سيام 2024.. فتح سوق الاتحاد الأوروبي أمام واردات العسل المغربي    المالية العمومية: النشرة الشهرية للخزينة العامة للمملكة في خمس نقاط رئيسية    تتويج المغربي إلياس حجري بلقب القارىء العالمي لتلاوة القرآن الكريم    مكناس .. تتويج 12 زيت زيتون من أربع جهات برسم النسخة 14 للمباراة الوطنية    رسميا.. الجزائر تنسحب من البطولة العربية لكرة اليد المقامة بالمغرب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    المغرب يصدر 2905 تراخيص لزراعة وإنتاج القنب الهندي إلى غاية أبريل الجاري    الوكالة الوطنية للغابات تخرج عن صمتها بخصوص ظهور "القط الأنمر" في إحدى غابات طنجة    بحر طنجة يلفظ جثة شاب غرق خلال محاولته التسلل إلى عبارة مسافرين نحو أوروبا    غدا تنطلق أشغال المؤتمر الثامن عشر لحزب الاستقلال    الفروع ترفع رقم معاملات "اتصالات المغرب"    مطار مراكش المنارة الدولي .. ارتفاع حركة النقل الجوي خلال الربع الأول    ارتفاع أرباح اتصالات المغرب إلى 1.52 مليار درهم (+0.5%) بنهاية الربع الأول 2024    تظاهرات تدعم غزة تغزو جامعات أمريكية    توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    سيمو السدراتي يعلن الاعتزال    المعرض المحلي للكتاب يجذب جمهور العرائش    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    14 ألف مواطن إسباني يقيمون بالمغرب    تحويل الرأسمالية بالاقتصاد اليساري الجديد    بسبب تعديلات مدونة الأسرة.. البرلمانية اليسارية التامني تتعرض لحملة "ممنهجة للارهاب الفكري"وحزبها يحشد محاميه للذهاب إلى القضاء    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    نجم مغربي يضع الزمالك المصري في أزمة حقيقية    بوغطاط المغربي | محمد حاجب يهدد بالعودة إلى درب الإرهاب ويتوّعد بتفجير رأس كل من "يهاجمه".. وما السر وراء تحالفه مع "البوليساريو"؟؟    الدراجات النارية وحوادث السير بالمدن المغربية    عملية رفح العسكرية تلوح في الأفق والجيش الاسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر من نتانياهو    واشنطن طلبات من إسرائيل تعطي إجابات بخصوص "المقابر الجماعية" ف غزة    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحكم باسم الله .. الأسلمة وظمأ السلطة في العالم العربي

يقترح بوعلام صنصال في مؤلفه « الحكم باسم الله / الأسلمة وظمأ السلطة في العالم العربي «، الصادر مؤخرا عن منشورات غاليمار، بانوراما تركيبية للإسلام المعاصر وعلاقاته بالأنظمة السياسية. إنه كتاب ديداكتيكي، دون أن يعني ذلك أنه محايد. فللكاتب مواقفه الإنسانية الراسخة، التي جعلته يُدين، في الوقت ذاته، النظام العسكري والتوليتارية الإسلامية في الجزائر. إنه يوضح بالتفصيل تاريخ الديانة الإسلامية، حركياتها المتعددة، توتراتها وتناقضاتها.
بعد عرضه لوحة شمولية عن التيارات الإسلامية، تساءل بوعلام صنصال حول الفاعلين في البروباغندا الإسلامية: الدول المهتدية حديثا، النخب الانتهازية، المثقفين الصامتين، الجامعيين، وسائل الإعلام، الشارع العربي. كما يسائل فشل الإدماج في البلدان المستقبلة للمهاجرين؛ ويسائل بشكل مستفيض هوية العالم العربي: بينما لا يمثل العرب سوى أقلية من المسلمين ( بما أن الأغلبية توجد بآسيا )، كيف يعقل أن يدعوا أنهم أصل الإسلام ويزعمون تملكه؟
إن « العالم العربي « عبارة عن تخييل: كل البلدان التي استعمرها العرب، كانت تعمرها شعوب أخرى لا تزال موجودة ( بدء ببرابرة الجزائر)، إلا أن الجميع يتصرف على أساس أن العالم العربي كيان متناغم، أبدي. وتهدف النزعة الإسلامية العربية إلى فرض نفسها، لإساءة تقييمها من قبل الأنظمة الغربية التي تواجهها بأجوبة غيرموفقة. في حين أن النساء والشباب، ضحاياها الأساسيين، يقبعان تحت رحمتها أكثر فأكثر.
نظرا لأهمية الكتاب، وعمق الأسئلة التي يطرحها، فإننا نقترح على القراء تعريبا لفصليه الثالث والرابع.
النزعة الإسلامية في العالم:
إقرارات واستفهامات
أصبحت النزعة الإسلامية، اليوم، حقيقة قائمة في العالم. لقد عرفت كيف تحقق ذلك خلسة، في ظل الديكتاتوريات التي كانت تحكم البلدان المسلمة وتحت غطاء الإسلام الذي حولته، تدريجيا، إلى خطاب إيديولوجي الغاية منه مراقبة المجتمع والتمكن من الحكم. وهذا المشروع السياسي - الديني بصدد الترسخ في العديد من البلدان المسلمة العربية، كما أنه أخذ في التجدر خارج حدود الأراضي المسلمة.
ينبغي أن نسجل أن كل ذلك - ولهذا العنصر أهميته في التحليل- قد تحقق في وقت وجيز، ما يثبت، من جهة، هشاشة وقابلية الأنظمة السياسية، القضائية، الفلسفية، وغيرها من الأنظمة المعمول بها في الدول لأجل حماية المؤسسات و المواطنين من انحرافات المتطرفين و، من جهة أخرى، قدرة وسائل الاتصال الحديثة التي يستخدمها الإسلاميون بموهبة مؤكدة.
يُحدث كل هذا مفاجأة، ونحن نعلم أنه لا يفاجئ إلا من يرغب في ذلك فعلا.
في حوار أُجري معه سنة 1946،حذرنا أنري مالرو: « سيكون المشكل الرئيسي لنهاية القرن هو المشكل الديني « . وقد أثارت الصيغة ضجة.
تحديدا، تُثير مسألة النزعة الإسلامية ضجة في العالم، من خلال نقاشات لا تنتهي، نقاشات مضطرمة وجازمة في معظم الأحيان، عنيفة في بعضها، تُلهب العلاقات داخل المجموعات وفيما بينها.
إضافة إلى ذلك، فالاعتداءات، احتجاز الرهائن، الهجمات التي تتعرض لها الأقليات، تعنيف النساء بوجه الخصوص، الاستهتار والإبعاد العقابيين بمختلف أشكالهما، التي يعترف بها حركيون إسلاميون أو التي تُنسب لهم ، حالة العنف المستشري في العديد من البلدان المسلمة (أفغانستان، الجزائر، لبنان، نيجيريا، الصومال، السودان...)، وكذلك وصل الشبكات الإسلامية الجهادية بالشبكات المافوية ( كبار تجار المخدرات والسلاح)، أصبحت تشكل الراهنية في كل أطراف الكون منذ قرابة الثلاثين سنة، وتُبقي العالم في وضعية توتر لا يطاق، أمنيا واجتماعيا ونفسيا.
يبدو أن فرضية مالرو تجد ما يثبتها؛ يمكن القول بأن الإسلام كما يُروج له الإسلاميون يطرح مشكلا، بل المشكل الأكثر جدية خلال الثلاثين سنة الأخيرة، وكل ذلك يدفع إلى الاعتقاد بأن الأمر سيستفحل أكثر خلال السنوات القادمة. يمكننا أن نفترض، بالفعل، بأن الظاهرة ستمس، بفعل العدوى أو رد الفعل أو لدوافع متأتية من الداخل، الديانات الأخرى التي ستصبح متطرفة بدورها، ما أصبحنا نسجله عند بعض الإنجيليين ألأمريكيين والأصوليين اليهود الذين تتصاعد احتجاجاتهم وتصريحاتهم الحربية بشكل تدريجي. فقد نكث القس الأمريكي تيري جونس الأجندة طوال سنة 2012 بمشروعه الداعي إلى حرق مصاحف أمام الملأ، وحظي بدعم أعداد كبيرة من المؤمنين في العديد من الولايات الأمريكية.
ونتصور أن مالرو، وهو يتحدث عن الدين، كان يفكر في الديانات كلها، وعلى رأسها الديانات الثلاث الموحى بها التي تتقاسم نفس الإله ونفس الأنبياء. ويمكن القول إننا نصل الحد حيث لا يمكن للإله الواحد الانتماء إلا إلى هذه الديانة أو تلك. إن الحوار بين الديانات أصبح في حاجة إلى الانطلاق، إلى الدعم وإلى الدمقرطة.
ملاحظة: قيام العربية السعودية بخلق مركز بيديني وبيثقافي، بالعاصمة النمساوية فيينا سنة 2012، أمر محمود. إلا أن التخوف الوارد يتمثل في أن يكون المركز المذكور، الذي يرأسه وزير التربية الوطنية السعودي شخصيا، مجرد أداة لنشر الوهابية.
بالتالي، فكل النقاشات التي تتطرق للنزعة الإسلامية تتمحور حول مجموعة من الإثباتات والمسلمات المصادق عليها تقريبا، من الحقائق والحقائق المضادة المعلنة بقوة عموما.
1- يعرف الإسلام انتشارا واسعا في العالم، وهو انتشار مُقلِق. سيكون له جانب غاز وعنيف، وهو واسع وسريع في كل الحالات وتتمخض عنه تشنجات، غضب، إقصاء ومواجهات. إنه يتحقق من خلال هجرة المسلمين، من خلال الهِداية المتزايدة أكثر فأكثر، ومن خلال الاستثمارات الضخمة التي تخصصها بعض الدول المسلمة لتنمية الإسلام في العالم، في الغرب بوجه الخصوص، في البلدان والمدن حيث استقرت جاليات مسلمة هامة (أوروبا الشرقية، البلدان السكندنافية، أمريكا الشمالية، أستراليا).
2 - بلغت الأسلمة درجة تُمكنها من إدخال تغييرات عميقة على التوازنات القديمة، الحساسة، معلنة قطائع أو قلبا للنزعات الوازنة. وقد قُدمَت إسقاطات، تدفع إلى الاعتقاد بأن الإسلام سيُزيح المسيحية، في النهاية، من العديد من بلدان أوروبا، على الأقل من حيث أعداد المؤمنين الذين يترددون بانتظام على معبدهم (سيناغوغ، كنيسة، مسجد)؛ أما البلدان العربية فسيتم إفراغها، من جهتها، من مسيحييها مثلما أُفرغت من يهودها في السابق؛ ستنقرض الأقلية الشيعية من العالم العربي السني والعكس كذلك؛ سيُشار إلى تقاليد ورموز قديمة تُهيكِل مخيال المجتمعات المسلمة، وتدخل ضمن التراث الثقافي والرمزي للإنسانية، باعتبارها كافرة و مجثتة (نذكر مثلا ما تعرضت له تماثيل بوذا العملاقة في أفغانستان، الأضرحة الصوفية في تومبوكتو بمالي، القِبب الصوفية في تونس، إلخ). إن خارطة العالم تتغير، وهي مدعوة إلى أن تتغير بسرعة أكبر وبراديكالية أقوى.
3- تظل دوافع هذا التوسع مجهولة. إننا لا نعرف إذا ما كان الإسلام والنزعة الإسلامية في زخمها، يتطوران ردا على طلب روحانية حرضت عليه المادية المهيمنة؛ إذا ما كانا تعبيرا عن جامعة عروبة، في نسختها الإسلامية - البعثية، ينبثقان من جديد خدمة لعولمة تعلن النهاية النسبية لتفوق الغرب الذي يعرف، علاوة على ذلك، انحطاطا جوهريا، أو خدمة لمنظمة إسلامية، كنوع من النهضة المناهضة كلية للغرب، تهدف إلى توحيد العالم الإسلامي في خلافة جديدة وأسلمة بلدان العالم؛ إذا ما كانا مجرد مسعى لأجل إثباتٍ هوياتي في عالم أصبح هو نفسه يبحث له عن معايير؛ أو إذا ما كانا، بصيغة مبسطة أكثر، نتيجة انتحاء طبيعي يدفع تنظيما شابا، نشيطا وجماعيا ، للسيطرة على وسطه، لا سيما وأن الأخير منقسم، منحط، هرم، فرداني، وخاضع لموارد لم تعد في متناوله.
4- بشكل ملموس، حيثما استقرت النزعة الإسلامية، فإنها تُضفي القدسية على البلاد، حيث تشيد بها مسجدا على سبيل المثال، ما يجعل من البلد بفعل الواقع فضاء مرتبطا بدار الإسلام، يصبح متطرفا بالتالي، يصبح مهيمنا ويدخل في صراع مع الهويات، المعتقدات والتقاليد المحلية، وبمجرد أن يُخضع البلاد يقطع صلته بالخارج أو يغزو بلدا مجاورا. ففي البلدان المسلمة، تسعى النزعة الإسلامية إلى استرجاع حيازة مجموع التراب الإسلامي التاريخي، الذي أنهكته التطورات باتجاه الحداثة، الديمقراطية، العولمة، وغسل القذرات والآثام، يرفض الأقليات الدينية والأجنبية التي تلوث مناخه، ويعاقب المسلمين غير الصالحين (الديمقراطيين، حملة الفكر الحر، النساء الحداثيات، الشواذ جنسيا، إلخ). ويدخل تدمير إسرائيل في ترسيمة تطهير أرض فلسطين، التي ينبغي عليها، وأكثر من أي « دار إسلام « أخرى، أن تعود وتظلل كذلك إلى الأبد؛ فمن هذا المكان، من جبل الصخرة، « صعد « النبي محمد، يقوده رئيس الملائكة جبريل، إلى الجنة. ومقابل ذلك، فإسرائيل هي دار الحرب، الأرض التي ينبغي إعلان الحرب عليها، باسم الله، الجهاد في سبيل الله.
ملاحظة: إن مفاهيم دار الإسلام، دار الحرب، دار السلم، دار الحكمة ونقائضها، دار الزندقة، الظلم، الظلمات ( دار الكفر عموما)، مفاهيم قوية وبسيطة تُهيكِل رؤية المسلم للعالم. كل أرض، كل مكان، كل ميدان، مادي أو لا مادي، واقعي أو افتراضي، يُنظَر إليه من زاوية هذه الثنائية. هناك عالم الإسلام الذي تجب حمايته، وعالم الشر الذي ينبغي إعلان الحرب عليه. وهي بالنسبة للمسلم المسالم والمتسامح مفاهيم رمزية، لأننا نحارب الشر برفضه. أما بالنسبة للنزعة الإسلامية المتطرفة، فالهدف من الحرب هو قتل الآخر، الذي يعارض قوانين الإسلام.
5- في كل الجهات، يصبح الإسلام أكثر فأكثر في قبضة إسلاميين، ازدادت اليوم أعدادهم وتقوت هيكلتهم، ينخرطون في مسعى هجومي: يُعلمون مذاهبهم، يُجندون، يُهددون، يطورون معاملات تنعت بالإسلامية (المالية، الاتجار في الحلال)، المدارس القرآنية، يسنون قوانين، يفرضون ضوابط إسلامية، يُؤَمنون شرطة الأخلاق في بلادهم. وأكثرهم تطرفا يشكلون خلايا، ينتظمون في شبكات (جهادية، إرهابية، مافيوية ). ويعملون، تبعا للحالة، لحسابهم الخاص بهم، محليا وعلى مستواهم، أو لصالح تنظيمات وطنية أو دولية سرية إلى حد ما، أو لتنظيمات دينية (غير مربحة، ثقافية) تعمل رسميا على نشر الإسلام، تمولها دول، كالعربية السعودية، إيران، قطر، باكستان، الجزائر، المغرب، بلدان تتطلع إلى ممارسة تزعمها للإسلام على الصعيد الكوني أو الجهوي ومراقبة مواطنيها المقيمين في الخارج، والذين يظلون في اعتبارها وطنيين ولو وُلدوا بتلك البلدان أو حملوا جنسيتها.
