ما كاد الربيع العربي يستقر في بعض بلدانه حتى توترت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من جديد، وهو ما دفع حكومات هذه البلدان، بما فيها المغرب، إلى الحديث عن وجود مؤامرات ومتآمرين ضد ثورة الشعوب العربية وضد السير نحو الديمقراطية. الحديث عن المؤامرة ليس وليد اليوم، بل هو فعل تكرر في الأمم السابقة، ومن الحكام وبعض المحكومين في جميع الأزمنة؛ ففي القرآن الكريم نماذج عن المؤامرة، لعل أبرزها حديث فرعون عن وجود مؤامرة تحاك ضد مصر واستقرارها، مذكرا بأنه لا يوجد إله غيره وأنه يملك من الأنهار وزينة الدنيا ما ينافس به أي إله إنْ وجد في اعتقاده. بالمقابل، جاء رجل إلى موسى، عليه الصلاة والسلام، ليخبره بأن فرعون وملأه وحكومته يتآمرون لقتله ونصحه بالخروج من مصر. وهذا المثال القرآني يؤكد أن فكرة التآمر موجودة، حيث وجد صراع بين سلطة ودعوة إصلاحية، ولا أقول صراعا بين خير وشر. وفي السيرة النبوية، ورد أن قريشا همّها أمر محمد، صلى الله عليه وسلم، وأمرُ انتشار دعوته فاجتمع أمر قريش مع جميع القبائل على قتل محمد، صلى الله عليه وسلم في ليل، لكن هذه المؤامرة أفشلها الله تعالى بعد أن أفشل مؤامراتهم وخططهم المتكررة لوأد الدعوة الإسلامية الجديدة. ففعل التآمر ينبع، كما يعلمنا القرآن والسنة، من أشخاص يخافون من الإصلاح ومن التغيير ويخافون على مصالحهم المعنوية والمادية؛ كما أن فعل التآمر يدفع الكثير من الناس إلى الانقياد واتباع من يملك أدوات التأثير في الرأي العام، كالإعلام والدعاية وغيرهما، فيصبح حال هؤلاء الناس، في مشهد الآخرة المتعلق بالإيمان والتدين، أنهم يشتكون من مكر الليل والنهار الذي مارسه عليهم من يسيطر على أدوات التأثير هذه. لمن يؤمن بأن القرآن «نص تاريخي» فقط وكذا السنة النبوية، أقول إن التاريخ جُعل للاعتبار والاستفادة من دروسه وعبره وسننه، وهذا يكفي لأنْ نأخذ من هذين المصدرين ما ينفعنا في أمورنا الدنيوية التي نحن أعلم بها كما يقال. فعل المؤامرة لم يرد في سياق ديني فقط، بل ارتبط بالسياق السياسي والاحتلالي أيضا، فوعد بلفور الشهير -مثلا- الذي ظهر في سنة 1917 يعتبره كثير من العرب وغيرهم مؤامرة دولية منحت الصهاينة «حقا» لاحتلال فلسطين باعتبارها «أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض». لم يستسغ العرب والمسلمون المؤامرة، وحاولوا دفعها بالمواجهة العسكرية وبإنشاء هيئات إسلامية وعربية، لكنها محاولات لم تفلح إلى يومنا هذا في أن تجمع العرب والمسلمين على كلمة سواء واحدة بشأن قضية مركزية كقضية فلسطين، وذلك بفعل التآمر الذي يقول زعيم عربي إن زعيما عربيا آخر أو أكثر يقوم به. وفي 11 شتنبر 2001 ظهر ما اعتبره غربيون وعرب وغيرهم مؤامرة جديدة لتبرير السيطرة الأمريكية على العالم، وخاصة العالم العربي من خلال محاربة ما يسمى الإرهاب الذي اتهم العرب والمسلمون بممارسته ضد «العالم الحر». وفي دجنبر 2010، فوجئ العالم أجمع باندلاع ثورة شعبية ضد زعيم دولة بوليسية بامتياز، وبشهادة القريب والبعيد، إلى درجة دفعت وزيرة خارجية فرنسا آنذاك إلى التصريح بأن بلادها مستعدة لمساعدة نظام زين العابدين بن علي بأدوات وأسلحة لمواجهة المظاهرات. لكن لهيب ثورة تونس لم ينطفئ، بل انتقل إلى مصر ثم إلى ليبيا والمغرب واليمن والبحرين والأردن وسوريا.. هذه الثورات وصفتها الأنظمة القمعية بكونها مؤامرة، وقالت إن القصد منها هو ضرب استقرار البلاد وإرباك نموذجها الاقتصادي، فقد ردد العقيد الليبي معمر القذافي والرئيس اليمني المخلوع علي صالح ذلك مرارا على شعبيهما، وقالا إنهما يواجهان مؤامرة غربية عربية، كما أن الرئيس بشار الأسد ما لبث يردد إلى اليوم أنه يواجه مؤامرة دولية بأدوات عربية. هؤلاء الحكام لا يمثلون ولا يتبنون الأفكار ولا النهج ولا المرجعية الإسلامية في الفكر والحكم حتى نقول إنهم مرضى بداء المؤامرة، بل هم من القوميين والاشتراكيين، كما يقول مفكرون عرب، أما القذافي فكانت له نظرة جديدة في الفكر والحكم بسطها في كتابه الأخضر. أما الغرب فلم يتنبأ بالمفاجأة العربية ولم يساهم في اندلاع الثورات، بل سعى إلى وأدها في المهد؛ وعندما فشل ركب الموجة من أجل المحافظة على مصالحه. أما في المغرب، فلم يشارك