النيابة العامة توجه دورية لحماية الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون والتصدي للاعتداءات ضدهم    ندوة نقابية تسلط الضوء على قانون الإضراب وتدعو إلى مراجعته    مخيمات الصحراويين تحترق    البنين تشيد بالمبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء المغربية    الدبلوماسية الجزائرية في واشنطن على المحك: مأدبة بوقادوم الفارغة تكشف عمق العزلة    التكنولوجيا الصينية تفرض حضورها في معرض باريس للطيران: مقاتلات شبح وطائرات مسيّرة متطورة في واجهة المشهد    وزراء خارجية أوروبيون يعقدون لقاء مع إيران في جنيف    استمرار الأجواء الحارة في توقعات طقس الجمعة    تتبع التحضيرات الخاصة ببطولة إفريقيا القارية لكرة الطائرة الشاطئية للكبار    توقعات أحوال الطقس في العديد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    افتتاح الدورة ال26 لمهرجان كناوة وموسيقى العالم بالصويرة    سان جرمان يسقط في فخ بوتافوغو    موكب استعراضي يبهر الصويرة في افتتاح مهرجان كناوة    التصادم الإيراني الإسرائيلي إختبار لتفوق التكنلوجيا العسكرية بين الشرق والغرب    تطورات حريق عين لحصن.. النيران تلتهم 20 هكتارًا والرياح تعقّد جهود الإطفاء    مؤسسة بالياريا تقدّم في طنجة مختارات شعرية نسائية مغربية-إسبانية بعنوان "ماتريا"    كوت ديفوار تجدد تأكيد "دعمها الكامل" للمبادرة المغربية للحكم الذاتي    انطلاق فعاليات النسخة الأولى من ملتقى التشغيل وريادة الأعمال بطنجة    ميسي يقود ميامي إلى هزم بورتو    حكومة أخنوش تصادق على إحداث "الوكالة الوطنية لحماية الطفولة" في إطار نفس إصلاحي هيكلي ومؤسساتي    "عائدتها قدرت بالملايير".. توقيف شبكة إجرامية تنشط في الهجرة السرية وتهريب المخدرات    رئيس النيابة العامة يجري مباحثات مع وزيرة العدل بجمهورية الرأس الأخضر    ماركا: ياسين بونو "سيد" التصديات لركلات الجزاء بلا منازع    تغييرات في حكامة "اتصالات المغرب"    بعيوي يكذب تصريحات "إسكوبار الصحراء"    إصدار أول سلسلة استثنائية من عشرة طوابع بريدية مخصصة لحرف تقليدية مغربية مهددة بالاندثار        المغرب والولايات المتحدة يعززان شراكتهما الأمنية عبر اتفاق جديد لتأمين الحاويات بموانئ طنجة المتوسط والدار البيضاء    الأحمر يلازم تداولات بورصة البيضاء    نشرة إنذارية تحذر المواطنين من موجة حر شديدة ليومين متتاليين    "مجموعة العمل" تحشد لمسيرة الرباط تنديدا بتوسيع العدوان الإسرائيلي وتجويع الفلسطينيين    بنكيران يهاجم… الجماهري يرد… ومناضلو الاتحاد الاشتراكي يوضحون    أخبار الساحة    هل يعي عبد الإله بنكيران خطورة ما يتلفظ به؟    مجازر الاحتلال بحق الجوعى وجرائم الحرب الإسرائيلية    بيت الشعر في المغرب يتوّج بجائزة الأكاديمية الدولية للشعر    تعدد الأصوات في رواية «ليلة مع رباب» (سيرة سيف الرواي) لفاتحة مرشيد        الحكومة تصادق على إحداث المعهد الوطني العالي للموسيقى والفن الكوريغرافي    معرض بكين للكتاب: اتفاقية لترجمة مؤلفات حول التراث المغربي اللامادي إلى اللغة الصينية    الدوزي يُطلق العدّ التنازلي ل"ديما لباس"    كتل هوائية صحراوية ترفع الحرارة إلى مستويات غير معتادة في المغرب    طنجاوة يتظاهرون تنديدًا بالعدوان الإسرائيلي على غزة وإيران    إصابة حكم ومشجعين في فوضى بالدوري الليبي    فحص دم جديد يكشف السرطان قبل ظهور الأعراض بسنوات    ست ميداليات منها ذهبيتان حصيلة مشاركة الرياضيين المغاربة في ملتقى تونس للبارا ألعاب القوى    بنك المغرب والمؤسسة المالية الدولية يوقعان شراكة لتعزيز