6- أصبح واضحا، في كل الجهات، أن الجالية المسلمة تظل مستسلمة أمام هذه التصرفات رغم كونها لا تخدمها وتلحق الضرر بالإسلام. إننا نتأسى، بوجه الخصوص، لصمت مثقفيها. إذا ما استثنينا حالات قليلة جدا، فهم غائبون عن النقاشات العمومية. وغالبا ما نسمع الحديث، عن صواب، على أن الدفاع عن الإسلام هو شأن المسلمين. وبما أن الصمت يُفهم منه الرضا، فإنه يتم النظر إلى هذه الجالية، في مجموعها، كما لو كانت جيشا احتياطيا، طابورا خامسا، قابلا للتعبئة في أي لحظة، والكل يحتاط منه. إن تلك الجالية تخضع للملاحظة، إنها موسومة، وهي تتصرف على هذا الأساس، تسخط من نفسها، تتهم وتسم بدورها. كما أن سلوك الحكومات العربية يتعرض للنقد؛ إنها تقاوم الإرهاب، إلا أنها تغذي وتحمي النزعة الإسلامية باعتبارها طابعها الإيديولوجي وتُوكل تدريس الإسلام لدجالين وإيديولوجيين يحولون الإسلام إلى نزعة إسلامية؛ خيار تلك الحكومات، حكم شعوبها بالجهل وفي ظل الخوف للحيلولة دون أن تتقوى المطالبة الديمقراطية وتغمرها؛ إلا أنها، في الحقيقة، سياسة يتخذ قرارها بعيدا عن تلك الحكومات، تُقررها تسويات معقدة بين هؤلاء القادة، العربية السعودية وقطر والدول العظمى، الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، التي تنهج سياسات خاصة تجاه العالم العربي والإسلامي (سياسات تبسيطية في الغالب )، وترمي إلى أن ينخرط فيها الجميع. فعلاوة على المصالح الاقتصادية، التي ينبغي الحفاظ عليها (البترول، السوق )، فالسبب وراء هذا التفاهم هو كون العالم العربي دخل، منذ الاستقلالات، مرحلة لا استقرار سياسي ووجودي من المرجح ن تطول وهي تستوجب المراقبة، والوسائل الوحيدة التي تُمكن من ذلك هي الديكتاتوريات العسكرية أو الدينية لمعرفتها كيفية مواجهة الديمقراطية في الأساس.
تلك هي الحقيقة القابلة للملاحظة في العديد من جهات العالم، وكما ترويها الراهنية والمناقشات السالف ذكرها. إنها تقدم صورة سلبية عن الإسلام وعن المسلمين، صورة مُرعبة إذا ما أضفنا إليها الجرائم التي لا تُحصى والتي ترتكب باسميهما والتقاليد الثقافية العتيقة التي تُعيق المجتمعات المسلمة، لا سيما وأنها تعيش بقسوة عرضة لهشاشة وعزلة مدمرتين.
لكن، وهنا تكمن المفارقة، المفارقة الخارقة:
1- بينما تقدم عنه الراهنية صورة مُنفرة، لا يتوقف الإسلام عن الانتشار، عن التقوي، عن تعبئة الحشود وفتنتها، على إثارة إرشادات وهدايات في كل البلدان، في كل الأوساط، وحتى بين النخب والمشاهير (علماء، مثقفون، رياضيون، فنانون وكذلك جنود حاربوا الإرهاب الإسلامي ) وكذلك رجال دين مسيحيين ويهود ( قساوسة، حاخامات ). الأمر نفسه ينطبق على النزعة الإسلامية التي تتمكن، بفضل خطابها المعلل، مآثرها الثورية ووعودها بالخلود، من استهواء « معذبو الأرض « كما يسميهم فرانز فانون، المقصيين والمهمشين الذين تزيد العولمة من أعدادهم باستمرار.
2- في كل جهات العالم، يسعى مثقفون وصحافيون مشاهير، من العرب والغربيين، إلى تقديم صورة مغايرة عن الإسلام والمسلمين. إنهم يبرزون جودة الخطاب القرآني، باعتباره نشيدا للسلم والتسامح، يوضحون سمات التكافل والحفاوة لدى المسلمين، أصالة وسلاسة ثقافتهم، ويحددون الذين يُضفون صفة الشيطنة على الإسلام والمسلمين لدوافع سياسوية. إنهم يبرزون التطورات الحاصلة هنا وهناك، في المغرب العربي بوجه الخصوص (وضعية المرأة، التربية، حرية الصحافة، إلخ ) والتي تؤكد تقدم المجتمعات المسلمة في درب الحداثة ويعرضون لتأكيد ذلك جملة من المؤشرات الديموغرافية (نسبة تمدرس الفتيات، تراجع الزواج اللحمي، تكاثر الزواج المختلط، إلخ )، التي تتطور كلها باتجاه المعايير الحديثة.
إن الفكرة القائلة بأن الدين ليس مسؤولا عن الجرائم التي تُرتكب باسمه، قديمة قدم الديانات نفسها. والواقع أن الكثيرين، في كل البلدان، مقتنعون بأن الاعتداءات التي تُنسب للإسلاميين، حتى حين يعترفون بها، نُظمت وارتكبت من طرف آخرين، وكالة المخابرات الأمريكية ، الموساد، المصالح السرية العربية، إلخ. بل يذهب بعض المثقفين الغربيين إلى أن زمن الغرب انتهى، وأن الإسلام ربما يكون بصدد فتح درب جديد في وجه العالم، وأنه في كل الأحوال بصدد إخصاب وإنعاش الغرب، الهرم والمنهك. ولا يخرج عن الخطاب المماثل لهذا، الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفراي، ذي الحظوة الملحوظة في فرنسا وفي أوروبا دون أدنى شك، بفضل جامعته الشعبية الحرة، الموجود مقرها بكاين، والتي يمكن الاطلاع على محاضراتها، المثيرة جدا، عبر الأنترنيت.
3- لقد تمكن « الربيع العربي «، الذي انطلق باسم الحرية والديمقراطية، في كل مكان من منح الحكم ديمقراطيا للإسلاميين ويطالب الناس، اليوم، بالتطبيق الكامل والتام للشريعة التي يرون فيها ضمانة عدالة حقيقية. وتتبع بلدان المغرب العربي والشرق الأوسط دينامية ربما تمكنها من تحقيق الحلم القديم لأنصار النهضة: تجميع البلدان العربية في وحدة إسلامية تكون نقطة انطلاق خلافة جديدة. إن الإسلاميين يؤمنون بذلك، بعض الملاحظين يعتقدونه، بذلك يمكن للديانة المبجلة على هذا النحو أن تشكل رباطا قويا. لقد حاولت الجامعة العربية، منذ تأسيسها سنة 1945، تجميع الدول العربية كلها، إلا أن المشروع لم يعرف أي تقدم، فالبلدان العربية مختلفة جدا على عدة مستويات ما يحول دون دخولها مجتمعة في القالب نفسه؛ هناك زواجات عابرة، بعضها لم يتجاوز مرحلة الإعلان الرسمي. شهدنا كيف وُلدت، ليوم واحد أو لبضعة أشهر، جمهورية عربية متحدة اشتراكية تجمع مصر، سوريا واليمن الجنوبية، وبعض الاتحادات التي أُقبرت بسرعة بين ليبيا القدافي وهذا البلد « العربي « الشقيق أو ذاك: مصر، الجزائر، تونس، المغرب. وبالمقابل، صمد زواج سبع إمارات عربية على شكل فيدرالية، الإمارات العربية المتحدة التي تأسست سنة 1971 - أبو ظبي، عجمان، الشارقة، الفجيرة، دبي، راس الخيمة وأم القيوان -، عاصمتها الفيدرالية أبو ظبي ورئيسها عاهل أبو ظبي، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان؛ الفيدرالية التي أبانت عن استقرار قوي وازدهار كبير. إنها مفارقة، فحيث أخفقت جمهوريات تدعي الحداثة، أفلحت إمارات إقطاعية شديدة التدين.
أما بخصوص اتحاد المغرب العربي، الذي تشكل سنة 1989 بين موريتانيا، المغرب، الجزائر، تونس وليبيا، فإنه لا يزال قائما. إنه تنظيم له مقره في تونس ومكاتب في البلدان الخمس، إلا أنه عبارة عن آلة تدور في الفراغ، ليس له توجه سياسي ولا برنامج، منذ تأسيسه، وذلك بسبب نزوات القدافي، الانقلابات التي شهدتها الجزائر وموريتانيا، الحرب الأهلية في الجزائر، والحرب غير المعلنة بين المغرب والجزائر، بسبب الصحراء «الغربية» التي يعتبرها المغرب أرضا مغربية، بينما تدعم الجزائر نضالها من أجل الاستقلال.
بفعل التحولات التي يشهدها المغرب العربي منذ أحداث « الربيع العربي «، فقد يتحول اتحاد المغرب العربي، الذي يحظى بامتياز التواجد منذ أربعة وعشرين سنة وله هياكل ملائمة، إلى مطية للإسلاميين، الذين يحكمون سلفا بلدين ( المغرب وتونس ) ويمضون باتجاه الحكم في البلدان المغاربية الأخرى ( موريتانيا، الجزائر، ليبيا )، ما يساعدهم على تجسيد حلم بناء وحدة إسلامية قوية تنضم إليها بشكل طبيعي مصر والسودان، وبعدهما سوريا، وستهب فورا ملكيات الخليج لاحتلالها وإخضاعها لوصايتها. لقد ولد الإسلام بشبه الجزيرة العربية، وبها ينبغي أن يحقق إشعاعه، منها ينبغي أن ينطلق لغزو العالم من جديد.
4- يعرف الإسلام، في أوروبا، انتشارا ملحوظا رغم العوائق التي يصادفها في طريقه، وأولها الديمقراطية نفسها التي تَحول دون تطبيق العديد من التعليمات الإسلامية. إن الشباب المسلم والجيلين الثاني والثالث ينخرطون بكثافة وحمية في درب الإسلام، رغم امتلاكهم معرفة أولية عنه، ويهدون إلى الإسلام و بنجاح أصدقائهم المسيحيين. بعضهم يصبح متطرفا، عموما بفضل زيارة إلى بلد مسلم يسافرون إليه بحثا عن الانصلاح. فبيشاور، القاهرة، الجزائر، اصطنبول، كابول، صنعاء، وكذلك لندن، كلها مدن مثلت وجهات لهؤلاء الشباب الذين يبحثون عن معلم يقودهم إلى الله. ويعودون دائما وقد تغيروا بشكل عميق بفضل هذه الأسفار التلقينية.
5- نرى كذلك بأن الإسلام يقتحم العلم والتقنيات الأكثر تقدما، النووي، الإعلاميات، البحث الطبي، الفضائي... لقد خلق له، على نحو لا نقاش فيه، نخبا علمية مسلمة عديدة، على أعلى المستويات، ورعة ومحترمة داخل وسطها، وهي واثقة من أنها تستمد نجاحها من إيمانها وتعتبر نفسها عائدة لخدمة انتشار الإسلام. وللتبشير الذي تزاوله هذه النخبة مفعول كبير. إن نجاحات مسلمي النخبة، حيثما حلوا في العالم، معروفة ويتم تداولها على نطاق واسع، عن طريق الأنترنيت والوعظ. إنها تمثل خير الحجج « الماركوتين « لنشر الهداية في الأوساط الجامعية والتأثير في الشباب. كما يتم إبراز التقدم العلمي الذي تحققه إيران، فهي مؤثرة رغم خضوع البلاد لعقوبات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ويتم الترحيب كذلك بالنجاح العلمي لتركيا، التي يحكمها الإسلاميون، علما بأن نجاحها ليس تجاريا فحسب، إنه اقتصادي، ما يدل على قدرات التدبير الفائقة، المهارة التي ظلت حتى اليوم وقفا على القوى الغربية العظمى. إنها براهين قوية تثبت انسجام الإسلام مع الحداثة وانفتاحه على العالم.
أكثر من ذلك، فقد تم الاعتراف بتركيا باعتبارها عنصر استقرار في المنطقة. ونحن نتساءل بخصوصها: هل تركيا بصدد تحديث الإسلام، أم أن الإسلام هو الذي أخرجها من الديكتاتورية العسكرية ومن أوهام ماضيها العثماني، لتصبح دولة حديثة في ظرف عشر سنوات، وهي تسعى اليوم إلى الاندماج في أوربا دون التنازل عن هويتها الإسلامية؟ إنه بمثابة التطور المدهش أن يرى بلد مسلم مستقبله في الحداثة وفي مناخ مسيحي، في وحدة وثيقة معه، وهو يثبت أن الارتباط القوي بالإسلام الذي لا يُخيفُه الانفتاح، بل يحتاج الانفتاح لمواجهة المرحلة ويبين هذا أن الإسلام يبحث عن عمق استراتيجي للانتشار في فضاء ديمقراطي ولائكي يتعذر عليه أن يرفضه أو يقاومه. هنا فقط يمكن للإسلام أن يدمج، أن يتمثل وأن يحول الحداثة والديمقراطية ويجعلهما في خدمة انتشاره. لم يتمكن العالم الإسلامي منذ مدة، منذ مدة طويلة جدا، أن يوفر لتركيا هذه المطية. وإذا ما فكرنا في الأمر، فالعنف الإسلامي ليس أمامه مستقبل كبير وهو لا ييسر، في جميع الأحوال، بلوغ هذه الأهداف مجتمعة. إن لتركيا على العرب، سواء كانوا ديمقراطيين، قوميين، إسلاميين معتدلين أو متطرفين، تأثير كبير. إنهم ملايين ينتظرون سنويا زيارتها لكي يقفوا بأنفسهم على هذه المعجزة الإسلامية.
نتذكر كذلك، على سبيل المثال، السنيغال، ماليزيا، اندونيسيا، حيث يتعايش الإسلام مع الحداثة والتعددية الدينية، ولا يسمح لا بتجاوزه ولا بتأليته من قبل الأنظمة أو من قبل الإسلاميين المتطرفين.
بالنسبة لإيران، يظل الحكم محفوظا، فتورطها المزعوم في الإرهاب يُقلق العرب ( يعتقدون أن ذلك لا يخدم قضية الإسلام، بل يخدم مصالح إيران الشيعية على حساب الأمة العربية السنية )، إلا أن الاتهام الموجه إلى برنامجها النووي، الذي سيصبح عسكريا، ليس مؤكدا. فمقاومتها وحزمها في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، أكسباها تعاطف عدد كبير من المسلمين، كما أن دعمها لأبطال آخرين يخدمون القضية العربية، حزب الله وحماس، يحسبا لها إيجابيا، ولو أن انفلاق السنة / الشيعة المتعلق بالشرق الأوسط (لا وجود لمواطنين شيعيين في المغرب العربي ) لا يتوقف عن الاتساع، خاصة منذ الحرب بين العراق وإيران وانطلاق البرنامج النووي الإيراني الذي يرى العرب أنه قد ينقلب ضدهم في يوم من الأيام. فالحقد القديم والمتعذر إيجاد حل له بين الفرس والعرب، الشيعيين والسنيين، لا يزال قائما، إنه تحت المراقبة إلى أنه مترسخ. ومهما حدث، فالإجماع حاصل بين المسلمين لإدانة إسرائيل أولا، القوة العسكرية والنووية المؤكدة، وأن ينسبوا لسياستها الداعية إلى الحرب تجاه العرب حالة الحرب في المنطقة، وبعدها أمريكا، حليفها الدائم. إن المسلمين يتحدثون باستمرار عن ظلم « الكيل بمكيالين « لتبرير دعمهم لإيران في صراعها مع الغرب.
ما سبق قوله، والذي يقدم صورتين عن الإسلام، صورة سلبية جدا وأخرى إيجابية بالأحرى، يثبت أننا لا نفهم الظواهر التي تتضمن يقظة وانتشار الإسلام وتطرف شرائح هامة من المجموعة الإسلامية، التطرف الذي عرف انطلاقته في بلدان المغرب العربي والشرق الأوسط منذ حوالي ثلاثين سنة وتأكد بطريقة جلية وغير متوقعة إلى حد ما خلال « الربيع العربي «.
أما في أوروبا،، فإن التطرف الذي يكتسح البلدان بين الشباب المسلمين من الجيلين الثاني والثالث، من الشباب الأوروبيين الذين اهتدوا إلى الإسلام غير قابل للتفسير وغير مفسر. فقد سبرت المناقشات كل المسالك، وقد تمت المحاولات كلها للتخفيف من حدة التوترات وإنعاش « عيش مشترك « جديد، إلا أن ذلك لم يحصل. لقد بلغت الوضعية حد القطيعة، فعلى تطرف البعض يرد تطرف البعض الآخر. إن الطلاق، إذا ما سبق أن كان هناك زواج، بين المجموعة المسلمة والمجموعة الوطنية يرتسم خلف العمل المتزاوج للراهنية وعمل المتطرفين من كل الجات.
