ومن شر حاسد إذا حسد

تطرح قضية بيع جريدة «لوموند» الفرنسة العريقة لثلاثة ميليارديرات فرنسيين درسا إعلاميا مرجعيا مهما بالنسبة إلى مدراء الصحف والمؤسسات الإعلامية بالمغرب.
عندما فهمت الشركة الناشرة لجريدة «لوموند» أن حاجتها إلى المال أصبحت ماسة بسبب تراجع المبيعات وانحسار عائدات الإعلانات، قررت أن تفتح رأسمالها وأن تبيع جزءا من أسهمها من أجل إنقاذ السفينة من الغرق.
في فرنسا الأمور تسير بشفافية، وبمجرد ما اتخذت الشركة الناشرة قرار البيع، تم إعلان ذلك في الصحافة من أجل تلقي طلبات العروض. الصراع حول الصحيفة الأكثر إشعاعا في فرنسا كان على أشده بين رجال أعمال وأثرياء مقربين من الرئيس وآخرين مقربين من اليسار المعارض. كل جهة تحاول أن تفوز بنصيب من الكعكة الإعلامية لكي يسهل عليها فيما بعد استعمالها للتأثير على صانع القرار.
في الأخير، ذهبت الصفقة إلى ثلاثي متعاطف مع اليسار، وخرج ساركوزي وأصدقاؤه خاسرين من هذه الصفقة. ستتمكن، إذن، جريدة «لوموند» من الصدور المنتظم لسنوات أخرى قادمة بفضل عملية الإنقاذ هذه، والتي وصلت تكلفتها المالية إلى 100 مليون أورو، أي أكثر من 100 مليار سنتيم، وهي ميزانية تفوق بكثير ميزانيات قطاعات حكومية عندنا في المغرب.
في الدول الديمقراطية التي لديها تقاليد صحافية عريقة، ليس مخجلا أن تعلن صحيفة إفلاسها وتفتح رأسمالها لدخول مساهمين جدد وضخ أموال في خزينتها تمكنها من دفع رواتب صحافييها وطبع منشوراتها. ففي هذه الأزمة الاقتصادية الرديئة تعاني أغلب الصحف في العالم، وليس فقط في المغرب، من أزمة حادة دفعت ببعض المقاولات الإعلامية إلى بيع مقراتها والتخلي عن استثماراتها من أجل المحافظة على صدورها وسداد ضرائبها ورواتب صحافييها ومستخدميها.
الفرق بين أرباب هذه المقاولات الأوربية والغربية وبين أرباب المقاولات الصحافية المغربية أن الأوربيين والأمريكيين يفتحون رأسمال مقاولاتهم بشفافية ويعلنون عن ذلك في الصحافة، فيما عندنا يباشر أغلب أرباب المقاولات الصحافية المحتضرة مفاوضاتهم مع رجال الأعمال في سرية تامة خفية أن يكشف أمرهم زملاؤهم أو الصحافيون العاملون تحت إمرتهم.
وفي الوقت الذي يصمت فيه الجميع عن الحديث عن طرْق أرباب هذه المقاولات الصحافية المحتضرة أبواب رجال الأعمال والسياسيين من كل نوع من أجل بيعهم صحفهم وتخليصهم من ديونهم التي تطوق أعناق بعضهم بشيكات مدفوعة بدون رصيد للمطابع والمزودين، نندهش عندما نسمع ونقرأ أخبارا تتحدث عن مفاوضات سرية من أجل بيع صحيفة ناجحة ومستقرة ماليا في حجم «المساء».
وقد اندهشت عندما بدأت أتلقى مكالمات هاتفية تسألني عن ثمن البيع وعن الجهة التي ستشتري أسهما في «المساء». فكنت أرد ضاحكا على تساؤلات هؤلاء الفضوليين بالجواب نفسه الذي رددته دائما، وهو أن هذه الجريدة تباع في مكان واحد فقط وهو الأكشاك. وقد عاهدنا قراءنا على عدم بيع أي سهم فيها لأي كان، حتى ولو أعطانا مقابله مال قارون. وفي اليوم الذي سنشعر فيه بأننا لم نعد قادرين على الاستمرار سننزل «الريدو»، ولن نبيعها لأحد. فنحن نفضل أن ندفن هذه التجربة نظيفة على المتاجرة بها في سوق النخاسة.
