يوم اختفى الناشط الصحراوي محمد بصيري، بعد اعتقاله في الصحراء، لم تكن جبهة البوليساريو قد أعلنت وجودها الذي رعته الجزائر وجهات إسبانية متشددة، كانت على وئام مع الطرح الانفصالي في بداية سبعينيات القرن الماضي. ويكشف الإقرار بهذه الحقيقة إلى أي مدى تسعى بعض الأوساط الإسبانية إلى تبرئة ذمة بلادها حيال التورط في افتعال قضية الصحراء التي ما كان لها أن تتخذ الأبعاد التي وصلت إليها، لو لم تكن هناك أياد جزائرية وإسبانية ضالعة في حبك سيناريوهات التوتر. مع افتراض أن إعادة طرح قضية الناشط بصيري من طرف أوساط إسبانية يراد منها إماطة اللثام عن فترة حرجة في التاريخ الإسباني الذي يكاد يشابه وضع فرنسا في الجزائر، يوم لم تكن تتصور أنها سترحل عن بلد المليون شهيد، فإن الثابت أن السلطات العسكرية والإدارية الإسبانية كانت وراء تأسيس جبهة البوليساريو، إلى درجة أنه خلال زيارة بعثة الأممالمتحدة إلى المنطقة عام 1974، لوحظ كيف أن العربات العسكرية الإسبانية كانت تحمل نشطاء الجبهة إلى أي نقطة تحل بها بعثة تقصي الحقائق، عدا عن أن السلطات الإسبانية كانت أكثر تساهلا في السماح لهم بترديد الشعارات وحمل اللافتات، للإيهام بوجود طرف آخر غير المغرب له مطالب ترابية في الإقليم. وإذا أفلحت جهود أوساط إسبانية في استقراء أحداث سبعينيات القرن الماضي، عندما كان نظام الجنرال فرانكو يسعى إلى إلحاق الساقية الحمراء ووادي الذهب بإسبانيا، عن طريق منح الإقليم شبه حكم ذاتي، فإن ذلك سيساعد في إعادة ملف الصحراء إلى نقطة الصفر، إن لم يكن على صعيد الواقع الذي عرف تطورات عدة، فعلى الأقل بالنسبة إلى تسجيل حقائق تاريخية ما زال مفعولها مؤثرا في مسار الأحداث. ففي داخل إسبانيا كما في كل بلاد الدنيا، هناك مفكرون ورجالات دولة ونخب متنورة يعنيها، دائما، تصحيح الأخطاء!... أدركت إسبانيا، على امتداد المواجهات مع المغرب لاسترداد أجزاء مغتصبة في الشمال والجنوب، أن هذا البلد هو المحاور الوحيد في كل القضايا المرتبطة بتصفية الاستعمار. ومن بين الحقائق التي تؤكد ذلك أنه لدى أسر قبائل صحراوية جنودا إسبانا في نهاية ستينيات القرن الماضي في الساقية الحمراء ووادي الذهب، اضطرت إلى محاورة السلطات المغربية لإطلاق سراحهم، وكان الملك الراحل محمد الخامس المحاور الذي استجاب لطلب إسبانيا، وإن كانت هذه الأخيرة عرضت عليه وقتذاك إبرام اتفاق يسمح للمغرب باستعادة الأقاليم الجنوبية، في مقابل التخلي عن مطالب السيادة على مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين شمال البلاد، لكنه رفض بشدة ذلك الاقتراح، لأنه في أمور السيادة لا مجال لأي تساهل ولا معنى لأي تقادم. بيد أنه منذ ذلك الوقت ما زالت نفس الفكرة تتأثر بنفوذ متزايد لدى الجيران الإسبان، إذ إنهم في غالبيتهم يعتبرون أن تسوية ملف الصحراء نهائيا، سيعيد فتح ملف المدينتين المحتلتين، وهذه نظرة محدودة وغير عقلانية، لأن الملفين، بالرغم من اختلافاتهما، يندرجان في