إن ظاهرة يقظة الإسلام وتطرف العديد من المؤمنين، يظل صعب الفهم لأن التطور السابق للإسلام تم دون علم الجميع. كان هناك ما يشبه فعل المفاجأة الذي ضلل الكل. كان الإسلام يعيش فترة سبات وانحطاط منذ قرون (منذ القرن الحادي عشر حسب بعض المختصين )، ولم يكن يحظى بأي اهتمام في أوروبا، ماعدا من طرف قلة من الجامعيين؛ وفي العالم الإسلامي، عرفت الأنظمة الإقطاعية الحاكمة كيف تُبقيه، بتبصر، في وضعية التدهور والجهل لكي تتمكن من مراقبة مواطنيها أكثر.
وجاء الاستعمار الأوربي للبلدان الإسلامية خلال القرن التاسع عشر، ثم التوجه الاشتراكي الذي تبنته معظم البلدان المسلمة بعد الحصول على الاستقلال (مصر، سوريا، العراق، تونس، اليمن، ليبيا، السودان، اندونيسيا، الجزائر، مالي، غينيا، النيجر، أفغانستان، ألبانيا...) للرفع من وتيرة امحائه. في هذه البلدان الاشتراكية، الثورية والعالم ثالثية بالأحرى، كان يُنظر إلى الدين باعتباره « أفيون الشعوب « حسب تعبير كارل ماركس، وتعرض المعارضون الإسلاميون القلائل للقمع، أُجبروا على المنفى كالإيراني الخوميني والتونسي الغنوشي، للسجن كالجزائريين عباسي مداني وعلي بلحاج، مؤسسي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أو الاغتيال كالمصري حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، أو حُكموا بالإعدام ونفذ فيهم كسيد قطب، إيديولوجي الإخوان المسلمين. خلال هذه الفترة كلها، انتقلت النزعة الإسلامية المتطرفة إلى السرية، حيث تم استقطابها وتأليتها من قبل مختلف الأطراف، الولايات المتحدة الأمريكية، ملكيات الخليج المحافظة، لتشكيل عائق في وجه الشيوعية التي كانت تشجعها موسكو. كما نسجت النزعة علاقات مع الجماعات الإرهابية من اليسار المتطرف ومع كبار تجار المخدرات والسلاح.
بعدما اختفى من رادار التاريخ، بعدما احتكره الغرب المسيحي منذ العصر الوسيط، كيف تمكن الإسلام، خلال فترة وجيزة، بعد جيل أو جيلين، من العودة إلى الواجهة بهذه القوة وهذه اليقينيات التي تجرف كل ما يصادفها في الطريق؟ إن رفض الحضارة الغربية، التي فقدت مصداقيتها بسبب حروبها، من بينها حربان عالميتان بشعتان، استعمارها العنصري ورأسماليتها الاستغلالية، لا يفسر كل شيء. لا بد من العودة إلى الوراء وإعادة قراءة الخطاب القرآني للوقوف على ما هيأ لتطور من هذا النوع.
إذا كانت يقظة الإسلام تجد ترجمتها في استرجاع الورع بالنسبة للمؤمنين والرجوع إلى قيم الإسلام الأولى، المسعى المعروف بالسلفية، فالإسلاميون يضيفون تطلعا إلى الحكم الاستبدادي والتوليتارى على المجتمع، الذي يمارسون عليه قبليا ضغطا قويا، متواصلا، متعدد الأشكال، مرهبا، وعلى مؤسسات الدولة التي يطوقونها بمطالب لا تنتهي. كما لا تفارقهم الرغبة في معاقبة الذين أوصلوا الإسلام إلى حالة التدهور، الذين قسموا الأمة واحتقروها، أي الغرب والذين ينوبون عنه في العالم الإسلامي، السلطات العربية الفاسدة، المثقفين المستغربين المتأهبين لقدح الإسلام. والهدف من ذلك إعادة بناء الخلافة، تحت إدارة عربية، والانطلاق في غزو العالم من جديد. إن النتيجة واضحة، في العديد من الجهات، هنا وهناك تتشكل مجموعات تعيش بناء على القواعد الصارمة للإسلام الأورثودوكسي، وقد تمكنت من الوصول إلى الحكم في العديد من البلدان العربية. هذه النجاحات التاريخية تثير بعض الميولات وتقوم مقام النماذج.
إن انطلاقة النزعة الإسلامية ووصولها إلى الحكم في العديد من البلدان العربية، يشكلان قلقا طالما أننا نعتقد أن انتصار النزعة الإسلامية، التي تُنعت بالمعتدلة، يهيئ لوصول النزعة الإسلامية المتطرفة إلى الحكم وأن هناك ذكاء في المناورة يتمتع بوسائل غير محدودة. إن الحقيقة والاستيهام يلتقيان بالتالي للتعتيم على التحليل. ففي دور من يعمل على تسوية الوضع مؤقتا، نجد إيران، العربية السعودية، قطر، أو تنظيمات لها آلاف التفرعات كالإخوان المسلمين، أو الولايات المتحدة الأمريكية التي لعبت دورا بارزا في انتشار النزعة الإسلامية وتوجهها نحو الجهاد لخدمة المخططات ألأمريكية خلال الحرب الباردة واستراتيجيتها الرامية إلى مراقبة حقول البترول في العالم العربي. فيما يخص الدور الخاص الذي لعبته قطر، يمكن أن نقرأ باهتمام كتاب كريستيان شينو وجورج مالبرينو، صحافيي الروبورتاجات الفرنسيين الذين احتجزا طيلة مائة وأربعة وعشرين يوما من طرف الجيش الإسلامي في العراق، والكتاب عنوانه « قطر. أسرار الخزانة «، صادر عن منشورات ميشيل لافون سنة 2013 . حسب الكاتبان، لعبت قطر دورا في تحريرهما.
إلا أننا نعرف كذلك أن تطور النزعة الإسلامية المتطرفة كانت وراءه أيضا الديكتاتوريات العربية التي شجعتها لموازنة المطالب الديمقراطية التي كانت ترتفع وسط المجتمع، تحملها نساء، طلبة ونقابات عمالية، نتيجة للفشل البين لنموذج التنمية الاشتراكية المستعار عن النظام السوفياتي. هناك أيضا الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني الذي تشكل حوله مخيال مدهش، وهناك العولمة التي تُولد فقدانا مؤلما للبوصلة بالنسبة للذين لم يستعدوا لذلك والذين يشعرون أنه لا مكان لهم في هذه الترسيمة الجديدة.
كلها عوامل ينبغي مساءلتها. إذا لم نكن نعرف تطور الإسلام في الماضي، وتطور العالم الإسلامي في تفاعلاته مع بقية العالم، منذ الحروب الصليبية وحتى المرحلة الاستعمارية، مرورا بالغزوات المسيحية ، نهاية الخلافة العربية وبعدها الخلافة العثمانية التي وضع كمال أتاتورك حدا لها، وخلق إسرائيل، كمعطيات يحيل عليها العالم العربي - الإسلامي باستمرار، فلن نتمكن من التنبؤ بالتطور القادم، على الأٌقل الإلمام بالأهداف الواقعية إلى حد ما، الأسطورية إلى حد ما، التي اتبعها المسلمون من جهة والإسلاميون المتطرفون من جهة أخرى، علما بأن هذه الأهداف ليست هي نفسها بالضرورة. بذلك، فإن إعادة بناء الخلافة التي ستحكم العالم الإسلامي هدف قوي بالنسبة للإسلاميين المتطرفين، وهو بالنسبة للمسلمين البسطاء حكاية من الماضي، فالمفاهيم الحديثة للأمة، الدولة ومفهوم القانون الوضعي عوضت بقوة مفهوم الأمة الأسطوري الذي ستحكم فيه الأمة، مجموعة كل المسلمين في العالم كله، بالشريعة.
خلال الثلاثين سنة الماضية، تغيرت وجهة النظر إلى النزعة الإسلامية أربع مرات على الأقل، ما حال دون تكوين رؤية واضحة إلى واقع وإلى مثابرة ظاهرة التطرف التدريجي الذي يفعل فيها من الداخل.
1- تم النظر إلى النزعة الإسلامية بتعاطف في البداية. رأينا في هذا الإسلام المتجدد، المطالب، المقاوم، الوسيلة التي تُمكن الشعوب المسلمة من التحرر من الديكتاتوريات التي كانت تضطهدها و، بالتالي، الإفلات من تأثير موسكو والتقرب من الغرب. وبنفس التعاطف تم تتبع مغامرة المجاهدين الأفغان وهم يطردون السوفيات من بلادهم، مغامرة « المُلات « وهم يقلبون نظام الشاه، مغامرة الإسلاميين الجزائريين وهم يواجهون ديكتاتوريات الجنيرالات. كان الناس يتحدثون عن إسلام محرر، تحرري.
2- نظرنا إليه، بعد ذلك، بشيء من القلق. لقد تغير الإسلام تحت تأثير الإسلاميين وأصبح مرادفا للتدهور. فبسبب صرامتهم وتعصبهم، دخل الإسلاميون في صراع مع المجتمع الذي كان يتطلع إلى عيش أفضل، مستهدفين بشكل واضح النساء، المثقفين، الفنانين، الشواذ جنسيا، الأجانب اليهود والمسيحيين. كانت صور طالبان وهم يرجمون النساء، يقتلون لأجل نعم أو لا، يدمرون التراث التاريخي للبلاد (تدمير تماثيل بوذا العملاقة بمدفع)، تُحدث الاضطراب في العالم وتثيره.
3- تحول القلق إلى رعب حين لجأ الإسلاميون إلى العنف المسلح لمراقبة المجتمع ونشر الذعر حيثما أمكنهم ذلك في العالم.
4- في مرحلة رابعة، وهي المرحلة الراهنة، أصبحت السيادة للغضب وللمواجهة. لقد تراجع الإرهاب أمام التقوية الخانقة للتدابير الأمنية في جميع البلدان، إلا أن النزعة الإسلامية المتطرفة غيرت استراتيجيتها، إنها تتجدر في كل مكان، في البلدان الإسلامية وحتى في قلب الغرب. لقد خلقت توترات كبيرة في المجتمعات التي أصبحت بذلك تحت تهديد التمزق. إنها استراتيجية الدودة في الفاكهة.
يبدو أنه سيتم، في المرحلة القادمة، تجريم الإسلام وليس النزعة الإسلامية وحدها. الأمر الذي سيُضفي المصداقية على الفرضية العزيزة لدى صامويل هانتيغتون، التي استعارها ونفذها جورج والتر بوش، القائلة بكون العالم يعيش صدمة حضارات وليس فقط حربا ضد النزعة الإسلامية المتطرفة والإرهاب. وتدخل هذه الرؤية التاريخية والقيامية فعلا في تصور وسعي المتطرفين من الجهتين.
ينبغي النظر إلى هذه الاعتبارات كلها، بطريقة تمكن من ضبط الأمور بين الواقع وما نحسه من هذا الواقع. ويمكن أن يكون المحسوس به، هنا، مبالغا فيه، بما أن الخوف يغذي الخوف، لأنه ينظر إلى الواقع بمكبرة مشوهة ومضخمة، والمحسوس به، هنا، يقلل من الواقع لنقص في المعلومات أو بدافع الحاجة للطمأنينة. هناك هدوء خادع، مثلما هناك عواصف عابرة ومحلية. وهذا التمييز هو ما ينبغي أن ننكب عليه، ويتم ذلك من خلال معرفة أفضل للأسس المتعلقة بالموضوع. وذلك ما نأمل الإسهام فيه.
مُوجهات النزعة الإسلامية
ليست النزعة الإسلامية، في ذاتها، عبثية ولا خطيرة بالفعل. إنها تيار ديني أورثودوكسي متطرف يهدف إلى التغيير الجذري للبلدان الإسلامية، بل للعالم، على المستويات الدينية، السياسية، الاجتماعية، الثقافية، مثلما سبق للمجتمعات البشرية أن عرفت ذلك ولا تزال تعرفه، والذي نعرف كيفية احتوائه إذا ما تم التعامل معه في وقت مبكر، بمواجهته بالأفكار والبرامج الملائمة.
في معظم التيارات الإسلامية، يتم السعي إلى التغيير المجتمعي باعتماد وسائل كلاسيكية، سلمية بالأحرى - الوعظ، اللعبة السياسية، العمل الخيرى والتكافل، التربية-، ومن خلال إقحام عناصر مدسوسة في المؤسسات الوطنية الكبرى (الجيش، العدالة، التربية، الجامعات...) وكذلك التنظيمات المدنية بما فيها جمعيات الصغيرة بالأحياء ، التقنية التي يُتقنها الإسلاميون الذين يُنعتون بالمعتدلين، على أعلى مستوى، ما جعلهم يجعلون منها سلاحهم المفضل: أثبت هذا السلاح فعاليته في سياقات مختلفة. وهم، في هذه اللعبة، يُشبهون السمك في الماء. علاوة على ذلك، فهم يظهرون بسمات المتحضرين والودودين مقارنة مع المتطرفين الذين لا يعرفون سوى العنف. عبر هذه الطريق، وصل كل من حزب العدالة والتنمية في تركيا، النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر إلى الحكم، ومع ذلك نلاحظ بشكل يومي أن التغيير المجتمعي الذين كانوا يرغبون فيه ليس مقبولا بالضرورة من قبل مجتمعات تركيا، تونس أو مصر؛ فهذه المجتمعات تنخرط في بعض مشاريعهم وليس كلها. تلك هي حدود الإسلاميين المعتدلين، فهم يتطلعون إلى الحكم، يعرفون كيفية الوصول إليه بإقحام عناصر مدسوسة أو بالعمل السياسي والاجتماعي، إلا أنهم لا يحسنون مزاولته بعد الوصول إليه. وحدهم الإسلاميون الأتراك توفقوا في ذلك، فهم يمارسون الحكم منذ عشر سنوات ونتائج عملهم مقنعة، أكسبتهم شهادة رضا جماعية؛ وذلك - ومن المهم أن نسجله - دون أن يبدو عليهم أبدا أنهم يُشكلون تهديدا للديمقراطية في تركيا أو للسلم في المنطقة، رغم التدبير العنيف للمعارضة السياسية الداخلية، للمتمردين الأكراد، ورغم العلاقات المتوترة مع أوروبا إبان المفاوضات من أجل التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي. إلا أن الوقت لا يزال مبكرا لإصدار الحكم حول الوضعية في العالم العربي، ف « الريع العربي « لم يسدل ستاره بعد وعلاقات القوة الجديدة ليست مؤكدة، فالإسلاميون ما زالوا يحكمون في ظل حالة الطوارئ، إلا أنهم يُقَوّون مواقعهم في العمق.
هناك تيارات إسلامية أخرى تلجأ إلى طرق متطرفة، الهجوم، التحرش، تصعيد العنف والرعب للإخضاع المواطنين والحصول على رضوخهم الكلي، الفوري، وهو المسعى الذي سجلنا تطبيقه في الصومال، في أفغانستان، في الجزائر، في شمال مالي خلال خضوعه للقاعدة في بلاد المغرب العربي، في الأقاليم الإسلامية بنيجيريا التي كانت تسيطر عليها جماعة « بوكو حرام « الجهادية.
هذا الصنف من الأفكار المتطرفة موجود في كل المجتمعات، وهي عموما أفكار مهمشة وتحملها أحزاب هي عبارة عن خليط من حيث عناصرها وغامضة من حيث أفكارها، تتسم بميول له اتجاه واحد وهو الانقسام بدافع قضايا تتعلق بالزعامة، ما يمنعها في نهاية المطاف من بلوغ مرتبة وطنية، إلا أننا رأينا، على مر التاريخ، أن هذا النوع من الأحزاب المهمشة يمكنها، في ظل ظروف استثنائية، أن تحقق اتساعا مفاجئا وتشكل تهديدا للمجتمع في قيمه وفي بنياته الأساسية. فمرات عديدة خلال القرن العشرين، لم تكتف هذه الأحزاب بنشر الرعب، بل وصلت إلى الحكم، محدثة المفاجأة لدى الجميع، لفرض احتكارها وتحويل البلاد باتجاه حكم استبدادي، فكبدت البلاد والعالم معاناة لا يمكن قياسها وندوبها لم تندمل بعد. بعد وصولها إلى سدة الحكم، تكشف الأحزاب المتطرفة عن طبيعتها وتُنصّب نفسها كديكتاتورية كلية القدرة.