الشمول المالي الفلاحي بالمغرب    بنهاشم بعد مواجهة مانشستر سيتي: لعبنا بشجاعة وخرجنا بدروس ثمينة رغم الخسارة    إيران تستهدف مستشفى بجنوب إسرائيل ونتانياهو يتوعدها بدفع "ثمن باهظ"    خدش بسيط في المغرب ينهي حياة بريطانية بعد إصابتها بداء الكلب    السعودية تدعو إلى ارتداء الكمامة في أداء العمرة    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    ورزازات تحدث تحولا نوعيا في التعامل مع الكلاب الضالة بمقاربة إنسانية رائدة    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمظهرات النص السردي وأفق توقعات الخطاب
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 16 - 01 - 2015

إن القصة القصيرة المغربية ، وهي تبني مشروعها التأسيسي التأصيلي، استطاعت أن تتخذ لنفسها أشكالا متعددة من السرود، إذ ابتدأت بالسرد التاريخي والواقعي الاجتماعي، ولم تخرج عن نطاق المرجعية التقليدية والأخلاقية والإيديولوجية إلا بعد أن شبت وقوي عودها، فانتقلت بذلك إلى مرحلة التجريب، أي اقتحام عوالم الغرابة والعجائبية، ومع ذلك بقيت مخلصة للنمط المتأرجح بين التأسيسي التأصيلي والتجريبي، إلى أن ظهرت موجة الكتابة القصصية التي تعتمد مستويات الطروحات الحداثية، والمفتوحة في نفس الوقت على الأسئلة الفلسفية والأنثروبولوجية، والمراهنة بصفة حادة على ما يصطلح عليه بالنص الشكلاني الذي يتبنى درجات قصوى في تراكيبه الانزياحية المفعمة بالرموز، والخاضعة للتأويل المفتوح على قراءات لانهائية، والقصة القصيرة المغربية لم تخرج، كما أسلفنا، عن هذه المغامرة ولم تحد عنها، بل واكبت هذا المسار في مداراته المربكة والمشوشة أحيانا، وخلقت من خلاله نماذج مؤسسة لتجارب لها صوتها المميز والرائد، والفريد في تشكيل متخيل ممتع لايقتصر على اليومي والاجتماعي والإيديولوجي، بل يستدرج حيوات يتقاطع فيها الطقوسي بالراهني، والديني بالدنيوي، والرمزي والأسطوري بالمألوف، فهل كان من الضروري للقصة المغربية، من هذا المنطلق، أن تبني استراتيجيتها دون رجوعها إلى ذاتها أو تجاوزها لها إلى ما له علاقة بأسئلة الموضوعي؟
لقد تم استدعاء مجموعة من التيمات المتنوعة إلى مختبر متن القصة القصيرة، واستخدمت للتعبير عن مدى قابلية النص القصصي لترويض مختلف هذا الزخم السردي بشتى أشكاله ومضامينه، فبين التأطير البنائي المتعدد، والخاص بطبيعة القالب والمحتوى والموضوعات، وبين العناصر البنيوية البرانية، المتمثلة في البنيات المنفتحة والمنغلقة والمتفجرة والحلزونية والمتشذرة، والجوانية المسنودة إلى كثافة الحوافز وندرتها، ونسق تنامي الصراع الدرامي، والتوظيف التناصي الذي يمكنه أن يلعب دوره الوظيفي في انبناء الصيغ الأسلوبية ذات الملمح المتداخل، قصد تحقيق المقاربات التأويلية للوقائع الطبيعية والمتخيلة، أي أن القصة القصيرة المغربية لا يمكنها أن تكون إلا بتوفر شروط حضور الحكي، واحتمالات بناء اتساق النص القصصي لخدمة انسجام الخطاب في أفق تعاقد نوعي بين القصاص وأفق انتظار المتلقي، لذلك نلاحظ أن الحديث عن القصة القصيرة المغربية، يرشح برزنامة من الأسئلة الإبداعية فنيا وجماليا، أكثر من إيجاد أجوبة يقينية، تبقى في حدود البحث عن وثوقية أجناسية شكلية تتماهى، أو تتصادى مع أنواع كالخاطرة أوالكتابات الإنشائية التي تختبئ وراء اللغة، أو الأوتوبيوغرافيا المبتسرة أوالترجمة الغيرية التي لا تفصح عن أي شيء. هذه القصة التي نروم قراءتها لا تهتم بمظهرها الخارجي ولا تأبه بمعاول النقد، بل تحاول أن تكون محض كلام يؤطره مألوف يخرج من شرنقته ويعانق الصناعة الحكائية وكيمياء توابلها الفنية والجمالية.
