من المفترض، وبعد تسعة عشر شهرا من بدء الانتفاضة السورية، أن تكون الأمور أكثر وضوحا، وأن يكون غبار المعارك قد هدأ، وتمت عملية الحسم العسكري لهذا الطرف أو ذاك، ولكن الحقيقة مغايرة لذلك تماما على الأرض وفي كواليس السياسة العربية والدولية. كنا ننتظر أن يقدم إلينا السيد الأخضر الإبراهيمي، المبعوث الدولي المخضرم والخبير في النزاعات والحروب الأهلية، صورة أوضح، وملامح مخارج من الأزمة أفضل من النقاط الست لسلفه كوفي عنان، وهو الذي يجيد اللغة العربية، ولكنه وفي التقرير الذي قدمه إلى مجلس الأمن الدولي فسّر الماء بالماء، عندما قال «إن الحرب في سورية تتفاقم، وإن النظام الذي التقى رئيسه لعدة ساعات يزداد قناعة بأن الحرب الدائرة في البلاد هي مؤامرة من الخارج»، بالنظر إلى تدفق المقاتلين الأجانب إلى سورية وفاق عددهم 5000 مقاتل. فإذا كان السيد الإبراهيمي لا يملك أي «خطة عمل» في الوقت الراهن، وخطة عنان تبقى «أفضل سبيل»، فلماذا قبل هذه المهمة، ولماذا أفشلت القوى المتصارعة على الأرض السورية مهمة الأخير؟ أسئلة كثيرة محيّرة، وما هو أكثر حيرة منها هو اجتماع المعارضة الداخلية في قلب مدينة دمشق بحضور سفراء روسيا والصين وإيران والجزائر، وإصدار بيان ختامي ليس بإطاحة الرئيس بشار الأسد بل تفكيك النظام السوري، مما يضمن بناء الدولة الديمقراطية المدنية والتأكيد على نبذ الطائفية، وكل ما من شأنه تقسيم المجتمع على أسس ما دون الوطنية، مع التأكيد في الوقت نفسه على النضال السلمي كاستراتيجية ناجعة لتحقيق أهداف الثورة. كلام جريء وشجاع، لأنه يقال من داخل عرين الأسد، ولكن ما هو محيّر إقدام المخابرات الجوية السورية على اعتقال السيد عبد العزيز الخير واثنين من زملائه، أعضاء هيئة التنسيق نفسها، بعد وصولهم من بكين مباشرة التي زاروها بدعوة من القيادة الصينية. الدكتور هيثم منّاع، أحد أبرز قادة هيئة التنسيق، هو الذي اتهم المخابرات الجوية باعتقال زملائه، وطالب بالإفراج عنهم فورا، وهو ما لم يحدث حتى كتابة هذه السطور، وقد لا يحدث قريبا حسب تجارب سابقة تحفل بها ملفات المعتقلين في أقبية المخابرات السورية. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: إذا كانت السلطات السورية تتحمل عقد مثل هذا المؤتمر للمعارضة الداخلية الذي يطالب بسقوط كل رموزها، بمن في ذلك الرئيس، فلماذا تعتقل السيد الخير وزملاءه، وهم الذين زاروا دولة حليفة لهم، ولم يزوروا واشنطن أو باريس أو الدوحة أو الرياض؟ ثم ماذا يمكن أن يطالب هؤلاء القيادة الصينية أكثر مما قاله زملاؤهم في المؤتمر حتى يتعرضوا للاعتقال؟ ألغاز ولوغاريتمات كثيرة صعبة التفسير تزداد صعوبة مع استمرار الأزمة السورية، وتواصلها شهرا بعد شهر، في ظل ارتفاع مرعب لأعداد القتلى واللاجئين في الداخل والخارج. المجلس الوطني السوري الذي كان ملء السمع والبصر في فترته الغليونية الأولى، تراجعت مكانته كثيرا لصالح القيادات الميدانية للجيش السوري الحر، وباتت مسألة التمثيل السياسي للمعارضة تمرّ بمرحلة تنطوي على الكثير من الضبابية. فأين الحكومات الانتقالية، وأين المؤتمرات التوحيدية، واللقاءات مع المسؤولين العرب والأجانب؟ ما يؤلمنا هو ما يلحق بالشعب السوري من عذابات في ظل عمليات القتل والدمار التي تتعرض لها بلاده، والتنكر العربي والدولي له في ظل استمرار النظام في حلوله الأمنية الدموية وعسكرة انتفاضته، وتدفق المقاتلين العرب والأجانب. السيد الإبراهيمي قال لأحد أصدقائه إنه أصيب بصدمة مما شاهده في مخيم الزعتري في الأردن، حيث يقيم حوالي خمسين ألف لاجئ سوري في ظروف معيشية لا تليق بالحيوان، وأنا أنقل وصفه حرفيا. هذا الشعب الكريم الذي لم يقم مخيما واحدا لمليون لاجئ عراقي تدفقوا عبر حدوده، ومن قبلهم 200 ألف لبناني أثناء الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في حرب يوليوز عام 2006، وقبلهم مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، هذا الشعب تقفل الحدود في وجهه ويواجه بنكران الجميل، بل محاولة استغلال بناته بشكل بشع من قبل بعض المهووسين جنسيا من بعض الذين يدعون حمايته ومساعدته في محنته طلبا للتغيير الديمقراطي المشروع. السوريون فتحوا قلوبهم قبل بيوتهم لكل اللاجئين العرب، واستوعبوا أبناءهم في مدارسهم، وعالجوهم في مستشفياتهم على قدم المساواة مع أبنائهم، واقتسموا معهم لقمة الخبز، يواجهون الآن بنكران الجميل وغلق الحدود، ويتعرضون لابتزاز السماسرة السياسيين قبل منتهزي الفرص وتجّار الحروب. لم تعد المسألة توجيه اللوم إلى هذا الطرف أو ذاك. وقبل أن توجه إلينا الحراب المسمومة الجاهزة، نقول بأعلى صوت إن النظام هو المسؤول الأكبر، ولكن المهم الآن هو البحث عن طريقة لإنقاذ هذا الشعب، وإنقاذ هذا البلد من الدمار، فهذا يتقدم على كل المزايدات وتبادل الاتهامات. تسألون ما هو الحل؟ أجيب: إذا كانت الأممالمتحدة وقبلها الجامعة العربية، والولايات المتحدة فيما بينهما، وفوق كل هذا وذاك تركيا، عجزت جميعا عن إيجاد الحلول فهل نستطيعها نحن؟ ما يمكن أن نقوله إن الشعب السوري هو الذي يدفع الثمن من دمه وأمنه ووطنه، والكاسب الأكبر هم تجّار الحروب، والذين يقفون خلفهم ويريدون تمزيق هذا البلد وتدمير جيشه، وكسر كرامته، لمصلحة أعداء هذه الأمة.. وما أكثرهم.