لقد حدث ذلك، ولم يمض عليه وقت طويل، في بلدان كانت بنياتها السوسيو - سياسية الداخلية مهيأة مسبقا للأمر بكل تأكيد ( مثلا: الثورة الشيوعية سنة 1917 التي وجدت في البنيات الإقطاعية لروسيا والصين بوثقة وخميرة لإنجاب الستالينية والماوية، اللتين كانت حصيلتهما مرعبة، أو الثورة الإسلامية التي حولتها التقاليد العتيقة للمجتمعات المسلمة ( التقاليد التي نحتتها الأنظمة الاستبدادية والفاسدة، الخاضعة لمصالح أجنبية بشعة [ إيران ] ) إلى ديكتاتوريات إسلامية ولدت الحروب الأهلية، الاضطهاد، البؤس والعزلة )؛ إلا أن ذلك حدث أيضا في بلدان حيث لم يكن لمثل تلك الأفكار أي حظ في التخلص من التهميش، في قلب أوروبا حيث صادفت الديمقراطية أزمة 1929 الاقتصادية وفي امتداداتها ما يسهل إنجاب النازية والفاشية؛ لكل هذا ينتابنا القلق في مواجهة التقدم الشرس للنزعة الإسلامية وميولها إلى عدم احتمال أية معارضة وإلى التطرف كلما واجهتها صعوبات لا تتمكن من إيجاد حل لها.
يُقلقنا أكثر كون الحواجز التي كان يُفترض فيها احتواء النزعة الإسلامية أصبحت تعاني الهشاشة. فالإسلام، كديانة موحى بها تُعلم الإنسان « الصراط المستقيم « كما ورد في الفاتحة، أول سورة قرآنية، أصبح غير معروف، وذلك يتزايد، حتى بين المؤمنين الورعين، ولا يدرّس بشكل جيد؛ لم نعد نعرف كيف نستخدم قوته النافعة والمعيارية لمعارضة الأفكار المُميتة التي ينشرها مبشرو الإسلام المتطرف. وهنا يُطرح السؤال: من أين لنا إذن بإسلام الأنوار الذي يقوي المجتمعات الإسلامية، ومن سيُلقنه للمؤمنين؟ أيّ إسلام داع للسلم والتسامح يمكن توقعه من المساجد المرتجلة، السرية، الخارجة عن المراقبة، التي لا تُعلم سوى مذاهب بدائية تمارَس على أشخاص لا معايير لهم أو يعيشون قطيعة مع مجتمعهم؟
إن الديمقراطية سد عظيم، إلا أنها تراجعت حتى في البلدان التي شهدت ميلادها، كما يؤكد ذلك الصعود المتواصل للمتطرفين ولنزعات الامتناع عن التصويت في هذه البلدان، والظهور الملازم لنزعة إسلامية متأتية من الداخل ومَطلبية بشكل ملح، ما يمكن إدراكه، لكنه وأيضا، نتيجة لتلك الارتباطات المتعددة مع الأممية الإسلامية، التي يفتنها العنف ويستهويها الجهاد الدولي بشكل متزايد.
ويندرج كل هذا في سياق عالمي مثير للقلق: أزمة اقتصادية يبدو أنها ستستقر لوقت طويل، بيئة في تدهور مسترسل، تكاثر مستمر لانعدام الأمن والإحساس بعدم الاطمئنان، عولمة لا أخلاق لها تكشف عن نفسها كآلة للمضاربة ولا تخضع بدورها لأية مراقبة مؤسساتية ديمقراطية.
إضافة إلى ذلك، في كل مكان تقريبا، وعلى نحو مفارق في البلدان التي عرفت الديمقراطية منذ القديم، فما هو صحيح سياسيا، المستوحى بفعل الخوف أو القلق لعدم إثارة التوترات بين الجماعات، يُخَلّف الدمار. إنه يَحُول دون النقاش الحقيقي ودون بروز ما يوازن الترهيب الذي يمارسه هذا الطرف أو ذاك. وفي اعتقاد المتطرفين، فإن هذا الاحتراس يُنظر إليه باعتباره دليلا على أن المجتمع مستعد للرضوخ، على أنه يكفي أن ندفعه لكي يتحطم؟
هناك أمثلة تبين كيف يمكن إغلاق باب النقاش. ففي الجزائر، يُعَرّض نطق لفظ « إرهاب «، أمام الملأ، صاحبه لدفع غرامة أو للسجن. والقانون المدعو قانون « المصالحة الوطنية «، وهو قانون للعفو الشامل على الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية، هو الذي ينص على ذلك. ويتم رفع العقوبة إذا أوضح المخالف أكثر وتحدث عن « الإرهاب الإسلامي «. أما في أوروبا، فأشكال العقاب مخاتلة. لاحظ الجميع ذلك وتم الكشف عنه بإلحاح: لم يتلفظ الرئيس الفرنسي هولاند التعبير الأساسي « الإرهاب الإسلامي «، ولو مرة واحدة، أثناء زيارته المظفرة إلى مالي بعد تحرير الفيلق العسكري الفرنسي لمدينة تومبوكتو الأسطورية وطرد الإسلاميين الذين كانوا يحتلونها وشوهوها على نحو خطير؛ وبعدها لم ينطق أي صوت مأذون له في فرنسا تلك الكلمات. « إن باريس تستحق قداسا «، كما قال الملك الطيب هنري السادس حين اعتنق الكاتوليكية لكي يصبح ملكا على فرنسا وعلى نافار. ونحن نتساءل: ضد من تحارب الجنود الفرنسيون، ومن دمر تومبوكتو وقتّل مواطنيها؟ إن هولاند، وهو لا يُسمي الإرهاب الإسلامي باسمه الحقيقي، يخون الجنود الفرنسيين الذين يحاربون في الميدان إسلاميي القاعدة في بلاد المغرب العربي وإسلاميي الحركة من أجل الوحدانية والجهاد في إفريقيا الغربية، يخون الرهائن الفرنسيين المحتجزين لديها، يخون الماليين الذين عانوا تحت سيطرة أولئك الإسلاميين وهم يذكرونهم بالاسم دون تردد أو لبس، ويخون المسلمين الذين يعرفون جيدا من يُلحق الأذى بديانتهم وببلادهم. إنها خيانات كثيرة لن يتمكن أي قداس من إضفاء الشرعية عليها.
« إن عدم تسمية الأشياء بأسمائها، يضيف شقاء إلى شقاء العالم «، يقول ألبير كامي.
هكذا تم إغلاق باب النقاش في كل البلدان، بقوة الترهيب، بالرقابة، بالرقابة الذاتية والاحتياطات الخطابية. بعدها، اختفى النقاش حول الإسلام من الساحات العمومية. علما بأنه ينبغي دراسة الإسلام، مناقشته، استفساره، انتقاده عند اللزوم. كيف يمكن تطوير وضعية المرأة، كيف يمكن عقد الصلح بين الإسلام والحداثة، بين الإسلام والديمقراطية، حقوق وواجبات المؤمن والمواطن، كيف نُلقن الإسلام للشبان الذين هم بصدد البحث عن هويتهم، كيف نُقِيم « عيشا مشتركا « بين المسلمين وغير المسلمين؟ إنها أسئلة لا تزال في انتظار أجوبة منذ قرون، وهي تزداد ملحاحية في العالم الحديث، الذي يُربك العديد من يقينيات الماضي. في إطار هذا النقاش المفتوح والصريح، حول هذه القضايا المحددة، سنتمكن من إيجاد الحجج لإدانة زيف النزعة الإسلامية ودفعها إلى الوراء. علينا القيام بذلك طالما أن النزعة الإسلامية تعلن أنها تستمد شرعيتها من الإسلام وكونها حارسه الأمين و، من خلال ذلك، ادعاء الحق في انتقادنا في إدانتنا وفي قتلنا.
إلا أن معرفة النزعة الإسلامية لا تكفي - وقد وقفنا على صعوبة الإحاطة بمحتوياتها وبمختلف أشكالها، لما عرفته من تغييرات كثيرة مع مرور الوقت -، لأنه ينبغي أيضا معرفة الموجهات التي تنشرها.
1- التيارات الدينية المتطرفة
بدء، هناك تيارات دينية تنحدر من الانشقاقات الأولى التي عرفها الإسلام، والتي تُلقن إسلاما أورثودوكسيا انحدر بدوره من تيارات أوروثودوكسية متطرفة، كالوهابية السعودية، كغصن اورثودوكسي متطرف، في حالة وجوده، وقد انحدر هو أيضا من فرع شديد الأورثودوكسية، الحنبلية، وهي نفسها وليدة النزعة السنية، أول تيار أورثودوكسي للإسلام. من هذا التطور نحو أصولية متطرفة أكثر، وُلدت النزعة الإسلامية خلال القرن العشرين، وهي خليط من الدين والسياسة والثورة. وقد تفرعت عنها تسميات هجينة: الإسلام السياسي، الإسلام الدراديكالي، الجمهورية الإسلامية، الثورة الإسلامية، إلخ.
أما بخصوص اتحاد المغرب العربي، الذي تشكل سنة 1989 بين موريتانيا، المغرب، الجزائر، تونس وليبيا، فإنه لا يزال قائما. إنه تنظيم له مقره في تونس ومكاتب في البلدان الخمس، إلا أنه عبارة عن آلة تدور في الفراغ، ليس له توجه سياسي ولا برنامج، منذ تأسيسه، وذلك بسبب نزوات القدافي، الانقلابات التي شهدتها الجزائر وموريتانيا، الحرب الأهلية في الجزائر، والحرب غير المعلنة بين المغرب والجزائر، بسبب الصحراء «الغربية» التي يعتبرها المغرب أرضا مغربية، بينما تدعم الجزائر نضالها من أجل الاستقلال.
بفعل التحولات التي يشهدها المغرب العربي منذ أحداث « الربيع العربي «، فقد يتحول اتحاد المغرب العربي، الذي يحظى بامتياز التواجد منذ أربعة وعشرين سنة وله هياكل ملائمة، إلى مطية للإسلاميين، الذين يحكمون سلفا بلدين ( المغرب وتونس ) ويمضون باتجاه الحكم في البلدان المغاربية الأخرى ( موريتانيا، الجزائر، ليبيا )، ما يساعدهم على تجسيد حلم بناء وحدة إسلامية قوية تنضم إليها بشكل طبيعي مصر والسودان، وبعدهما سوريا، وستهب فورا ملكيات الخليج لاحتلالها وإخضاعها لوصايتها. لقد ولد الإسلام بشبه الجزيرة العربية، وبها ينبغي أن يحقق إشعاعه، منها ينبغي أن ينطلق لغزو العالم من جديد.
4- يعرف الإسلام، في أوروبا، انتشارا ملحوظا رغم العوائق التي يصادفها في طريقه، وأولها الديمقراطية نفسها التي تَحول دون تطبيق العديد من التعليمات الإسلامية. إن الشباب المسلم والجيلين الثاني والثالث ينخرطون بكثافة وحمية في درب الإسلام، رغم امتلاكهم معرفة أولية عنه، ويهدون إلى الإسلام و بنجاح أصدقائهم المسيحيين. بعضهم يصبح متطرفا، عموما بفضل زيارة إلى بلد مسلم يسافرون إليه بحثا عن الانصلاح. فبيشاور، القاهرة، الجزائر، اصطنبول، كابول، صنعاء، وكذلك لندن، كلها مدن مثلت وجهات لهؤلاء الشباب الذين يبحثون عن معلم يقودهم إلى الله. ويعودون دائما وقد تغيروا بشكل عميق بفضل هذه الأسفار التلقينية.
5- نرى كذلك بأن الإسلام يقتحم العلم والتقنيات الأكثر تقدما، النووي، الإعلاميات، البحث الطبي، الفضائي... لقد خلق له، على نحو لا نقاش فيه، نخبا علمية مسلمة عديدة، على أعلى المستويات، ورعة ومحترمة داخل وسطها، وهي واثقة من أنها تستمد نجاحها من إيمانها وتعتبر نفسها عائدة لخدمة انتشار الإسلام. وللتبشير الذي تزاوله هذه النخبة مفعول كبير. إن نجاحات مسلمي النخبة، حيثما حلوا في العالم، معروفة ويتم تداولها على نطاق واسع، عن طريق الأنترنيت والوعظ. إنها تمثل خير الحجج « الماركوتين « لنشر الهداية في الأوساط الجامعية والتأثير في الشباب. كما يتم إبراز التقدم العلمي الذي تحققه إيران، فهي مؤثرة رغم خضوع البلاد لعقوبات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ويتم الترحيب كذلك بالنجاح العلمي لتركيا، التي يحكمها الإسلاميون، علما بأن نجاحها ليس تجاريا فحسب، إنه اقتصادي، ما يدل على قدرات التدبير الفائقة، المهارة التي ظلت حتى اليوم وقفا على القوى الغربية العظمى. إنها براهين قوية تثبت انسجام الإسلام مع الحداثة وانفتاحه على العالم.
أكثر من ذلك، فقد تم الاعتراف بتركيا باعتبارها عنصر استقرار في المنطقة. ونحن نتساءل بخصوصها: هل تركيا بصدد تحديث الإسلام، أم أن الإسلام هو الذي أخرجها من الديكتاتورية العسكرية ومن أوهام ماضيها العثماني، لتصبح دولة حديثة في ظرف عشر سنوات، وهي تسعى اليوم إلى الاندماج في أوربا دون التنازل عن هويتها الإسلامية؟ إنه بمثابة التطور المدهش أن يرى بلد مسلم مستقبله في الحداثة وفي مناخ مسيحي، في وحدة وثيقة معه، وهو يثبت أن الارتباط القوي بالإسلام الذي لا يُخيفُه الانفتاح، بل يحتاج الانفتاح لمواجهة المرحلة ويبين هذا أن الإسلام يبحث عن عمق استراتيجي للانتشار في فضاء ديمقراطي ولائكي يتعذر عليه أن يرفضه أو يقاومه. هنا فقط يمكن للإسلام أن يدمج، أن يتمثل وأن يحول الحداثة والديمقراطية ويجعلهما في خدمة انتشاره. لم يتمكن العالم الإسلامي منذ مدة، منذ مدة طويلة جدا، أن يوفر لتركيا هذه المطية. وإذا ما فكرنا في الأمر، فالعنف الإسلامي ليس أمامه مستقبل كبير وهو لا ييسر، في جميع الأحوال، بلوغ هذه الأهداف مجتمعة. إن لتركيا على العرب، سواء كانوا ديمقراطيين، قوميين، إسلاميين معتدلين أو متطرفين، تأثير كبير. إنهم ملايين ينتظرون سنويا زيارتها لكي يقفوا بأنفسهم على هذه المعجزة الإسلامية.
نتذكر كذلك، على سبيل المثال، السنيغال، ماليزيا، اندونيسيا، حيث يتعايش الإسلام مع الحداثة والتعددية الدينية، ولا يسمح لا بتجاوزه ولا بتأليته من قبل الأنظمة أو من قبل الإسلاميين المتطرفين.
بالنسبة لإيران، يظل الحكم محفوظا، فتورطها المزعوم في الإرهاب يُقلق العرب ( يعتقدون أن ذلك لا يخدم قضية الإسلام، بل يخدم مصالح إيران الشيعية على حساب الأمة العربية السنية )، إلا أن الاتهام الموجه إلى برنامجها النووي، الذي سيصبح عسكريا، ليس مؤكدا. فمقاومتها وحزمها في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، أكسباها تعاطف عدد كبير من المسلمين، كما أن دعمها لأبطال آخرين يخدمون القضية العربية، حزب الله وحماس، يحسبا لها إيجابيا، ولو أن انفلاق السنة / الشيعة المتعلق بالشرق الأوسط (لا وجود لمواطنين شيعيين في المغرب العربي ) لا يتوقف عن الاتساع، خاصة منذ الحرب بين العراق وإيران وانطلاق البرنامج النووي الإيراني الذي يرى العرب أنه قد ينقلب ضدهم في يوم من الأيام. فالحقد القديم والمتعذر إيجاد حل له بين الفرس والعرب، الشيعيين والسنيين، لا يزال قائما، إنه تحت المراقبة إلى أنه مترسخ. ومهما حدث، فالإجماع حاصل بين المسلمين لإدانة إسرائيل أولا، القوة العسكرية والنووية المؤكدة، وأن ينسبوا لسياستها الداعية إلى الحرب تجاه العرب حالة الحرب في المنطقة، وبعدها أمريكا، حليفها الدائم. إن المسلمين يتحدثون باستمرار عن ظلم « الكيل بمكيالين « لتبرير دعمهم لإيران في صراعها مع الغرب.
ما سبق قوله، والذي يقدم صورتين عن الإسلام، صورة سلبية جدا وأخرى إيجابية بالأحرى، يثبت أننا لا نفهم الظواهر التي تتضمن يقظة وانتشار الإسلام وتطرف شرائح هامة من المجموعة الإسلامية، التطرف الذي عرف انطلاقته في بلدان المغرب العربي والشرق الأوسط منذ حوالي ثلاثين سنة وتأكد بطريقة جلية وغير متوقعة إلى حد ما خلال « الربيع العربي «.