العنوان عتبة الغواية:
في ذاكرة القصة القصيرة المغربية للقاص محمد الشايب ثلاث مجموعات قصصية فقط، أولها «دخان ورماد» عن البوكيلي للطباعة والنشر/ القنيطرة سنة 2000 ، وثانيها «توازيات» عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب/ الدار البيضاء سنة 2006 ، والمجموعة الثالثة «هيهات» التي صدرت في غضون سنة 2011 عن التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع/ الرباط. هذه الأضمومة القصصية الأخيرة تستفرد بعنوان دال وشامل لمعان لا تراوح عتبة المتن بصفة خاصة، بل تتعداه إلى ما هو أعمق، ذلك أن اختيار العنوان لا يمكنه أن يكون قصديا إلى درجة الاستسهال، بل هو البؤرة القوية التي تشد إليها كل عاشق للضوء والجمال، واستحداث العنونة لا يلغي كونها تختزل العمل الأدبي بين دفتين، وإنما هي بنية نوعية ووظيفية، الأولى تأخذ شكل المدار الذي يمتد فيه الذاتي أو الموضوعي، حتى حدود المواضيع و الخطاب، والثانية تتغيا أنسقة تأويلية تحتفي بالإيحاء وشعرنة إغواء المتخيل، وإذا أردنا عرض العنوان من الوجهة المعجمية التي تخضع إلى الدال التنسيبي للمرادف، فإننا نلاحظ أنه يشير إلى الشبيه والرديف والنسخة والمثال، إذ أن لفظة «هيهات» لغويا هي بعد الأمر واستحال، أي ما أبعد الشيء المراد الحدوث، وترد في النص القرآني بصيغة الرفض، أو لمضاعفة قوة الرفض بالبعث والإيمان، يقول سبحانه وتعالى في سورة «المؤمنون»: «ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون، أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون، هيهات هيهات لما توعدون»1، فهيهات حسب اشتقاقها اللغوي المنقول إلى العربية تدل على إذا جاء، أي بمقصدية استبعاد المجيء، وورودها المتكرر في القرآن الكريم يعني التوكيد، حيث إن هيهات الأولى: إسم فعل ماضي مبني على الفتح لا محل له من الإعراب وفاعله ضمير مستثير فيه وجوبا تقديره يعود على إسم الموصول، وهيهات الثانية: توكيد لفظي للأولى، وبما أن هيهات تفيد ثبوت استحالة المجيء، أو تتقيد بالرفض واستبعاد الشيء وتقوية الرغبة في الجحود والإنكار حسب ما ورد في النص القرآني، فإنها دلاليا توحي إلى معنى الإغواء، لأن المدلول الصوري في النص لا يؤول عادة حسب موقعه ضمن الشبكة اللغوية الكلية للمتن، وإنما يستحضر العلاقة التي تشج بين ما يكتنزه المضمون من أفعال وحالات ووضعيات، والخطاب الذي يخضع تلقائيا إلى التناوب معه، وذلك من أجل تمثل التوصيف الرامي إلى تثبيت المعنى وتأهيل العلامة التي تروم بدورها إلى انتساج خطاب إيحائي قابل للتأويل.
