتريه الذي وضعه لها بيكاسو !
* قدمت هذه القراءة في اللقاء الذي نظمه اتحاد كتاب المغرب يوم الجمعة 14/11/2011 بالمكتبة الوطنية بالرباط احتفاء بصدور رواية «جيرترود» للروائي حسن نجمي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.