أما في أوروبا،، فإن التطرف الذي يكتسح البلدان بين الشباب المسلمين من الجيلين الثاني والثالث، من الشباب الأوروبيين الذين اهتدوا إلى الإسلام غير قابل للتفسير وغير مفسر. فقد سبرت المناقشات كل المسالك، وقد تمت المحاولات كلها للتخفيف من حدة التوترات وإنعاش « عيش مشترك « جديد، إلا أن ذلك لم يحصل. لقد بلغت الوضعية حد القطيعة، فعلى تطرف البعض يرد تطرف البعض الآخر. إن الطلاق، إذا ما سبق أن كان هناك زواج، بين المجموعة المسلمة والمجموعة الوطنية يرتسم خلف العمل المتزاوج للراهنية وعمل المتطرفين من كل الجات.
إن ظاهرة يقظة الإسلام وتطرف العديد من المؤمنين، يظل صعب الفهم لأن التطور السابق للإسلام تم دون علم الجميع. كان هناك ما يشبه فعل المفاجأة الذي ضلل الكل. كان الإسلام يعيش فترة سبات وانحطاط منذ قرون (منذ القرن الحادي عشر حسب بعض المختصين )، ولم يكن يحظى بأي اهتمام في أوروبا، ماعدا من طرف قلة من الجامعيين؛ وفي العالم الإسلامي، عرفت الأنظمة الإقطاعية الحاكمة كيف تُبقيه، بتبصر، في وضعية التدهور والجهل لكي تتمكن من مراقبة مواطنيها أكثر.
وجاء الاستعمار الأوربي للبلدان الإسلامية خلال القرن التاسع عشر، ثم التوجه الاشتراكي الذي تبنته معظم البلدان المسلمة بعد الحصول على الاستقلال (مصر، سوريا، العراق، تونس، اليمن، ليبيا، السودان، اندونيسيا، الجزائر، مالي، غينيا، النيجر، أفغانستان، ألبانيا...) للرفع من وتيرة امحائه. في هذه البلدان الاشتراكية، الثورية والعالم ثالثية بالأحرى، كان يُنظر إلى الدين باعتباره « أفيون الشعوب « حسب تعبير كارل ماركس، وتعرض المعارضون الإسلاميون القلائل للقمع، أُجبروا على المنفى كالإيراني الخوميني والتونسي الغنوشي، للسجن كالجزائريين عباسي مداني وعلي بلحاج، مؤسسي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أو الاغتيال كالمصري حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، أو حُكموا بالإعدام ونفذ فيهم كسيد قطب، إيديولوجي الإخوان المسلمين. خلال هذه الفترة كلها، انتقلت النزعة الإسلامية المتطرفة إلى السرية، حيث تم استقطابها وتأليتها من قبل مختلف الأطراف، الولايات المتحدة الأمريكية، ملكيات الخليج المحافظة، لتشكيل عائق في وجه الشيوعية التي كانت تشجعها موسكو. كما نسجت النزعة علاقات مع الجماعات الإرهابية من اليسار المتطرف ومع كبار تجار المخدرات والسلاح.
بعدما اختفى من رادار التاريخ، بعدما احتكره الغرب المسيحي منذ العصر الوسيط، كيف تمكن الإسلام، خلال فترة وجيزة، بعد جيل أو جيلين، من العودة إلى الواجهة بهذه القوة وهذه اليقينيات التي تجرف كل ما يصادفها في الطريق؟ إن رفض الحضارة الغربية، التي فقدت مصداقيتها بسبب حروبها، من بينها حربان عالميتان بشعتان، استعمارها العنصري ورأسماليتها الاستغلالية، لا يفسر كل شيء. لا بد من العودة إلى الوراء وإعادة قراءة الخطاب القرآني للوقوف على ما هيأ لتطور من هذا النوع.
إذا كانت يقظة الإسلام تجد ترجمتها في استرجاع الورع بالنسبة للمؤمنين والرجوع إلى قيم الإسلام الأولى، المسعى المعروف بالسلفية، فالإسلاميون يضيفون تطلعا إلى الحكم الاستبدادي والتوليتارى على المجتمع، الذي يمارسون عليه قبليا ضغطا قويا، متواصلا، متعدد الأشكال، مرهبا، وعلى مؤسسات الدولة التي يطوقونها بمطالب لا تنتهي. كما لا تفارقهم الرغبة في معاقبة الذين أوصلوا الإسلام إلى حالة التدهور، الذين قسموا الأمة واحتقروها، أي الغرب والذين ينوبون عنه في العالم الإسلامي، السلطات العربية الفاسدة، المثقفين المستغربين المتأهبين لقدح الإسلام. والهدف من ذلك إعادة بناء الخلافة، تحت إدارة عربية، والانطلاق في غزو العالم من جديد. إن النتيجة واضحة، في العديد من الجهات، هنا وهناك تتشكل مجموعات تعيش بناء على القواعد الصارمة للإسلام الأورثودوكسي، وقد تمكنت من الوصول إلى الحكم في العديد من البلدان العربية. هذه النجاحات التاريخية تثير بعض الميولات وتقوم مقام النماذج.
إن انطلاقة النزعة الإسلامية ووصولها إلى الحكم في العديد من البلدان العربية، يشكلان قلقا طالما أننا نعتقد أن انتصار النزعة الإسلامية، التي تُنعت بالمعتدلة، يهيئ لوصول النزعة الإسلامية المتطرفة إلى الحكم وأن هناك ذكاء في المناورة يتمتع بوسائل غير محدودة. إن الحقيقة والاستيهام يلتقيان بالتالي للتعتيم على التحليل. ففي دور من يعمل على تسوية الوضع مؤقتا، نجد إيران، العربية السعودية، قطر، أو تنظيمات لها آلاف التفرعات كالإخوان المسلمين، أو الولايات المتحدة الأمريكية التي لعبت دورا بارزا في انتشار النزعة الإسلامية وتوجهها نحو الجهاد لخدمة المخططات ألأمريكية خلال الحرب الباردة واستراتيجيتها الرامية إلى مراقبة حقول البترول في العالم العربي. فيما يخص الدور الخاص الذي لعبته قطر، يمكن أن نقرأ باهتمام كتاب كريستيان شينو وجورج مالبرينو، صحافيي الروبورتاجات الفرنسيين الذين احتجزا طيلة مائة وأربعة وعشرين يوما من طرف الجيش الإسلامي في العراق، والكتاب عنوانه « قطر. أسرار الخزانة «، صادر عن منشورات ميشيل لافون سنة 2013 . حسب الكاتبان، لعبت قطر دورا في تحريرهما.
إلا أننا نعرف كذلك أن تطور النزعة الإسلامية المتطرفة كانت وراءه أيضا الديكتاتوريات العربية التي شجعتها لموازنة المطالب الديمقراطية التي كانت ترتفع وسط المجتمع، تحملها نساء، طلبة ونقابات عمالية، نتيجة للفشل البين لنموذج التنمية الاشتراكية المستعار عن النظام السوفياتي. هناك أيضا الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني الذي تشكل حوله مخيال مدهش، وهناك العولمة التي تُولد فقدانا مؤلما للبوصلة بالنسبة للذين لم يستعدوا لذلك والذين يشعرون أنه لا مكان لهم في هذه الترسيمة الجديدة.
كلها عوامل ينبغي مساءلتها. إذا لم نكن نعرف تطور الإسلام في الماضي، وتطور العالم الإسلامي في تفاعلاته مع بقية العالم، منذ الحروب الصليبية وحتى المرحلة الاستعمارية، مرورا بالغزوات المسيحية ، نهاية الخلافة العربية وبعدها الخلافة العثمانية التي وضع كمال أتاتورك حدا لها، وخلق إسرائيل، كمعطيات يحيل عليها العالم العربي - الإسلامي باستمرار، فلن نتمكن من التنبؤ بالتطور القادم، على الأٌقل الإلمام بالأهداف الواقعية إلى حد ما، الأسطورية إلى حد ما، التي اتبعها المسلمون من جهة والإسلاميون المتطرفون من جهة أخرى، علما بأن هذه الأهداف ليست هي نفسها بالضرورة. بذلك، فإن إعادة بناء الخلافة التي ستحكم العالم الإسلامي هدف قوي بالنسبة للإسلاميين المتطرفين، وهو بالنسبة للمسلمين البسطاء حكاية من الماضي، فالمفاهيم الحديثة للأمة، الدولة ومفهوم القانون الوضعي عوضت بقوة مفهوم الأمة الأسطوري الذي ستحكم فيه الأمة، مجموعة كل المسلمين في العالم كله، بالشريعة.
خلال الثلاثين سنة الماضية، تغيرت وجهة النظر إلى النزعة الإسلامية أربع مرات على الأقل، ما حال دون تكوين رؤية واضحة إلى واقع وإلى مثابرة ظاهرة التطرف التدريجي الذي يفعل فيها من الداخل.
1- تم النظر إلى النزعة الإسلامية بتعاطف في البداية. رأينا في هذا الإسلام المتجدد، المطالب، المقاوم، الوسيلة التي تُمكن الشعوب المسلمة من التحرر من الديكتاتوريات التي كانت تضطهدها و، بالتالي، الإفلات من تأثير موسكو والتقرب من الغرب. وبنفس التعاطف تم تتبع مغامرة المجاهدين الأفغان وهم يطردون السوفيات من بلادهم، مغامرة « المُلات « وهم يقلبون نظام الشاه، مغامرة الإسلاميين الجزائريين وهم يواجهون ديكتاتوريات الجنيرالات. كان الناس يتحدثون عن إسلام محرر، تحرري.
2- نظرنا إليه، بعد ذلك، بشيء من القلق. لقد تغير الإسلام تحت تأثير الإسلاميين وأصبح مرادفا للتدهور. فبسبب صرامتهم وتعصبهم، دخل الإسلاميون في صراع مع المجتمع الذي كان يتطلع إلى عيش أفضل، مستهدفين بشكل واضح النساء، المثقفين، الفنانين، الشواذ جنسيا، الأجانب اليهود والمسيحيين. كانت صور طالبان وهم يرجمون النساء، يقتلون لأجل نعم أو لا، يدمرون التراث التاريخي للبلاد (تدمير تماثيل بوذا العملاقة بمدفع)، تُحدث الاضطراب في العالم وتثيره.
3- تحول القلق إلى رعب حين لجأ الإسلاميون إلى العنف المسلح لمراقبة المجتمع ونشر الذعر حيثما أمكنهم ذلك في العالم.
4- في مرحلة رابعة، وهي المرحلة الراهنة، أصبحت السيادة للغضب وللمواجهة. لقد تراجع الإرهاب أمام التقوية الخانقة للتدابير الأمنية في جميع البلدان، إلا أن النزعة الإسلامية المتطرفة غيرت استراتيجيتها، إنها تتجدر في كل مكان، في البلدان الإسلامية وحتى في قلب الغرب. لقد خلقت توترات كبيرة في المجتمعات التي أصبحت بذلك تحت تهديد التمزق. إنها استراتيجية الدودة في الفاكهة.
يبدو أنه سيتم، في المرحلة القادمة، تجريم الإسلام وليس النزعة الإسلامية وحدها. الأمر الذي سيُضفي المصداقية على الفرضية العزيزة لدى صامويل هانتيغتون، التي استعارها ونفذها جورج والتر بوش، القائلة بكون العالم يعيش صدمة حضارات وليس فقط حربا ضد النزعة الإسلامية المتطرفة والإرهاب. وتدخل هذه الرؤية التاريخية والقيامية فعلا في تصور وسعي المتطرفين من الجهتين.
ينبغي النظر إلى هذه الاعتبارات كلها، بطريقة تمكن من ضبط الأمور بين الواقع وما نحسه من هذا الواقع. ويمكن أن يكون المحسوس به، هنا، مبالغا فيه، بما أن الخوف يغذي الخوف، لأنه ينظر إلى الواقع بمكبرة مشوهة ومضخمة، والمحسوس به، هنا، يقلل من الواقع لنقص في المعلومات أو بدافع الحاجة للطمأنينة. هناك هدوء خادع، مثلما هناك عواصف عابرة ومحلية. وهذا التمييز هو ما ينبغي أن ننكب عليه، ويتم ذلك من خلال معرفة أفضل للأسس المتعلقة بالموضوع. وذلك ما نأمل الإسهام فيه.
مُوجهات النزعة الإسلامية
ليست النزعة الإسلامية، في ذاتها، عبثية ولا خطيرة بالفعل. إنها تيار ديني أورثودوكسي متطرف يهدف إلى التغيير الجذري للبلدان الإسلامية، بل للعالم، على المستويات الدينية، السياسية، الاجتماعية، الثقافية، مثلما سبق للمجتمعات البشرية أن عرفت ذلك ولا تزال تعرفه، والذي نعرف كيفية احتوائه إذا ما تم التعامل معه في وقت مبكر، بمواجهته بالأفكار والبرامج الملائمة.
في معظم التيارات الإسلامية، يتم السعي إلى التغيير المجتمعي باعتماد وسائل كلاسيكية، سلمية بالأحرى - الوعظ، اللعبة السياسية، العمل الخيرى والتكافل، التربية-، ومن خلال إقحام عناصر مدسوسة في المؤسسات الوطنية الكبرى (الجيش، العدالة، التربية، الجامعات...) وكذلك التنظيمات المدنية بما فيها جمعيات الصغيرة بالأحياء ، التقنية التي يُتقنها الإسلاميون الذين يُنعتون بالمعتدلين، على أعلى مستوى، ما جعلهم يجعلون منها سلاحهم المفضل: أثبت هذا السلاح فعاليته في سياقات مختلفة. وهم، في هذه اللعبة، يُشبهون السمك في الماء. علاوة على ذلك، فهم يظهرون بسمات المتحضرين والودودين مقارنة مع المتطرفين الذين لا يعرفون سوى العنف. عبر هذه الطريق، وصل كل من حزب العدالة والتنمية في تركيا، النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر إلى الحكم، ومع ذلك نلاحظ بشكل يومي أن التغيير المجتمعي الذين كانوا يرغبون فيه ليس مقبولا بالضرورة من قبل مجتمعات تركيا، تونس أو مصر؛ فهذه المجتمعات تنخرط في بعض مشاريعهم وليس كلها. تلك هي حدود الإسلاميين المعتدلين، فهم يتطلعون إلى الحكم، يعرفون كيفية الوصول إليه بإقحام عناصر مدسوسة أو بالعمل السياسي والاجتماعي، إلا أنهم لا يحسنون مزاولته بعد الوصول إليه. وحدهم الإسلاميون الأتراك توفقوا في ذلك، فهم يمارسون الحكم منذ عشر سنوات ونتائج عملهم مقنعة، أكسبتهم شهادة رضا جماعية؛ وذلك - ومن المهم أن نسجله - دون أن يبدو عليهم أبدا أنهم يُشكلون تهديدا للديمقراطية في تركيا أو للسلم في المنطقة، رغم التدبير العنيف للمعارضة السياسية الداخلية، للمتمردين الأكراد، ورغم العلاقات المتوترة مع أوروبا إبان المفاوضات من أجل التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي. إلا أن الوقت لا يزال مبكرا لإصدار الحكم حول الوضعية في العالم العربي، ف « الريع العربي « لم يسدل ستاره بعد وعلاقات القوة الجديدة ليست مؤكدة، فالإسلاميون ما زالوا يحكمون في ظل حالة الطوارئ، إلا أنهم يُقَوّون مواقعهم في العمق.
هناك تيارات إسلامية أخرى تلجأ إلى طرق متطرفة، الهجوم، التحرش، تصعيد العنف والرعب للإخضاع المواطنين والحصول على رضوخهم الكلي، الفوري، وهو المسعى الذي سجلنا تطبيقه في الصومال، في أفغانستان، في الجزائر، في شمال مالي خلال خضوعه للقاعدة في بلاد المغرب العربي، في الأقاليم الإسلامية بنيجيريا التي كانت تسيطر عليها جماعة « بوكو حرام « الجهادية.
هذا الصنف من الأفكار المتطرفة موجود في كل المجتمعات، وهي عموما أفكار مهمشة وتحملها أحزاب هي عبارة عن خليط من حيث عناصرها وغامضة من حيث أفكارها، تتسم بميول له اتجاه واحد وهو الانقسام بدافع قضايا تتعلق بالزعامة، ما يمنعها في نهاية المطاف من بلوغ مرتبة وطنية، إلا أننا رأينا، على مر التاريخ، أن هذا النوع من الأحزاب المهمشة يمكنها، في ظل ظروف استثنائية، أن تحقق اتساعا مفاجئا وتشكل تهديدا للمجتمع في قيمه وفي بنياته الأساسية. فمرات عديدة خلال القرن العشرين، لم تكتف هذه الأحزاب بنشر الرعب، بل وصلت إلى الحكم، محدثة المفاجأة لدى الجميع، لفرض احتكارها وتحويل البلاد باتجاه حكم استبدادي، فكبدت البلاد والعالم معاناة لا يمكن قياسها وندوبها لم تندمل بعد. بعد وصولها إلى سدة الحكم، تكشف الأحزاب المتطرفة عن طبيعتها وتُنصّب نفسها كديكتاتورية كلية القدرة.