إن الدلالة الرمزية التي تتقصدها إيحائية العنوان، تسترجع الرؤية الثنائية التي هيمنت على الثقافة العربية إبان مراحل الالتباس الإيديولوجي الفكري، خاصة عند الفرق الكلامية، إلى حدود ما بعد مرحلة النهضة، أي الصراع بين الخير والشر خاصة أو الشرق والغرب بصورة عامة، وهو ما نلمسه كإسقاط على لسان السارد حينما يتعدد في ذاتيته، وينتقل إلى كائن يمسك بخيوط لعبة الحكي لكن دون جدوى، « نسيت أم تذكرت، واصلت أم توقفت، عدت أم ذهبت، عطشت أم ارتويت، نمت أم استفقت، أصبت أم نجوت، كبرت أم صغرت... لا أدري لا أدري لا أد..! الحقيقة الوحيدة التي أدركها أني أنا الشيخ، وأنه أنا كلانا شخص واحد كان يحاول قطف فاكهة الممشى بطريقة ما، لكن هيهات «2، فهذا النص الموازي الذي يوضع على هامش المجموعة، أي أنه يأتي في آخرها، وبالتحديد ينزل على ظهر الغلاف الأخير وتحت صورة المؤلف بالضبط، لنلاحظ  أنها تشمل بالتدقيق نزعة التأمل  والإنشداد إلى الاستيهام، لتجترح بذلك إسما دالا يغزو من خلال فضائيته كل بنيات النصوص ومحافلها وانزياحاتها المعجمية و التركيبية و الزمنية والأسلوبية.
مقتضيات السرد ومحافل الخطاب:
لاشك أن البنية السردية التي يستثمرها المؤلف في المجموعة لا تستوي على قرار واحد، بل تنحو مناح متعددة، إذ تنزاح عن اتفاقات السرد التقليدي الخطي، وتتخذ لنفسها وجهات غير معتادة ولا تأبه بأسيقة الأفكار أو الأحداث، لأن المنظور السردي الذي يهيمن في المجموعة يقتضي إشراك المتلقي من خلال دمجه في أفق انتظارالكاتب، وحسبJean Rousst فإن « الكاتب لا يكتب ليقول شيئا، بل ليقول نفسه، مثلما يرسم الرسام ليرسم نفسه، لكنه، إذا كان فنانا، لا يقول نفسه، و لا يرسمها إلا بواسطة هذا التشكيل الذي هو العمل»3، لذا نجد العمل القصصي ينبني على أساس متواليات سردية تخرق نظام الحكي، وتفجره من الداخل بآليتي التمدد والاتساع، حيث تنساح اللغة السردية بكل عنفوانها وطراوتها عبر تشكلات ظاهرية تستمد خصيصتها الحكائية من الموروث السردي العتيق، هكذا تبدأ أول قصة في المجموعة، يقول السارد منطلقا من ذاته، ومستثمرا ضمير المتكلم: « يخيل لي أني كنت نائما، ورأيت فيما يرى النائم ذئبا يعوي داخل قفص الاتهام، وأشخاصا بينهم شبه كبير يحملون قميصا ملطخا بالدم»4 . يمكن القول إن هذا النموذج يسترجع قصة النبي يوسف عليه السلام، وهي في المجموعة تحتفي بطابعها ذي المنزع الامتدادي في الزمن والمكسر لرتابة السرد الكلاسي، لأن القاص يوسع من خلالها رؤيته للحياة والوجود، كما يجعلها فاعلة ضمن انزياحات اللغة السردية المتأرجحة بين النثري والشعري، فحضور يوسف في النص المركز وفي المتفرع عنه يخلق وظيفة مضاعفة للنوع، بل يساهم في تعضيد تمفصلات التراكيب وأنسجة اللغة، وينفتح السرد على شعرنة القصة:
لا يوسف في المدينة
رحل كل من يلبس هذا الاسم
ويبقى الإخوة
يضمرون القسوة
ويختبئون وراء ظلال الذئاب
في كل بيت يولد يوسف
وفي كل بيت إخوة يلقون به في الجب
أو يقتلونه
لماذا هم الإخوة هكذا...
يكرهون و لا يحبون»5 .