صلب قضية واحدة ومبدئية تشمل بسط السيادة غير الخاضعة لأي مساومة، وسيأتي زمن ينتفض فيه إسبان متنورون ضد استمرار احتلال المدينتين. المشكل لدى الإسبان أنهم بالقدر الذي كانوا يبدون فيه دعما للقضية المغربية في مواجهة الاحتلال الفرنسي، بالقدر الذي كانوا أكثر تشددا عندما يتعلق الأمر بالاحتلال الإسباني الذي لا يختلف في جوهره عن أي احتلال، وبالتالي فإن إزاحة الستار عن قضية الناشط بصيري يجب أن تكون جزءا من استقراء الحقائق التاريخية غير المرتبطة بالفترة الاستعمارية، لاسيما أنه من غير المقبول أن تبقى إسبانيا البلد الأوربي الوحيد الذي ما زالت له جيوب استعمارية خارج الحدود الترابية لإسبانيا. غير أن ما يلفت الانتباه في قضية الاختفاء الغامض للناشط الصحراوي بصيري الذي عرف عنه تشبثه بالوحدة والهوية الوطنية، أن تصفيته جاءت في نطاق حملات شرسة قادتها السلطات الإسبانية ضد المد التحرري الوحدوي، تماما كما تعرضت فصائل المقاومة وجيش التحرير إلى أبشع مظاهر التحالف الاستعماري بين الفرنسيين والإسبان في معارك شهيرة كادت تعصف بالوجود الإسباني في المنطقة. وفي مقابل مظاهر التصفية والاضطهاد وأنواع البطش الاستعماري، كان يتم احتواء واستقطاب الأصوات المتعاونة والمتعاملة مع الإسبان، ولم يكن غض الطرف عن تأسيس جبهة البوليساريو إلا جبل الثلج الذي يخفي المنطق الاستعماري الذي يعمل وفق نظرية تشجيع الموالين له. عندما اضطرت إسبانيا إلى الانسحاب من الساقية الحمراء ووادي الذهب، تحت ضغط الدينامية التي فجرتها المسيرة الخضراء، تحدث سلمي سابق في نوعيته التي حققت المشاركة الجماعية في حرب التحرير والوحدة بمنهجية سلمية أدهشت الجميع لجأت، بتواطؤ مع السلطات الجزائرية، إلى خلق مشكلة من نوع آخر، تكمن في افتعال وجود طرف آخر معني بمستقبل الإقليم، ولم يكن غير جبهة البوليساريو التي رعت الجزائر أول مؤتمر لها في عهد جنرالات إسبان، إلى تأمين الحماية للتيار الانفصالي للإبقاء على التوتر في المنطقة. ولعل هذا التواطؤ هو ما يفسر حنين قياديين ومنتمين إلى الجبهة إلى الحماية الإسبانية، في سابقة لا مثيل لها في التاريخ، إذ يحتمي طالب التحرير بالبلد الذي كان يستعمره. ومن هذا المنطلق، يمكن اقتفاء أثر التصفية التي تعرض لها بصيري ومناضلون وحدويون آخرون. والأكيد أن استقراء حيثيات المرحلة من طرف الإسبان أنفسهم يتطلب جرأة حقيقية في كشف مناطق الظل التي أسهمت إلى حد كبير في تعقيد المشكل، من خلال خلق المزيد من الأطراف المتصارعة، مع أن قضية تصفية الاستعمار في جوهرها سجلت في وثائق الأممالمتحدة بتوقيع مُطالب وحيد وشرعي هو المغرب، فهل تستطيع النخب المتنورة في إسبانيا أن تزيل عن كاهل بلادها هذا الثقل الذي ستظل تحمله، مادام الكتاب لم يقرأ بعد، وما دامت صفحاته موزعة بين الوثائق والأرشيفات والفصول؟ إنه مجرد سؤال يجد صداه في حتمية عودة الوعي، ولو بعد سنوات، فالتاريخ يبدأ من استحضار فصول الماضي ثم التطلع إلى المستقبل...