لقد حدث ذلك، ولم يمض عليه وقت طويل، في بلدان كانت بنياتها السوسيو - سياسية الداخلية مهيأة مسبقا للأمر بكل تأكيد ( مثلا: الثورة الشيوعية سنة 1917 التي وجدت في البنيات الإقطاعية لروسيا والصين بوثقة وخميرة لإنجاب الستالينية والماوية، اللتين كانت حصيلتهما مرعبة، أو الثورة الإسلامية التي حولتها التقاليد العتيقة للمجتمعات المسلمة ( التقاليد التي نحتتها الأنظمة الاستبدادية والفاسدة، الخاضعة لمصالح أجنبية بشعة [ إيران ] ) إلى ديكتاتوريات إسلامية ولدت الحروب الأهلية، الاضطهاد، البؤس والعزلة )؛ إلا أن ذلك حدث أيضا في بلدان حيث لم يكن لمثل تلك الأفكار أي حظ في التخلص من التهميش، في قلب أوروبا حيث صادفت الديمقراطية أزمة 1929 الاقتصادية وفي امتداداتها ما يسهل إنجاب النازية والفاشية؛ لكل هذا ينتابنا القلق في مواجهة التقدم الشرس للنزعة الإسلامية وميولها إلى عدم احتمال أية معارضة وإلى التطرف كلما واجهتها صعوبات لا تتمكن من إيجاد حل لها.
يُقلقنا أكثر كون الحواجز التي كان يُفترض فيها احتواء النزعة الإسلامية أصبحت تعاني الهشاشة. فالإسلام، كديانة موحى بها تُعلم الإنسان « الصراط المستقيم « كما ورد في الفاتحة، أول سورة قرآنية، أصبح غير معروف، وذلك يتزايد، حتى بين المؤمنين الورعين، ولا يدرّس بشكل جيد؛ لم نعد نعرف كيف نستخدم قوته النافعة والمعيارية لمعارضة الأفكار المُميتة التي ينشرها مبشرو الإسلام المتطرف. وهنا يُطرح السؤال: من أين لنا إذن بإسلام الأنوار الذي يقوي المجتمعات الإسلامية، ومن سيُلقنه للمؤمنين؟ أيّ إسلام داع للسلم والتسامح يمكن توقعه من المساجد المرتجلة، السرية، الخارجة عن المراقبة، التي لا تُعلم سوى مذاهب بدائية تمارَس على أشخاص لا معايير لهم أو يعيشون قطيعة مع مجتمعهم؟
إن الديمقراطية سد عظيم، إلا أنها تراجعت حتى في البلدان التي شهدت ميلادها، كما يؤكد ذلك الصعود المتواصل للمتطرفين ولنزعات الامتناع عن التصويت في هذه البلدان، والظهور الملازم لنزعة إسلامية متأتية من الداخل ومَطلبية بشكل ملح، ما يمكن إدراكه، لكنه وأيضا، نتيجة لتلك الارتباطات المتعددة مع الأممية الإسلامية، التي يفتنها العنف ويستهويها الجهاد الدولي بشكل متزايد.
ويندرج كل هذا في سياق عالمي مثير للقلق: أزمة اقتصادية يبدو أنها ستستقر لوقت طويل، بيئة في تدهور مسترسل، تكاثر مستمر لانعدام الأمن والإحساس بعدم الاطمئنان، عولمة لا أخلاق لها تكشف عن نفسها كآلة للمضاربة ولا تخضع بدورها لأية مراقبة مؤسساتية ديمقراطية.
إضافة إلى ذلك، في كل مكان تقريبا، وعلى نحو مفارق في البلدان التي عرفت الديمقراطية منذ القديم، فما هو صحيح سياسيا، المستوحى بفعل الخوف أو القلق لعدم إثارة التوترات بين الجماعات، يُخَلّف الدمار. إنه يَحُول دون النقاش الحقيقي ودون بروز ما يوازن الترهيب الذي يمارسه هذا الطرف أو ذاك. وفي اعتقاد المتطرفين، فإن هذا الاحتراس يُنظر إليه باعتباره دليلا على أن المجتمع مستعد للرضوخ، على أنه يكفي أن ندفعه لكي يتحطم؟
هناك أمثلة تبين كيف يمكن إغلاق باب النقاش. ففي الجزائر، يُعَرّض نطق لفظ « إرهاب «، أمام الملأ، صاحبه لدفع غرامة أو للسجن. والقانون المدعو قانون « المصالحة الوطنية «، وهو قانون للعفو الشامل على الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية، هو الذي ينص على ذلك. ويتم رفع العقوبة إذا أوضح المخالف أكثر وتحدث عن « الإرهاب الإسلامي «. أما في أوروبا، فأشكال العقاب مخاتلة. لاحظ الجميع ذلك وتم الكشف عنه بإلحاح: لم يتلفظ الرئيس الفرنسي هولاند التعبير الأساسي « الإرهاب الإسلامي «، ولو مرة واحدة، أثناء زيارته المظفرة إلى مالي بعد تحرير الفيلق العسكري الفرنسي لمدينة تومبوكتو الأسطورية وطرد الإسلاميين الذين كانوا يحتلونها وشوهوها على نحو خطير؛ وبعدها لم ينطق أي صوت مأذون له في فرنسا تلك الكلمات. « إن باريس تستحق قداسا «، كما قال الملك الطيب هنري السادس حين اعتنق الكاتوليكية لكي يصبح ملكا على فرنسا وعلى نافار. ونحن نتساءل: ضد من تحارب الجنود الفرنسيون، ومن دمر تومبوكتو وقتّل مواطنيها؟ إن هولاند، وهو لا يُسمي الإرهاب الإسلامي باسمه الحقيقي، يخون الجنود الفرنسيين الذين يحاربون في الميدان إسلاميي القاعدة في بلاد المغرب العربي وإسلاميي الحركة من أجل الوحدانية والجهاد في إفريقيا الغربية، يخون الرهائن الفرنسيين المحتجزين لديها، يخون الماليين الذين عانوا تحت سيطرة أولئك الإسلاميين وهم يذكرونهم بالاسم دون تردد أو لبس، ويخون المسلمين الذين يعرفون جيدا من يُلحق الأذى بديانتهم وببلادهم. إنها خيانات كثيرة لن يتمكن أي قداس من إضفاء الشرعية عليها.
« إن عدم تسمية الأشياء بأسمائها، يضيف شقاء إلى شقاء العالم «، يقول ألبير كامي.
هكذا تم إغلاق باب النقاش في كل البلدان، بقوة الترهيب، بالرقابة، بالرقابة الذاتية والاحتياطات الخطابية. بعدها، اختفى النقاش حول الإسلام من الساحات العمومية. علما بأنه ينبغي دراسة الإسلام، مناقشته، استفساره، انتقاده عند اللزوم. كيف يمكن تطوير وضعية المرأة، كيف يمكن عقد الصلح بين الإسلام والحداثة، بين الإسلام والديمقراطية، حقوق وواجبات المؤمن والمواطن، كيف نُلقن الإسلام للشبان الذين هم بصدد البحث عن هويتهم، كيف نُقِيم « عيشا مشتركا « بين المسلمين وغير المسلمين؟ إنها أسئلة لا تزال في انتظار أجوبة منذ قرون، وهي تزداد ملحاحية في العالم الحديث، الذي يُربك العديد من يقينيات الماضي. في إطار هذا النقاش المفتوح والصريح، حول هذه القضايا المحددة، سنتمكن من إيجاد الحجج لإدانة زيف النزعة الإسلامية ودفعها إلى الوراء. علينا القيام بذلك طالما أن النزعة الإسلامية تعلن أنها تستمد شرعيتها من الإسلام وكونها حارسه الأمين و، من خلال ذلك، ادعاء الحق في انتقادنا في إدانتنا وفي قتلنا.
إلا أن معرفة النزعة الإسلامية لا تكفي - وقد وقفنا على صعوبة الإحاطة بمحتوياتها وبمختلف أشكالها، لما عرفته من تغييرات كثيرة مع مرور الوقت -، لأنه ينبغي أيضا معرفة الموجهات التي تنشرها.
1- التيارات الدينية المتطرفة
بدء، هناك تيارات دينية تنحدر من الانشقاقات الأولى التي عرفها الإسلام، والتي تُلقن إسلاما أورثودوكسيا انحدر بدوره من تيارات أوروثودوكسية متطرفة، كالوهابية السعودية، كغصن اورثودوكسي متطرف، في حالة وجوده، وقد انحدر هو أيضا من فرع شديد الأورثودوكسية، الحنبلية، وهي نفسها وليدة النزعة السنية، أول تيار أورثودوكسي للإسلام. من هذا التطور نحو أصولية متطرفة أكثر، وُلدت النزعة الإسلامية خلال القرن العشرين، وهي خليط من الدين والسياسة والثورة. وقد تفرعت عنها تسميات هجينة: الإسلام السياسي، الإسلام الدراديكالي، الجمهورية الإسلامية، الثورة الإسلامية، إلخ.
ينبغي القول بأن القرن العشرين، بالنظر للانهيار الاقتصادي العالمي القاسي ( أزمة 1929 )، حربين عالميتين كبيرتين ثم، بفعل صدمة الاستعمارات الغربية، انهيار آخر خلافة، الخلافة العثمانية، العمود الفقري لما تبقى من الامبراطورية الإسلامية، كان [القرن العشرين] مواتيا لكل الأحقاد، لكل التغييرات التي لحقت البنيات، لكل مظاهر التطرف. لم يسبق لأي قرن أن حمل هذا الكم من الحزن، أن سبّب هذا الكم من البؤس وخلّف هذه الأعداد من القتلى والجرحى. لقد رأى فيه رجال الدين علامة على تغير الأزمنة وأنهم معنيون بهذا الخصوص. لنذكر بأن الخليفة هو، في الوقت نفسه، رئيس الدولة، زعيم روحي وهو، بوجه الخصوص، خليفة النبي فوق الأرض. لذلك، فإن اختفاء الخلافة وتفكك العالم الإسلامي، اقتسامه بين القوى الاستعمارية الأوروبية، جعلا الإسلام في وضعية شغور التركة ولعبة الأنظمة الإقطاعية. وهو في فكر الإسلاميين، عالم مثالي انهار بسبب خطأ ارتكبه الغربيون وقصور الحكام المسلمين.
إلا أن الإسلاميين، في الحقيقة، متقلبون وانتهازيون، ينتفعون كما يطيب لهم من شجرة الإسلام الهائلة، يستعيرون هذا من هذا التيار (السني أو الشيعي )، ذاك من تلك الطائفة أو ذلك المذهب ( الوهابية، مختلف الحركات الإصلاحية كحركة علماء الجزائر للشيخ ابن باديس...)، أو من تلك الحقبة المجيدة من تاريخ العرب، أو من ذلك التيولوجي أو العلامة ( من القدماء أمثال البخاري، ابن تيمية، ابن تومرت، ومن المعاصرين كجمال الدين الأفغاني، حسن البنا، السيد قطب أو سعيد رمضان الذي يُسيّر أحد أبنائه، هادي، اليوم المركز الإسلامي بجنيف، والثاني، طارق، المختص المشهور في شؤون الإسلام ومستشار العديد من المؤسسات الوطنية والدولية - وهما أيضا حفيدا حسن البنا، أو السيد أبو المدودي، أو يوسف القرضاوي، الزعيم الروحي للإخوان المسلمين الذي يُفتي اليوم انطلاقا من قطر ومن الجزيرة، التلفزة المنارة بالنسبة للعالم العربي والإسلامي...)، كما ينهلون من كبار شيوخ الأزهر الذين يُعتبرون حجة في الفقه، وفي حالة رفض هؤلاء المسلمين (ما يفعلونه أحيانا، وذلك شرف لهم لأن رفض طلب الطغاة العرب أو الإسلاميين أمر خطير )، فإنهم يلتجئون إلى مفسرين لا وعي لديهم ولا مؤهلات ولا يترددون في ارتكاب أخطاء في حق الكتب المنزلة لجعلها في خدمتهم، ولفرض اسمهم في الوسط الجهادي الذي يبحث دائما عن مرشدين جدد، عن أبطال جدد. إن الإسلاميين يُطبقون نوعا من الخدمة الذاتية الانتهازية التي تُيَّسر لهم التكيف مع كل الوضعيات. لذلك نجد أن مهاجمة مواطنين عزل، بينهم نساء وأطفال، أُضفيت عليه الشرعية باعتباره حربا مقدسة، جهادا مقدسا، من قبل مفسرين لم يخونوا فقط التعاليم الواضحة للقرآن والرسول في المجال، بل يلتجئون في برهنتهم إلى أحاديث اعتبرت غير صحيحة من طرف تيارات الإسلام المهمة، أي إلى أحاديث مزيفة صُنِعت لخدمة الظرف، حول فكرة: من ليس معنا فهو ضدنا وينبغي محاربته وإبادته، هو ورعاعه. ذلك ما أعلنه إسلاميو الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، وهو ما اضطلع به الإسلاميون الآخرون. وقد رد النظام على ذلك بالطريقة نفسها: من ليس منا فهو ضدنا وينبغي إبادته.
إن نزعة اليوم الإسلامية خليط ركام شاسع من الصعب أن نتعرف على أنفسنا بداخله - يصعب ذلك على المختص نفسه -، أن نقف عند الروابط التي تصل بين هذه البنيات المختلفة وأي تنسيق يوجد بين التنظيمات الإسلامية المتعددة، لأنها لا تُعرف نفسها أبدا باعتبارها إسلامية بل مسلمة، وهي في معظم الأحيان، بل في الأحيان كلها، لا تُورد أي هدف سياسي في مهامها الرسمية. بالإضافة إلى ذلك، فالبنيات المشكَّلة بطريقة مهيكلة تمتد في الغالب في بنيات غير مهيكلة. هكذا، يمكن أن تنجدب إلى مؤسسة إسلامية كلاسيكية مهيكلة، غير مؤذية، مسجد على سبيل المثال، عدة بنيات دينية، تربوية، تجارية، مالية، بعضها قائم بشكل مهيكل، والباقي بدون وضعية قانونية، بإمكان كل واحدة منها أن تمتد في بنيات أخرى، دائمة إلى حد ما، مهيكَلة إلى حد ما، بل سرية، دون رابط عضوي يصل بينها إلا أنها تُشكل مجتمعة جسدا حيا ليس له شكل محدد، يجوبه مع ذلك نفس السائل العصبي وله أهداف دقيقة. بداخل الحركية الإسلامية، نجد أن التحالفات بين مختلف الجماعات تعْقَد وتحل بناء على كلمة، على مكالمة هاتفية. وبناء على ذلك، يتم تغيير الاسم، القائد، المكان، ما يُعَقّد إيجاد أثر لها.
بفعل منحى خاص بالعالم العربي الذي ينزع إلى مضاعفة البنيات الدينية لإثبات إيمانه والتزامه (يشكل التعصب أصليا جزء من الكون الإسلامي )، إلا أن ذلك يرجع أيضا إلى تنظيمه القبلي، كل قبيلة تعمل لحسابها الخاص بها، ولدوافع أمنية، يتم في الغالب تبطين الشبكات بشبكات أخرى، نشيطة أو نائمة، متناقضة أو متكاملة. إن العالم الإسلامي حركي وارتكاسي جدا، يُعدّد الحِرف بناء على متطلبات كل يوم، يتطور باستمرار، رغم أنف الظروف، رغم أنف شخصية القادة الذين يفكرون كما لو كانوا قادة حربيين، كما لو كانوا تجارا، مربين، مرشدين أو مفسرين. ولا ينبغي أن ننسى بأن الإسلاميين يُكرّسون كل وقتهم أولويا لأنشطة مناضلة داخل البنيات التي ينخرطون فيها. الدين والجهاد قبل أي شيء آخر. بتناولهم هذه الجرعة، يتملكهم نوع من الافتتان المأتمي الذي يصيبهم بالخرس في التعامل مع العالم. ربما، من هنا مصدر تسميتهم « مجانين الله «، التسمية التي يُنعتون بها في الغالب.