هذه اللغة المشعرنة تنتقل من القصة إلى الخطاب، أي من منطق الحكي باعتباره يخضع إلى مجموعة من الأشكال السردية، بما فيها التقنيات التي يشتغل عليها الكاتب القاص وهو يطرز نصه بشتى الآليات الأسلوبية، مازجا كل هذا بأنماط التكرارات والشخوص و الزمن والوصف والأحداث وباقي التمفصلات الأخرى، والخطاب بكونه ينقل رسائل معينة إلى متلق ما، فالسرد كما أشرنا إلى ذلك ينغمر في أتون النص الحكائي، به يستقوي وعليه يضع سنده، أما مواضعات الخطاب فيستأهل بها اندفاق كلام السارد والشخوص ومختلف العناصر الحاملة لصور الحالات والوضعيات، إذ أن النص الذي يفتتح به القاص مجموعته والمعنون ب» ريح يوسف»، يرحل فيه السرد عبر قصة يوسف في متخيل النص القرآني، ثم يعود إلى السرد الطبيعي من خلال المتخيل الحكائي، هكذا نلفي في بنية المتن تقابلا بين يوسفين، الأول موضوع نصي له إطاره التقليدي المعروف في التراث العربي والديني، والثاني ذات متخيلة ضمن أنا الكاتب التي يعوضها كلام السارد في النص الحكائي، لنر هذا التقابل الوارد في النص: « ظللت أردد هذا الكلام، فتجلى أمامي يوسف عليه السلام، وفاحت منه رائحة أخوة قديمة، أنا أخوك يا يوسف، صدقني أنا أخوك، لا أشبهك، ولا أشبه الإخوة، أنا غريب حملتني أرحام بني عقيل، وهم عشرة في عقيل، إلى المغرب الأقصى أو الأقسى، صفه كما شئت ....»6، ومهما نوع الكاتب أسلوبه في التدرج من صورة يوسف الأولى إلى الثانية، فهو يستعيد إنتاج نفس الرسالة التي يثيرها النص القرآني إلى حدود ما هو مرتبط بالواقع المتعفن والشاذ، لأن هذا التنوع يمكنه من تحميل الخطاب معان تستوفي شروط البلاغة السردية، لذلك تتناسل التنويعات في نصوص عدة، كطامو التي تخرج من جلدها الورقي إلى الآدمي في قصة( هيهات)7 ، ونرجس التي صارت وردة طبيعية في نص(نرجس)8 ، ونجمة التي تتلبس بزي زينة حينا ثم تخلعه عنها في قصة(الحب المشتت)9 ، وعائشة التي عبرت بداية نص (نرجس) لتستوطن قلب
نص (حين هطلت برشلونة)10 ، وبذلك أصبحت الحبيبة المغتربة التي تختزل زمن الماضي والذكريات وتستحضر زمن الخيبة والمرارة، فهذه الأساليب المتنوعة التي يتداخل فيها كل من صوت المؤلف والسارد، تجعل السرد معرضا إلى مجموعة من التحويلات التلفظية والملفوظية الخاصة بتجليات التقاطع بين سردين، أولهما يتمثل المسح البانورامي في التقاط التفاصيل وكل ما يرتبط بها، وثانيهما يهم الإطار المشهدي الذي يلملم جزئيات الأحداث والموضوع المنصوص عليه، فبين الأول والثاني هناك رابط بين التقديم والرؤية المصاحبة وبين السرد والرؤية من خلف11 ، لنلاحظ إذن هذا الحوار الذي يجري بين السارد وعزيز:
أربع سنوات من التيه!
لم تقل لي كيف وصلت إلى هنا.
وصلت داخل محرك سيارة!
سيارة من!؟
سيارة مهاجر شرعي، أخذني داخل محرك سيارته مقابل ثلاثة ملايين!
لقد كان سفرا فريدا لا شك (وضحكت).
وصلت إلى الجزيرة الخضراء، كقطعة فحم!12 .
إن السرد الذي ينبني على الحوار يستدعي إشراك المتلقي في الأحداث، ويدفعه إلى الإمساك بتلابيب الجزئيات المترسبة في قعر المتواليات، هذا يظهر من خلال إشارات قد ترد في الحكي بطريقة مباشرة، يقول السارد:
فعلا إنها مفاجأة رائعة وشحتني بها برشلونة هذا المساء.
قلت لك المفاجاة الأروع لم ترها بعد!
ماذا تقصد؟!
عائشة أيضا هنا.
عائشة؟!
نعم وصلت قبل سنة وهي الان متزوجة من إسباني يكبرها بعشرين عاما، وتشتغل معه في مطعم في هذا الشارع.
حقا إنها مفاجأة لكن ليست الأروع!13 .