هذا عهد قطعناه على أنفسنا أمام قرائنا، وفي اليوم الذي سنخون فيه العهد ما على قرائنا سوى أن يقولوا لنا «سيرو الله يمسخكم».
المصيبة أن إشاعة بيع «المساء» خرجت من أوساط صحافية مقربة من دوائر الجرائد المحتضرة التي تبحث ب«الريق الناشف» عن منقذ يشتريها ويدفع عنها ديونها حتى لا يذهب مسؤولوها إلى السجن بسبب الشيكات بدون رصيد التي دفعوها من دفاتر شيكاتهم الخاصة للمطابع على سبيل الضمانة.
لماذا، إذن، يخجل مدراء هذه الجرائد من نشر إعلان في الصحافة عن رغبة أصحابها في بيعها أو فتح رأسمالها أمام مساهمين جدد يضخون في حساباتها البنكية الجافة السيولة الكافية لتحريك عجلاتها الغائصة في الوحل؟ لماذا يفضلون الاتصال سرا برجال أعمال وسياسيين أثرياء من أجل عرض جرائدهم للبيع أمامهم؟
هل المسألة مخجلة بالنسبة إلى بعضهم إلى هذا الحد؟ أعتقد أن الأمر لا يحتمل كل هذا الحرج. فجريدة «لوموند» العريقة نفسها، التي ظلت منذ ثمانين سنة ملكا لصحافييها والعاملين فيها، وجدت نفسها مجبرة على فتح رأسمالها أمام الأثرياء ورجال الأعمال من أجل الاستمرار على قيد الصدور.
وليس هناك أي عيب في اعتراف بعض أرباب الصحف باستحالة البقاء دون اللجوء إلى بيع جزء من أسهم الجريدة لرجال أعمال أو سياسيين يبحثون عن ذراع إعلامية لأحزابهم التي تشكو من إعلامها الحزبي المعطوب.
لكن، هل يكفي أن يبحث مدير مؤسسة إعلامية تحتضر عن مشتر اليوم لكي يعثر عليه في اليوم الموالي؟
الأمر ليس بالسهولة التي يتصورها البعض. والقاعدة الذهبية عند رجال الأعمال والمستثمرين هي اشتراط الربح في الصفقة التي سيصرفون من أجلها أموالهم. وبالنسبة إلى من يشتري جريدة في حجم ومكانة «لوموند»، فهو يعرف مسبقا أنه اشترى مؤسسة إعلامية ذات رصيد معنوي كبير ومؤثر في صناعة القرار الفرنسي. وإذا كانت «لوموند» تعرف عجزا ماليا اليوم فربما غدا يجني المساهمون أرباحا من ورائها بفضل هذا الاستثمار.
عندنا في المغرب لم يتسرب شيء من جلسة المفاوضات حول بيع أسهم في جريدة «الجريدة الأولى»، المتوقفة عن الصدور، لعمدة طنجة سمير عبد المولى المنتمي إلى حزب الأصالة والمعاصرة، والتي جمعت في فندق موفينبيك» بطنجة العمدة بعلي أنوزلا، مدير «الجريدة الأولى»، وتوفيق بوعشرين، مدير «أخبار اليوم المغربية».
وقد اعترف العمدة بعظمة لسانه، في الحوار الذي أجرته معه «المساء»، بأن المفاوضات معه لم تنجح، لسبب بسيط هو أن مالكي «الجريدة الأولى» قالوا له إن رأسمال الشركة ملياران من السنتيمات، ولذلك فخمسون في المائة من أسهم الشركة كانت «ستطلع» عليه بمليار سنتيم، فتراجع العمدة وقال لهم «الله يجيب ليكم التيسير».
وإذا أخذنا في الاعتبار ديون الجريدة التي قدرها بعضهم بحوالي مليار و200 مليون سنتيم، وأضفنا إلى ذلك مبيعات الجريدة التي لم تكن تتجاوز الخمسة آلاف نسخة في أحسن الأحوال، فإننا نفهم لماذا لم تسل الصفقة كل اللعاب الذي تخيل أصحابها أنها قادرة على إسالته.