كما يحدث أن نجد عدة مساجد في الحي الواحد، مع العلم أن مسجدا واحدا يكفي حاجيات جميع السكان المحليين. لا نجد تفسيرا عقلانيا لهذا الغلو، فهو ناتج عن تنافسية تاريخية بين تيارات مختلفة، كل تقليد يرغب في أن يحمل مسجده اسم إمام ينتمي إلى مذهبه، كما يمكنه أن ينجم عن منافسة بين مختلف مكونات ساكنة الحي، كل مكون يريد فضاء للتجمع والصلاة يكون خاصا به لوحده. وفي أوساط المهاجرين، حين تكون الساكنة غير منسجمة وهذا طبيعي ( اختلاف الأصول الوطنية، الإثنية، الدينية )، فإن المنافسة تُدرِج معايير تأخذ بعين الاعتبار القوانين المعمول بها في بلد الاستقبال، علاقة القوة داخل الجالية، بين المؤمنين البسطاء الذين يحجون إلى المسجد للصلاة ومناقشة شؤون الحي، والسلفيين الجهاديين الذين يتخذون من المسجد قيادة عليا ملائمة وبريئة، ينظمون، انطلاقا منها، أنشطة مناضليهم. وغالبا ما تشتعل، حول المساجد، صراعات مريرة تهمّ الزعامة. محليا، يعتبر المسجد مركز سلطة متعددة الوظائف - دينية، سياسية، اقتصادية، ثقافية، تربوية -، يقوم المركزمقام محاور السلطات العمومية ويحتكر مجال استقطاب التمويل الداخلي والأجنبي.
نجد في قلب الحركية الإسلامية العالمية، جماعة الإخوان المسلمين، الكائن مقرها التاريخي بمصر، حيث تأسست سنة 1928 . ويضم هذا التنظيم المِجَسّي ملايين المنخرطين، في مصر، من البلدان الإسلامية وفي العالم. ويبدو أن التنسيق لكل شيء يتم بلندن من قبل « الجمعية الإسلامية ببريطانيا « التي تعتمد في تمويلاتها على بنك التقوى ( يوجد بسويسرا، بالباهماس، بليشتانستن، إلخ ) وغيره من الأبناك العربية والدولية التي تأتي رساميلها أساسا من العربية السعودية، من قطر، من الكويت، من البحرين، من الإمارات العربية المتحدة. كما أثبتت ذلك العديد من التحقيقات التي أجراها صحافيون أو خبراء في النزعة الإسلامية وفي الإرهاب.
إن بإمكان التدابير المقيِّدة المتخذة مؤخرا ( 2012 و 2013 )، من قبل حكومة بريطانيا العظمى تجاه الإسلاميين، والتي تمت ترجمتها إلى عمليات طرد زعماء إسلاميين كاريزماتيين وتقوية إجراءات مراقبة حركة الرساميل، [ بإمكانها ] أن تغير الأمور. إلا أن ذلك لن يمس التنظيم العام للإخوان المسلمين إلا قليلا ومؤقتا، لأن قابلية رد فعلهم وحركيتهم تجعلانهم فوق الاحتمالات التشريعية. إضافة إلى ذلك، فالنظام المالي والبنكي الذي يعتمده النظام وفر كل وسائل الراحة وضمانات السرية الضرورية لكل فاعلي العالم وكيفما كانت نوعية أنشطتهم.
سنة 1978، وفي زخم اتفاقية كامب ديفيد، التي كرست السلم بين مصر وإسرائيل وحددت إطار السعي إلى تحقيق السلام في الشرق الأدنى، كان الإخوان المسلمون قد تخلوا رسميا عن الجهاد المسلح، ما عدا في فلسطين، إلى أن معظم الجماعات الإسلامية الجهادية، الموجودة في العالم، كانت تستند، إلى حد ما، إلى تعليماتهم وتستفيد من نفس تمويلاتهم. لكن انعدام الرابط العضوي لا يثبت أي شيء، ونحن نعلم أن من بين شعارات الإسلاميين الجهاديين شعار: « الحرب خدعة «.
لقد اغتيل الرئيس السادات سنة 1981 من طرف جماعة إسلامية جهادية تُدعى الجماعة الإسلامية، كانت تنتسب إلى الإخوان المسلمين، وكان ذلك دليلا على أن الجمعية قامت، بكل بساطة، بنقل فرعها المسلح إلى بنية سرية موازية، خُلقت لهذا الغرض. كما أن صلات أخطبوط القاعدة بالإخوان المسلمين معروفة، نفس الرجال، نفس الأفكار، نفس الشبكات تربط بينهما بطرق عديدة. خلال شهر أبريل 2013، أعلنت جماعة النُّصرة الجهادية، التي تحارب الأسد في سوريا بالدرجة الأولى، مبايعتها للقاعدة.
ونعود إلى كتابات المتخصصين في الإرهاب الإسلامي والقاعدة، للحصول على موجز بخصوص هذه الارتباطات وتشابكها.
يوجد، في معظم البلدان الإسلامية، حزب إسلامي تأسس بشكل قانوني، رغم أنه ينتسب للإخوان المسلمين أو أنه متأثر بهم ( حماس بفلسطين، حركة المجتمع من أجل السلم في الجزائر[ كان يُدعى حماس ]، النهضة في تونس، العدالة والتنمية في المغرب غير المنخرط بشكل واضح في جماعة الإخوان المسلمين لكنه يتقاسم معها أفكارها ... ). كما نجد أحزابا إسلامية أخرى تنتسب إلى طاعات رهبانية أخرى لكنها، عند اللزوم، لا سيما خلال المنافسات الانتخابية، تتحالف مع الإخوان المسلمين عن طيبة خاطر.
علاوة على كل ذلك، يُنشط الإخوان المسلمون أو يراقبون العديد من التنظيمات الدينية، السياسية، الثقافية، التربوية، الاجتماعية، في جميع جهات العالم. لنذكر بسرعة: المركز الإسلامي بجنيف، « إزلاميتش جيمنتافت إن دوتشلاند « ، العصبة الإسلامية العالمية، المجلس الإسلامي لأوروبا، اتحاد المنظمات الإسلامية لأوروبا، اتحاد المنظمات الإسلامية لفرنسا، المجلس الأوروبي للفتوى الموجود مقره بدوبلن... إن اللائحة طويلة وهي غير معروفة في الحقيقة، بالنظر للوضعية الراهنة لمعرفتنا بذلك الركام الخليط. فمع كل تحقيق جديد، تظهر تفرعات جديدة، دروب جديدة.
يوجد، منذ 1933، فرع نسائي للإخوان المسلمين، وهو مجسي بدوره: الأخوات المسلمات. إنهن نشيطات في استقطاب النساء، تربية الأطفال، جمع التبرعات ( المال، الملابس، المنتوجات الغذائية )، الإدارة، الإسعافات الأولية وتقديم العلاج أثناء الكوارث. إلا أن لهن مهام أخرى لا نعرف عنها سوى القليل. خلال الحملات الانتخابية، بينّ عن فعالية رهيبة، يزرن النساء حيثما كن دون كلل، بالمنزل، بالحمام، بالمقابر بالأسواق، بالملاجئ، بالمستشفيات، بالمعامل وبالإدارات، ويرافقنهن إلى مكاتب التصويت.
في الميدان الاقتصادي والمالي، أبان الإخوان المسلمون عن استراتيجيات هائلة جعلتهم، اليوم، في قلب المالية الإسلامية الدولية، يدخلون مشاريع مشتركة مع أمراء الخليج وأكبر أثرياء رجال الأعمال العرب، عبر الأبناك، شركات الاستثمار، شركات البورصة، ويزداد حضورهم في التجارة ( تجارة الحلال المرتبطة بالمنتوجات الغذائية )، الفندقة، الصناعة، الصناعات الدقيقة أساسا. وتتطلب الهيمنة الدينية في الأساس هيمنة تجارية وصناعية، وهذا ما يعمل عليه الإخوان المسلمون والأمراء العرب المنخرطون في استراتيجيتهم بكثير من المثابرة ومن الموهبة. وتعتبر ثروات السادة في العربية السعودية وقطر نماذج للفعالية والإتقان.
كما أن للإخوان المسلمين طموحات علمية قوية. نسجل بهذا الخصوص أن الكثيرين من بين نخبهم قاموا بدراسات متقدمة جدا، في أحسن الجامعات العالمية، في الميادين الدقيقة: المعلوميات، النووي، الرياضيات، الطب، البحث الفضائي... والمثير أكثر أن بلدانهم لا تتوفر على بنيات مهنية مناسبة لاستقبالهم وتشغيلهم في مجالات كفاءاتهم. إن هذا التعطش للعلم يستجيب لاعتبارات مختلفة: دينية ( « أطلبوا العلم ولو في الصين « كما يوصي بذلك حديث نبوي )، تكذيب صورة الجهل والخشونة الملتصقة بالمسلمين، التذكير بأن المسلمين كانوا مبدعين في العلوم وأنهم يحملون مستقبلا مبنيا من التقدم والأنوار، توفير وسائل القوة للدول التي ستنبثق من الثورة الإسلامية. إن الإخوان المسلمين يقدمون مِنحا أساسية للشباب الذين يُبينون عن استعداد كبير لمتابعة الدراسات العليا، ويتتبعونهم خلال المراحل المتتالية لمهنتهم لترسيخهم في الإيمان وفي أداء الواجبات الدينية. و مما لا شك أن مسعى إيران، التي تتطلع إلى التزود بالوسائل النووية المدنية وربما تحويلها لغايات عسكرية، يستجيب لهذه الاعتبارات نفسها.
نسجل هنا، في هذا التطور، صيرورة ملحوظة لتحول عالم إسلامي، النهضة المعروفة التي جعلت كل المسلمين يحلمون بها منذ العصر الذهبي. إنها تتمتع بطبقة وسطى ذات تكوين عال، في كل الشعب وفي الميدان العلمي بوجه الخصوص، الميدان الذي ظل ينقصها دائما، ما يفسر أن ثورة فكرية شبيهة بالأنوار في فرنسا لم تكن ممكنة في العالم الإسلامي. ويعتبر وجود هذه الطبقة شرطا أساسيا لإنتاج الأنوار، إلا أنه لا يكفي، ينبغي كذلك أن تتمكن من تحقيق استقلاليتها الذاتية وتدخل صيرورة مراجعة جوهرية للفكر الإسلامي. والحال أن هناك مسعيين حاليا: مسعى، خجول جدا، باتجاه الأنوار الحديثة بالمعنى الغربي ( الكوني ؟ ) للفظ، مسعى أكثر إرادوية باتجاه أنوار إسلامية. بإمكانهما الالتقاء والانصهار في بعضهما البعض، إلا أن ذلك يبدو غير ممكن، لهيمنة تناقض مذهبين لا أحد منهما يرغيب أو يستطيع تجاوزه. ويمكننا القول، نسبيا وبخصوص هذه النقطة، إنه يحصل الآن انشقاق كبير داخل العلام الإسلامي، قسم يرتبط بالقيم الكونية، والثاني يتمسك بإعادة ابتكار واسترجاع سحر قيم العصر الذهبي الإسلامي. يبدو أنه لا أحد منهما يستطيع إنتاج فكر جديد كلية، مستقل سواء عن الدروب الغربية أو عن الدروب الإسلامية. هذا ما دفعنا إلى القول بأن النزعة الإسلامية، في العمق، كانت في البداية رد فعل على المسلمين، و بوجه الخصوص أولئك الذين يبتعدون، منذ الاستعمارات وتدريجيا، عن الإسلام، وينخرطون في القيم الكونية، وأولئك الذين يبحثون عن إسلام حديث ينتهي، حسب الإسلاميين، إلى الاصطدام بالأورثودوكسية وإلى التحرر منها.
2 - الدول الإسلامية
كانت الدول الإسلامية كلها، في وقت من الأوقات، موجِّهاتِ دعاية للنزعة الإسلامية. وقد فعلت ذلك عن معرفة بالوقائع، لخلق سد في وجه صعود الإيديولوجيا الشيوعية، القادمة من روسيا - التي تمكنت في النهاية واستقرت في العديد من البلدان الإسلامية - لوقف تقدم المطالب الديمقراطية المستلهمة من الغرب، والتي تمكنت أفكارها من التوغل في المجتمع واستدراج بعض الأوساط ( النساء، المهن الليبرالية، المثقفين، النقابات، الطلبة ). وقد جعلت الدول الإسلامية من الإسلام « ديانة الدولة « وأدارته كما لو كان برنامج دعاية قاعدي يقدمه أعضاء الحزب والبوليس السياسي.
لقد فُتح الباب في وجه مرشدي النزعة الإسلامية الذين شكلوا جيوشا من المناضلين، انطلقت فورا للإغارة على الشيوعيين واالديمقراطية. وطُبقت هذه السياسة في جميع البلدان الإسلامية. وكلما كانت القوة المعبئة للنزعة الوطنية، التي قادت إلى الاستقلالات، تضعف، كلما كانت الضغوطات الدولية لدمقرطة تلك البلدان تتصاعد، وكلما كان الرجوع إلى الدين، في نسخته الأكثر محافظة والأكثر معاداة للأجانب، يتقوى. وقد عرفت هذه البلدان كلها، في وقت أو في آخر، عملية طرد الأجانب، بحيث يغلفها كل واحد من البلدان بخطاب وطني خاص به: « الجزرنة « [ نسبة إلى الجزائر / م ]، « المغربة «، المصرنة «، « التعريب «، مثلت سعارات الموضة آنذاك.
في النهاية، صمدت الانظمة القائمة واستمرت في ظل الإسلام الذي عملت على تأليته وفي ظل النزعة الإسلامية، التي كانت تقاومها بيد وتشجعها بالأخرى. في ظل هذا الصراع الأخرس والعنيف، عانى الشيوعيون التعذيب، قتل كثيرون منهم أو تعرضوا للنفي، الأمر الذي قوى تحكم الإسلاميين في المجتمع وسهل سياسة إقحام عناصر مدسوسة، السياسة الني كانوا يطبقونها من خلال الأحزاب الإسلامية المعتدلة، التي خُلقت لتلك الغاية ولاستمالة الطبقات المتوسطة. إنقلب المخطط على واضعيه، كان الإسلاميون يفرون منهم، كانوا يلعبون لعبتهم التي يمارسونها بإتقان.
سبق أن سجلنا ذلك في الحزائر، بعد وفاة الرئيس بومدين سنة 1978، الوفاة التي وقعت نهاية النزعة الوطنية والديكتاتورية الاشنراكية البروليتارية التي كان أعطى انطلاقتها، والتي أنهكتها المزايدات وإخفاقات النموذج الاشتراكي للتنمية، لكنها سمحت كذلك بدخول المرشدين الإسلاميين الوافدين من الشرق الأدنى وفتحت لهم قنوات التجارة، التي كانت تمثلل بالنسبة لهم النشاط الاقتصادي اللائق بمسلم، لأنه النشاط الذي كان يزاوله الرسول، سهل لهم تطوير أنشطتهم الخيرية التي راقبوا من خلالها المواطنين الفقراء والمعوزين. هذا الانفتاح، أو بصيغة أخرى التخلي عن خيار التنمية الاشتراكية لحساب اقتصاد البازار المرغوب فيه من قبل الإسلاميين، تم تطبيقه، بالطريقة نفسها، من طرف السادات بعد وفاة عبد الناصر وانتهاء الناصرية. كما حدث ذلك في بلدان أخرى، تونس، المغرب، سوريا، العراق، ليبيا، حيث كانت الأنظمة قوية، وتعاملت بنوع من التساهل، سمحت بانتشار الفساد والسوق السوداء بين الطبقات المتوسطة والشعبية الحساسة تجاه خطابات الإسلاميين.
لفد تم كبح التطورات الاجدتماعية الحديثة وما كانت تثيره من مطالب ديمقراطية بحقن ? بجرعة قوية إلى حد ما ? النزعة الإسلامية والبازار، اللذين خلقا وهمي الازدهار والحرية. خلال السنبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وفي كل جهات العالم الإسلمي، لاحظنا ازدهارا اقتصاديا مفاجئا ليست له أية قيمة مضافة، دفع إليه التخلي عن السياسات العمومية، المكلفة بالتأكيد إإلا أنه مدرة، في النهاية، للتقدم وللتحرير المتوحش للاقتصاد الوطني. إن احتضان العديد من البلدان للريع ( البترول، المعادن، السياحة ) يساعد على تحرك هذا النوع من الاقتصاد دون صعوبة تذكر، لأن زوج اللنزعة الإسلامية ? البازار يقلص الطلب الاجتماعي وأبسط تعبيراته، يسهل إرضاؤه بالتالي. بذلك تمت إقامة حلزون: البؤس يغذي النزعة الإسلامية التي تجعل البؤس يتفاقم، وهكذا دواليك.
3- النخب المثقفة والجامعات
تتطلب حالة المثقفين في العالم العربي مؤلفا خاصا بها لوحدها.