والحال أن السارد وهو يغامر بتقمصه لأدوار متعددة، ينتقل في نفس الوقت إلى تلفظات أخرى، تتخذ من ضمير الغائب آلية تواصلية خطابية، تستلهم رزنامة من المعاني التي تؤطرها أنساق وأسيقة، وبالتالي تجعل من السرد والخطاب بنية متعدية إلى فعل تحولي يعيد تشكيل التعالق الذي يجمع بين أنسجة النص وما يرمي إليه.
اللغة السردية بين التحول والسخرية:
ماذا يريد الكاتب أن يصنع بلغته السردية خاصة إذا كانت تملك كل مقومات العجيب؟
نستطيع القول، إذن ، ومن هذا المدخل، وعبر العلاقة التي تربط بين الواقعي والفكري، بأن المتخيل الذي ينتسجه الكاتب يتمثل صورا مفارقة في التأطير البنائي للحكاية، والصوغ الأسلوبي الذي ينحرف عن المسار العادي للسرد، لذلك يلاحظ أن هذا الانتقال من الواقعي إلى الغريب، يبدو أنه من عناصر خلق التحول المبني على التوتر والدهشة، وفي نفس الوقت، معرض لتوجيه الخطاب إلى الآخر بصيغة فيها إشارات ارتيابية تشي بالتنكر والسخرية، بحيث تصبح اللغة السردية في العجيب خارقة للنظام المتفق عليه، ومقتحمة من اللامألوف للراهن واليومي اللذين لا يتغيران حسب تعبير روجيه كيوا14 ، وفي نص نرجس نلمح بعض هذه الإشارات، يقول السارد: « قيل حينذاك إنها رأت صورتها في الماء، فانبهرت بها، ثم ارتمت في النهر، وغاصت في أعماقه رغبة في معانقة الصورة التي هي صورتها. وقيل أيضا عن عيشة قنديشة حينما رأتها استولى عليها جمالها، ولم تقدر على مقاومة نيران الغيرة فاختطفتها..»15 ، ففي هذه القصة نرى أن التداخل الحاصل بين شخصية نرجس وعيشة هو أصلا متمثل في درجة التحول من حالة إلى أخرى، لأن نرجس تحاول أن تغالب صراعها المتأرجح بين الحضور والغياب، في حين أن عيشة هي دوما مرتبطة بالغياب والحضور، إذ أن هذه الثنائية التضادية في اللغة السردية، تكاد تطغى على نصوص المجموعة ككل، وبالتالي فإن نفس الصورة تتكرر في نص (الحب المشتت)، يقول السارد: «رأيتها كأنها « نجمة» شبه كبير بين هذه المرأة التي ترسم توترها على الشاشة، وبين امرأة ظلت تكتب غيابها على سبورات الأيام.» نجمة» أي غياب طار بها؟!
كانت تغيب
لكنها مع مطلع كل ربيع كانت تظهر
ملفوفة في الحيرة
ملبدة بالأسرار
تغيب ثم تعود
غيابها كأنه حضور
وحضورها كأنه غياب
ليس ككل غياب»16 .
تتكرر إذن الصورة، وتحاول اللغة السردية من خلالها أن تولد شكا، هذا الأخير يضطلع بمهمة التشويش أو الالتباس، بمعنى أن مسافة التوتر التي هي بين النص والمتلقي تخضع بدورها إلى عنصر الإدهاش أو التردد أو الإبعاد بتمظهراته المفارقة، فلا غرابة أن يكون السارد هو من يقوم بالفعل السردي، لأن وظيفته أساسية وإلزامية17 ، أما اللغة السردية فتنقل كل ما يمكنه أن يكون بخصوص تحولات الأفعال والحالات والوضعيات.