بعض الإسلاميين في مظاهرات 20 فبراير 2011 خوفا من هذه المبادرة التي لا يعرفون من يقف وراءها ولا أهدافه ولا مآلاتها على البلاد والمغاربة. غير أن زخم 20 فبراير لا يزال مستمرا إلى الآن رغم انسحاب مفاجئ للعدل والإحسان من هذا الحراك الاحتجاجي، كما أن الملك المغربي محمد السادس بادر في 9 مارس إلى إلقاء خطاب وتعيين لجنة لكتابة دستور جديد، فيما اعتبره البعض وعيا باللحظة التاريخية وتحولاتها، مما أفضى إلى منح الحكومة بعض الصلاحيات. في ظل هذا الربيع العربي وهذه التحولات، أجريت الانتخابات في تونس ومصر والمغرب خاصة، حيث فاز الإسلاميون المشاركون في العملية الديمقراطية بغالبية مقاعد البرلمان، فبدأت الأحزاب الصغيرة تتحدث عما سمته «الشراكة في الحكم» وتدعو إلى عدم السيطرة على الحكومة بدعوى أن الديمقراطية تقتضي أن يسير البلاد الشعب بكامله، أغلبية وأقلية، في استثناء عربي عجيب؛ إذ إن الديمقراطيات الغربية تبين أن من يفوز بالأغلبية يشكل حكومته ويطبق برنامجه السياسي، أما في العالم العربي فعلى الحزب الأغلبي أن يطبق برنامج الأقلية الخاسرة (عجبا!) وإلا عدّ دكتاتوريا وشموليا. وكان الأجدى بهؤلاء «الديمقراطيين المستهترين» أن يتركونا نراقب ما سيفعله الفائزون والحاكمون الجدد حتى نقيم إنجازاتهم في المحطة الانتخابية المقبلة بعد سنوات قليلة، لا أن يعطونا ذريعة ومبررا لتفهم العوائق التي واجهتهم. ورغم ذلك، شكل هؤلاء الإسلاميون الفائزون تحالفات وحكومات توافقية وبدؤوا في إدارة بلدانهم. لكن هذه الحكومات بدأت هي الأخرى تشكو من مؤامرة ومن متآمرين ضد الحكومة والثورة والمسار الديمقراطي بعد أن بدأ الشارع يتحرك وقوى تعاكس وأخرى تعمل عملها. واشتكت هذه الحكومات، التي يتزعمها إسلاميون في مصر وتونس والمغرب، من مؤامرة تصرف من خلال الإعلام الذي تتهمه بكونه لا يزال تحت سيطرة أصحاب التمويل من ذوي المصالح في استمرار الأوضاع على ما هي عليه، أو يتخوفون من تضرر مصالحهم أو من فقدانها مستقبلا. وتقول هذه الحكومات إن الإعلام لا يبرز رأيها إلى جانب الرأي الآخر المعارض لها، وأنه يدفع باتجاه التأزيم لا البحث عن المناطق المضيئة وعن الحلول، وأنه بدل أن يقدم قراءة نقدية للمشهد السياسي ككل ويراقب كل مسؤول على قدر مسؤوليته ويحاسبه على ما لديه من صلاحيات، يوجه الإعلام سهامه النقدية واللاذعة إلى الحكومة فقط، وهذه النقطة الأخيرة وجيهة وصحيحة، لا أدري لماذا يتغاضى عنها الإعلام رغم أنه يدعي المهنية والتوازن والموضوعية. والثابت أيضا أن من سيتضرر من أي تحول إيجابي، سواء كان من الداخل أو من الخارج، من الدول العربية أو الغربية، لن يقف مكتوف الأيدي كما يعلمنا التاريخ، بل سيعمل على العرقلة والتشويه والكذب والتزييف والتمويل وغيرها من الوسائل التي نعرفها والتي لا نعرفها في زمن ويكيليكس وتسريباته. إن فعل التآمر لن يتوقف من أجل هذا الطرف أو ذاك، بل هو فعل له جذور تاريخية وامتدادات في حاضرنا، وفي المستقبل أيضا، وسيصدر ممن لا يعير القيم والمبادئ أي اهتمام بل يتخذها مطية لتحقيق أهدافه وتأمين مصالحه ونفوذه، كما سيصدر ممن يبحث عن شهوة المال والسلطة. لكن ما ينبغي فعله إزاء أي مؤامرة، إن صارت معلومة المصدر والوسائل والغايات، ليس هو الحل الأمني العسكري كما يفعل النظام السوري، الذي رفض جميع المبادرات العربية التي سمحت لحزبه ونظامه بالبقاء دون شخصه واختار مواجهة «المؤامرة الدولية التي تنفذها أياد عربية» بإحراق سوريا ونسي أن القيادة الحقيقة هي التي تجهض المؤامرة بالمحافظة على الوطن وقدراته وبنياته وسيادته لا أن تنفذها (المؤامرة) بنفسها. إن الحل الأمثل هو كشف المتآمرين وخططهم وأهدافهم، وإفشالها بالمبادرة إلى طرح حلول عملية ترضي أهواء الطرف الخصم القوي لكنها تحافظ في الوقت نفسه على مكتسبات الوطن وبنياته وخيراته واستقراره وتطوره الديمقراطي، كما على المتآمر عليهم أن يستغلوا كل الإمكانيات التي لديهم، وخاصة وسائل الإعلام الجديد لكشف المؤامرات والخطوات التي ستسلكها حتى لا يتركوا مجالا للمتآمرين لاستغفال الناس وتضليلهم عبر الإعلام والدعاية وغيرها من الوسائل التقليدية والحديثة والحؤول دون آمال الشعوب في الحرية والعدالة والكرامة. عبد الحكيم أحمين