تثبت دراسة النزعة الإسلامية أن هذا التيار الفكري، ليس الظاهرة المبتذلة والفظة التي تقدمها لنا الراهنية ووسائل الإعلام التي تنقلها بكل مؤثرات التضخيم المطلوبة. تعمل، في الأساس، استفهامات كثيرة، خطيرة، واعتبارات فلسفية مركبة، هي نفسها التي أدت في السابق إلى الانشقاقات التي عرفها العالم المسيحي. ففي الديانات كلها، ظهر ذلك النوع من الاستفهامات، في وقت أو في آخر، وأفضت إلى إعادات تأويل جوهرية، إلى حد ما، للعقيدة من حيث حقائقها وممارساتها. في البدء، كان المثقفون والعلماء هم الذين أطلقوا تلك النقاشات وصاغوا الخلاصات، الخلاصات التي استخدم البعض منها كإطار ميتودولوجي وفلسفي لكل أنواع الحركات، سواء منها المتطرفة أو الليبرالية.
لا تزال تلك الاستفهامات قائمة اليوم، وهي بالتأكيد أقوى مما كانت عليه بالأمس، ونفس النخب هي التي تنكب عليها. فالأخوان هاني وطارق، اللذين كانت لنا فرصة ذكرهما ( ونُذكر بأنهما حفيدا حسب البنا، مؤسسس جماعة الإخوان المسلمين)، يعملان على تعميق ونشر الفكر الإسلامي من زاوية الفلسفة التي ألهمت جدهما، ونحن نعرف انخراطهما القوي في هذا العمل؛ بخلافهما، يشتغل آخرون على « تحرير الإسلام من النزعة الإسلامية «، حسب تعبير عبد الوهاب مودب، الفرنسي ? الجزائري المختص في شؤون الإسلام، ما يقوم به كذلك زميلة مالك شابل، الفرنسي ? الجزائري المعروف كثيرا والمنخرط جدا في تطوير « إسلام الأنوار «، « إسلام من دون عقد «، حسب تعبيره ؛ ويشتغل آخرون على تحرير المجتمع من تحكم النزعة الإسلامية، بل وفصل الدولة عن الدين. ويذهب الفيلسوف الفرنسي عبد النور بيدار أبعد من ذلك، فهو يجرؤ على الترافع لصالح وجودية مسلمة ويعتقد أن تلك هي رسالة القرآن: المسلم الحقيقي هو الذي يتحرر من الله. أما محمد أركون، الفرنسي ? الجزائري، أستاذ الفكر الإسلامي المحنك في السوربون، فهو يدافع عن إسلام يعاد التفكير فيه في العالم المعاصر؛ ويمكن أن نقول بخصوصه بأنه دشن ما يسميه هو نفسه « نقد العقل الإسلامي». كما أنه كان مدافعا متحمسا عن اللائكية في العالم الإسلامي.
إنها استثناءات، فالغالبية العظمى من المثقفين المسلمين، تعيش حالة تراجع غير مفهومة، كأنها خليط من الخوف و اللامبالاة والخضوع.
لا ببدو أن زمن التحرر قد حل بعدُ بالنسبة لهذه النخب، فهي تقبع في بلدانها سجينة النظام التقليدي الذي يضيق حولها؛ وفي الهجرة، حيث تتمتع مع ذلك بحرية مؤكدة، نجدها تنعزل في الهامشية، إراديا أو ربما لأن المجتمع لا يدمجها أو يفعل ذلك بواسطة الاقتصاد فقط.
المشكلة هي كون الصمت المدوي أصبح مجحفا، يبدو كما لو كان انخرطا ودعما لطروحات الإسلاميين، تبعا لمبدأ « من لا يقول شيئا فهو موافق «. والحقيقة، أن العديد من بينهم لا يتمكنون بكل بساطة من تحديد مواقعهم، فهم لا ينخرطون في طروحات الإسلاميين لكنهم لا يفهمون ثورتهم على الغرب وعلى الديكتاتوريات التي تحكم بلدانهم، وينخرطون في قيم الغرب إلا أنهم يؤاخذون عليه « الكيل بمكيالين « والغموض الذي يمارسه تجاه الشعوب العربية، المسلمة والإفريقية، بدعم الديكتاتوريات أحيانا، الإسلاميين أحين أخرى، وهو يعظ بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
من وجهة نظر معينة، يعتبر صمت المثقفين أقوى مُوجه للنزعة الإسلامية. إنه يتحمل مسؤولية كبيرة بالفعل: بتهربهم من وظيفتهم الاجتماعية المتمثلة في أن يوضحوا لمجتمعهم الرهانات التي يواجهها، يسلمون المواطنين وبوجه خاص الأكثر هشاشة، الشباب، لشدو النزعة الإسلامية والبازار أو للفساد واستبداد الأنظمة العربية.
من هنا، وربما لدوافع أخرى تتعلق بالتدهور العام لبنيات التكوين، فالجامعات المعروفة عادة بانتقادها للنظام التقليدي، تحولت إلى ملاذات نشيطة للنزعتين المحافظة والإسلامية. أصبحت الجامعات، في البلدان العربية، فضاءات هشة، بلا تقاليد وسيئة التأطير، وهي الأهداف المفضلة والسهلة لكل أنواع المُسخَّرين، وهم اليوم المرشدون الإسلاميون، لأن الجامعات هي الفضاءات حيث يكون الاختلاط أقوى، ما يُمكن الإسلاميين من أفضل الحج لإدانة الانحلال الذي يحمله تغريب العادات. وباعتماد مظهر فساد العادات والأخلاق الإسلامية، يجتاحون دائما مختلف الأوساط ويقومون بتلغيمها من لداخل. ذلك ما يفعله الإسلاميون التونسيون والمصريون: منذ انطلاق « الربيع العربي « وهم يحاصرن الجامعات، يهاجمون الفتيات غير المحجبات أساسا وبوحشية. وبزرعهم الرعب، فهم يهدفون إلى الحيلولة دون تحول الجامعة إلى ملاذ للمطالبة بالديمقراطية والاحتجاج على النزعة الإسلامية، ثم تشمل البلاد كلها بعد ذلك.
4- وسائل الإعلام
فهم الإسلاميون منذ وقت بعيد أهمية التمكن من هذا القطاع. وقد انكبوا، منذ وقت مبكر، على نشر أفكارهم، خطبهم وأعمالهم. منذ العشرينيات من القرن الماضي، أخذت تُفرخ بسرعة في مجموع العالم العربي جرائد تنشرها حلقات مثقفين وتنظيمات دينية تنخرط في الحركية الوطنية؛ معظم تلك الجرائد كانت متأثرة بالأفكار الثورية لمفتي القدس، الحاج أمين الحسيني، وعمله الثوري ضد القوة المنتدبة ( بريطانيا العظمى ) وضد الحركة الصهيونية التي كانت تتوطد في المنطقة، الفكار التي ستغذي فكر شاب من الإسماعيلية، المصري حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمينن فيما بعد، وتنتشر في مجموع العالم الإسلامي. ويرجع هذا النجاح، في جزء كبير منه، إلى توظيف مطبوعات دورية سترسخ بسرعة عادة جديدة في العالم العربي، عادة الصحافة الدورية المكتوبة التي كانت، إضافة إلى الأخبار التي تقدمها، تفتح نوعا من الحوار المناضل والأخوي بين الوجوه البارزة في العالم العربي والعموم. لقد مارست على الناس، بالفعل، تأثير المنشور على المواطنين في فترات الأزمة والحرب.
فهم الإسلاميون ذلك وأوْلوا اهتماما كبيرا لهذا لقطاع، الذي تمكنوا منه بشكل مدهش. كما أنهم كانوا يمتلكون شبكة هائلة لدور النشر ساعدتهم على إنتاج كميات كبيرة من الكتب، من الكراسات ومن المصاحف وتوزيعها بالمجان تقريبا في كل البلدان العربية، بل في القرى الصغير ة كذلك. وفي سياق البلدان الإسلامية، الرازحة آنذاك تحت السيطرة الاستعمارية، كان مجرد مشاهدة تلك الجرائد والكتب، ومعظمها يدخل البلاد بطريقة سرية، يثير تحمسا كبيرا لدى القراء. فكونها مكتوبة بالعربية، لغة القرآن، وتتكلم عن شخصيات مشهورة حولها راي القاعدة إلى أساطير، يحدث بداخلهم تغيرا ملحوظا: كانوا يكتشفون أن الإسلام لم يكن ديانتهم وثقافتهم فقط، كان أداة مدهشة للتحرر والتطور. كان ذلك بمثابة الاكتشاف، لأنهم لم يعرفوا من قبل سوى إسلام الخضوع والتلاوة التي كان يلقنهم إياها الإقطاعيون الذين اضطهدوهم طيلة قرون. كان البعد الجهادي لهذا الإسلام الجديد يحرك القيم الحربية لنائمة بداخلهم والتي نشرت الإسلام قديما في جميع جهات العالم. أخذت النزعة الإسلامية، كموجّه للتنوير، للتحرر وللقوة، تتأكد بدواخلهم.
بظهور الراديو، الشريط السمعي والفيديو، وبعد ذلك التلفزة والأنترنيت، أصبح الإسلاميون يمتلكون كل الوسائل اللازمة لترويج أفكارهم وشعاراتهم. ففعالية قناة الجزيرة، المتأثر ة إلى حد كبير بالإسلاميين، لم تعد في حاجة إلى تأكيد. والإسلاميون يمتلكون في مجال الإرشاد، العديد من المحطات الإذاعية والقنوات التلفزية التي تعرف نسب تتبع مرتفعة جدا طوال السنة.
5- « الشارع العربي »
لقد اكتسب « الشارع العربي « مكانته الخاصة كمحطة إعلامية. فلاشك في فعاليته، والإسلاميون يتقنون استخدامه، أكثر مما كانت تفعل ذلك الأنظمة الديكتاتورية السابقة كلما رغبت في بعث رسالة إلى العالم الغربي. كان بإمكان تلك الأنظمة تجميع حشود كبيرة، إلا أنها حشود عديمة الشكل، تؤطرها سياجات الحزب والبوليس المتكتم إلى حد ما. أما « الشارع العربي «، حين أصبح بين أيدي الإسلاميين، فقد أصبح له جانب مهيج وعفوي قوي الإقناع. فالمظاهرات لتي يتم خلالها إحراق الأعلام ومحاصرة السفارات تُؤتي دائما أكلها: إنها تثير كل ردود الأفعال المنتظرة، إلى درجة أن القنوات التلفزية الدولية تهتم بها عن قرب وتبثها بكثرة. بعد ذلك، جاء دور الأنترنيت وقنوات التواصل الاجتماعي للاستحواذ عليها، فحل الطوفان. لقد تحول « الشارع العربي « إلى « الشارع الإسلامي «. إنه تطور جوهري، فباسم الإسلام أصبحت الشعوب العربية تتحدث وليس باسم النزعة الوطنية أو النضال ضد الأمبريالية.
و جاءت قضية الرسوم الكاريكاتورية التي تناولت محمد، التي نشرتها الجريدة الدانماركية « جيلاندس ? بوستن « لتغير المعطى. فقد أبرزت أمرين أساسين.
الأمر الأول هو أن « الشارع الإسلامي « لم يكن عفويا على الإطلاق؛ فكما كان من قبل تحت حكم الأنظمة القديمة، كان يخضع لأوامر تأتيه من مركز للقيادة. وبالمقابل، ف « الشارع العربي « لم يتحرك إلا بعد مرور أسابيع بعد نشر الرسوم الكاريكاتورية، كما لو أنه كان في انتظار أمر تأخر. لقد تم تزيين هذه القضية، كما لم يحدث لأية قضية أخرى، بقفزات، مظاهرات في كل بقاع العالم، بمتابعات قضائية، بأزمات ديبلوماسية، بمقاطعات وحروب اقتصادية دولية، وأثبت إلى أي حد كانت قُدرات الإسلاميين كبيرة في استغلال الأوضاع التي تتاح لهم لوضع تصورات سيناريوهات الكوارث وفرض لعبتهم على العالم بكامله: « الإسلام مقدس، لا أحد يمكنه انتقاده دون أن يتعرض للعقاب «.
الأمر الثاني، ولأول مرة ، برزت ظاهرة السأم التام في أوروبا في مواجهة التهديدات الإسلامية. فالعديد من الجرائد الأوروبية، في فرنسا، في الدانمارك، في السويد، في ألمانيا، في إسبانيا ( ...)، نشرت نفس الأعمال الكاريكاتورية وغيرها للتعبير عن دعمها لجريدة « جيلاندس ? بوستن « ولتأكيد التزامها بالدفاع عن حرية التعبير التي أساء إليها الإسلاميون.
ورغم كل ذلك، فرض « الشارع الإسلامي « نفسه باحتلاله شبه اليومي لقنوات التلفزة والأنترنيت، لقد خلق رأيا عموميا إسلاميا في كل جهات العالم وليس في البلدان العربية و الإسلامية وحدها، كان يسعى إلى الوقوف والتعبير عن غضبه كلما تعرض الإسلام للنقد حيثما كان ومن طرف أي كان.
6- الهجرة،
أو فشل سياسات الإدماج
مثلما أن تطور النزعة الإسلامية في البلدان الإسلامية هو، في جزء منه، نتاج السياسات المشؤومة للأنظمة التي تحكم هذه البلدان، يمكننا الاعتقاد بأن تطور النزعة الإسلامية في العالم الغربي هي نتاج السياسيات غير المناسبة للهجرة والإدماج. نستخلص، في معظم الحالات، أن توجيه الدعوة إلى اليد العاملة الأجنبية ( من المغرب العربي ومن إفريقيا السوداء )، كان الهدف منه تقليص تكلفة اليد العاملة المحلية وأيضا، بل وبوجه خاص، ممارسة الضغط لتخفيض الأجور والامتيازات الاجتماعية للحفاظ على تنافسية البلاد والمقاولات التي أضرت بعا السياسات الاجتماعية السخية جدا والمصاريف العمومية المفرطة، التي تمولها لقروض وبشكل متزايبد إفقار بلدان العالم الثالث. وفي ظل هذه الشروط، لم يكن لسياسات الإدماج أي حظ للنجاح، كان ينبغي أن يظل المهاجرون ثابتة تقويم الاقتصاديات التي لم تعد لديها أية مرونة ( هيكلية، نقدية، ميزانية، ضريبية أو غيرها ). وإذا كان المهاجرون الأوائل قد قبلوا بهذه الوضعية، خوفا من البطالة أو الطرد إلى بلدانهم وفقدان الحقوق الاجتماعية الزهيدة، فإن أبناءهم الذين ولدوا في هذه البلدان لا يمكنهم قبول ذلك، وبالأحرى حفدتهم... وعملت بعض السياسات التصحيحية ( الترقي الاجتماعي، التمييز الإيجابي، التكوين ، إلخ.) على تحسين وضعية الأجيال الجديدة بعض الشيء، إلا أنها لم تلغ الاحتقار الذي يشعر به الأبناء وهم يرون آباءهم مستغلين ومذلولين إلى هذا الحد. فهِم الإيديولوجيون الإسلاميون ذلك فهما جيدا، فالاحتقار هو الرافعة القوية التي يسهل توظيفها. بمنحهم قليلا من الدين ورؤية مغايرة للعلاقات السياسية في العالم، تمكنوا من توجيه غضبهم نحو أهداف متعالية وجعلوهم يقبلون فكرة الموت شهداء نفسها.
إن التقاء هذه الموجهات الست هو الذي ساعد النزعة الإسلامية المتطرفة على التطور بسرعة كبيرة بين المواطنين العرب. فقد خرج هؤلاء المواطنون من سراب ليدخلوا سرابا، من وهم إلى وهم، من خيبة إلى خيبة، فلا استقلال بلدهم، لا السياسات الاشتراكية أو الرأسمالية التي نهجتها حكوماتهم لتنمية بلادهم، لا الهجرة والإدماج في البلدان الثرية والديمقراطية منحتهم هذا الحد الأدنى: حياة لائقة ووقورة. والفكرة القائلة بان « المسلمين لا يطلبون غير الخبز»، كانت منتشرة بشكل واسع، سواء بين الإقطاعيين أو بين الأوروبيين.
بفضل جانبها النسقي والثوري، برجوعها إلى التعاليم الأكثر تطرفا في الإسلام، بإدانتها الأخلاقية والسياسية للغرب ولقيمه، بتصوراتها الليبرالية للاقتصاد ومحافظتها الاجتماعية، بفضل وعودها الفردوسية وتمجيدها الدائم للتضحية والشهادة، توفر للنزعة الإسلامية كل ما ييسر لها فتنة كل الشرائح الاجتماعية، الفقراء والأغنياء، المثقفين والجاهلين، الليبراليين والمحافظين، البورجوازيين والثوريين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.