وإذا كان الرهان في المجموعة يستند إلى التحول، فإن ما نلمسه أيضا هو خطاب السخرية كمعادل موضوعي يبني عليه الكاتب أبعاد نصوصه، ففي نص ( حين هطلت برشلونة) نجد مثلا: « ظلت تركب أمواجه، وتردد: « منذ البدء كان الشعر ومن لم يقم علاقة مع الشعر فهو ليس إنسانا!» ظلت وفية لهذا القلق، ومتمسكة بسخرية عنيدة، كانت تسخر من الطلبة وهم يرددون الشعارات بحماس زائد، كما تسخر من البوليس السري الذي كان يتتبع خطواتهم في المقاهي والشوارع ومحطات السفر، تسخر من العادات ومن علاقات الذكور بالإناث، تسخر من أبيها ومن أمها ومن نفسها أيضا كانت تسخر من الجميع. العالم كله عندها مثير للسخرية، ظلت تسخر وتقدم الهزل عن الجد، أشياء كثيرة لم تكن تبالي بها، الشعر وحده كان يكملها. كان يستولي عليها، إنه يقينها الذي يغرقها في عباب القلق»18 ، لمن يتوجه الكاتب على لسان الساردة بسخريته إذن؟ تسخر من كل شيء، وتتغيا محطات مرتبة أفقيا وعموديا، تسخر من الفوضى التي عمت البلاد والعباد، تسخر من ذاتها ومن الآخر باعتباره عنصرا مناقضا لها، ثم تستعيد توهجها وترتمي في أحضان الكتابة، تختتم الساردة النص ب»وجلست أكتب هذه القصة»19 ، وإذا كانت بنيات النصوص في معظمها دائرية، فإنها تحاول أن تأخذ صيغ الأساليب الحكائية المتداخلة والمتقاطعة مع السرد القديم، دون أن ننسى أن الكاتب يحاول تجديد نمط الكتابة القصصسة من منظوره الخاص، بتجريبه لتقنيات الحكي التبئيري والمتفجرالذي يأتي في سياق شعري:
بقيت حائرا، لكن المهم أني كتبتها!
أخيرا كتبتها...
هل تصدقون؟!
أنا لا أكاد أصدق...!20 .
خلاصات
تبدو إذن قصص المجموعة، من خلال هذه القراءة، أنها تتسم بمجموعة من السمات الفنية والجمالية، دون إغماط حقها في محاولة النبش عن المعدن الثقيل الذي يترسب في قاع المجتمع، وقد لاحظنا كيف أن المستوى السردي كان مساوقا للخطاب المحمل بدلالات متنوعة، لا تقتصر على الإشارات فقط، وإنما ترتهن بضبط المقصدية والمراد، في حين أن اللغة السردية في تعدديتها لم تكن منمذجة كما هو شأن لغة القصة التقليدية، بل اتسعت إيحاءاتها لتشمل بنيات تحولية ولها امتدادات سخروية، لأنها تحاول إخضاع النص القصصي في النهاية إلى عنصرين أساسيين، هما: بناء نسقه الاتساقي و تفاعلية انسجام برنامجه السردي من خلال مستويي القراءة والتأويل.
هوامش:
* قدمت  هذه القراءة في إطار توقيع المجموعة القصصية» هيهات» للقاص محمد الشايب، وذلك يومه الأربعاء28مارس2012 بقاعة الخزانة البلدية، وقد نظم اللقاء فرع اتحاد كتاب المغرب بتعاون مع المديرية الجهوية للثقافة بالقنيطرة.
1 سورة المؤمنون(36).
2 أنظر الغلاف الأخير للمجموعة.
3 جاب لينتفلت. مقتضيات النص السردي الأدبي. ترجمة رشيد بنحدو. طرائق تحليل السرد الأدبي.منشورات اتحاد كتاب المغرب.ط1 .الرباط.1991 .صفحة89.
4 محمد الشايب.هيهات. التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع.ط1.صفحة5.
5 المرجع نفسه.صص.56.
6 نفسه.ص6.
7 نفسه.ص11.
8 نفسه.ص17.
9 نفسه.ص25.
10 نفسه.ص33.
11 تزفيطان تودوروف.مقولات السرد الأدبي.ترجمة الحسين سحبان و فؤاد صفا.طرائق تحليل السرد الأدبي.مرجع سابق.ص64.
1213 محمد الشايب.حين هطلت برشلونة.مس.ص34.
14 تزفتان تودوروف.مدخل إلى الأدب العجائبي.ترجمة الصديق بوعلام.دار الكلام.الرباط.طبعة1.سنة1993.صفحة50.
15 محمد الشايب.هيهات.مرجع سابق.ص15.
16 نفسه.ص23.
17 جاب لينتفلت.مقتضيات النص السردي الأدبي.مرجع سابق.ص95.
18 محمد الشايب.هيهات.ص36.
19 نفسه.ص39.
20 نفسه.ص11.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.