وهؤلاء القراء القلائل الذين لم يكن عددهم كافيا لاستمرار الجريدة في الصدور هم أنفسهم القراء الذين شكرهم واعتذر إليهم مدير نشر الجريدة علي أنوزلا عبر بيان أصدره قال فيه إنه مضطر إلى التوقف عن الصدور لأسباب مالية، قبل أن يأتي إلى نشرة أخبار «الجزيرة» ويتحدث عن محاصرة جريدته إشهاريا من أجل خنقها. والحال أن الحصار الوحيد الذي عانت منه الجريدة هو حصار المبيعات. وبالتالي، فليس هناك معلن أحمق يقبل أن ينشر إعلاناته في جريدة لا يتصفحها أكثر من خمسة آلاف قارئ.
وعندما فشلت صفقة بيع «الجريدة الأولى» لعمدة الأصالة والمعاصرة بطنجة، وأغلقت الجريدة أبوابها وظلت ديونها متراكمة عند المطابع والدائنين، عاد مدير «أخبار اليوم المغربية» إلى الاتصال بعمدة سابق وملياردير، ينتمي إلى حزب سياسي مشارك في الأغلبية الحكومية، لكي يعرض عليه صفقة شراء جريدته التي تعاني هي الأخرى من متأخرات أداء لدى المطبعة بسبب انحسار المبيعات، وبالتالي جفاف الإعلانات. فيبدو أن مدير «أخبار اليوم المغربية» استفاد من درس زميله مدير «الجريدة الأولى»، ففكر في الخروج بأقل خسارة ممكنة.
وأعتقد صادقا بأن «المساء» إذا كانت قد ارتكبت «خطيئة» ما فهي أنها أعطت لبعض الصحافيين أملا خادعا في قدرتهم على إطلاق جرائد ومقاولات إعلامية في لمح البصر وإنجاحها على مستوى الانتشار والقراءة، وبالتالي الحصول على نسبة من سوق الإعلانات. فمنذ انطلاق «المساء»، نزلت إلى جانبها في الأكشاك يوميات كثيرة انقرضت بعد فترة وجيزة من ظهورها. فقد اختفت «صوت الناس» وبعدها «يومية الناس»، ثم «الصحيفة» بعد تحولها إلى يومية، وتبعتها «الجريدة الأولى». وفي كل يوم تولد فيه يومية جديدة في المغرب، تنبش في مقبرة الصحف حفرة جديدة لطمر تجربة مفلسة ودفن الخسارة المالية التي تكبدها لأصحابها.
لحسن الحظ أن هناك يوميات ناجحة، إضافة إلى «المساء»، استطاعت أن تجد لها قراء أوفياء يشترونها ويرتاحون لخطها التحريري. ولعل نجاح البعض هو ما يغيظ الفاشلين، الذين يعتبرون نجاح الآخرين سببا مباشرا في فشلهم، فيشرعون في اختلاق الأكاذيب حولهم ورميهم بالباطل. «والله ينجيك من المحساد».
ولعل الجميع يعرف أن مديري هاتين الجريدتين، اللتين توقفت إحداهما فيما الأخرى تعاني يوميا من أجل الصدور، كانا يشتغلان في «المساء» قبل أن يقرر كل واحد منهما تأسيس جريدته الخاصة والتحليق بجناحيه. ولسوء الحظ، لم تكن مبيعات جريدتيهما في مستوى ما كانا يتطلعان إليه، بالنظر إلى الحجم الذي كانا يتخيلان به نفسيهما عندما كانا في حضن «المساء».
مشكلة الزميلين المديرين الكبيرة اليوم هي اكتشافهما لحجمهما الحقيقي بعد نزولهما إلى أرض الواقع وفي الميدان. وهو اكتشاف لم يرق لأي واحد منهما بالتأكيد، ولذلك فأقسى الضربات ضد «المساء» جاءت على يديهما. وسيأتي أوان شرح ذلك بالتدقيق، للذكرى والتاريخ.
لكن هذه الضربات الواهية، من جانبهما، كما من جانب زملاء آخرين أحسنت إليهم «المساء» وصنعت لهم أسماء بعد أن كانوا نكرات، لم تكن لتزعزع ثقة القراء بجريدتهم المفضلة.
ولذلك تستمر «المساء» اليوم رائدة على مستوى الحضور والانتشار والمبيعات والتأثير. كل هذا بفضل الله أولا، وبفضل القراء و«رضات الوالدين» ثانيا.