الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة 1. الرئيسية 2. آراء في غياب التقنين: اليوتيوب تحت مجهر القضاء برعلا زكريا الثلاثاء 27 ماي 2025 - 15:05 أصدرت اللجنة المؤقتة المكلفة بتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر بالمغرب قرارها برفض تجديد بطاقة الصحافة المهنية لحميد المهداوي، وهو القرار الذي أيدته المحكمة الإدارية بالرباط بحكمها الصادر في 22 ماي 2025. وبعيدا عن أي اعتبارات شخصية يثير هذا القرار، تساؤلات جوهرية وعميقة حول معايير الولوج لمهنة الصحافة في العصر الرقمي، والحدود الفاصلة بين حرية التعبير، المكفولة دستوريا للجميع، والممارسة الصحفية المنظمة التي تتطلب التزامات مهنية وقانونية محددة. وعوض الانخراط في الجدل الدائر بين تأييد أو معارضة الأشخاص يستحسن البحث بعدسة موضوعية عن أبعاد هذا القرار، مع التركيز على الجوانب القانونية والمهنية التي شكلت أساسه. ينظم القانون المغربي، لا سيما القانون 89.13 المتعلق بالنظام الأساسي للصحافيين المهنيين والقانون 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، شروط اكتساب صفة الصحافي المهني. وتشدد هذه النصوص على ضرورة أن تكون الصحافة هي المهنة الرئيسية ومصدر الدخل الأساسي، سواء عبر أجر قار من مؤسسة صحفية قائمة أو كدخل رئيسي موثق للصحافي الحر. غاية المشرع من هذه النصوص لم تكن يوما التضييق على الأصوات أو الحد من حرية الرأي، بل وضع سياج قانوني يهدف إلى حماية مهنة الصحافة ذاتها من الدخلاء، وضمان حد أدنى من الاحترافية والمسؤولية لدى حاملي بطاقتها، التي تخولهم حقوقا وتفرض عليهم واجبات. وقد استندت المحكمة الإدارية في قرارها، المؤيد لقرار اللجنة المؤقتة، إلى معطيات موضوعية تتعلق بعدم تطابق مصدر الدخل الأساسي لحميد المهداوي مع ما يشترطه القانون للصحافي المهني، فضلا عن طبيعة النشاط الضريبي لشركته الذي لم يصنف كنشاط صحفي. هذه العناصر، من منظور قانوني صرف، تشكل أساسا متينا للقرار المتخذ. بالانتقال إلى طبيعة الممارسة الإعلامية لحميد المهداوي عبر منصة يوتيوب، تبرز عدة ملاحظات تستدعي التأمل من زاوية مهنية بحتة، وهي ملاحظات لا تتعلق بشخصه بقدر ما تتعلق بأسلوب عمله ومنهجه. يلاحظ غياب هيكلة برامجية واضحة المعالم في الكثير من المحتوى المقدم، فالمواد غالبا ما تبث في شكل تفاعلات مباشرة أو تعليقات مطولة، قد تفتقر أحيانا إلى الإعداد المسبق المنهجي، أو خط تحريري ثابت يربط بين ما يطلق عليه "حلقات". أماكن التصوير المتغيرة، التي تتراوح بين السيارة والمنزل أو استوديو، قد تعكس نمط إنتاج فردي يعتمد على الإمكانيات الذاتية، وهو يختلف عن العمل المؤسسي المنظم الذي يخضع عادة لضوابط إنتاج وتحرير متعارف عليها في المؤسسات الصحفية المحترفة. كما أن الوتيرة المرتفعة للبث، التي قد تصل أحيانا إلى أكثر من كبسولة مرئية يوميا وبمدد زمنية طويلة لكل مادة، تثير تساؤلا مشروعا حول مدى توفر الوقت الكافي للبحث المعمق، والتحقق الدقيق من المعلومات، وتعدد المصادر، وهي من أبجديات العمل الصحفي الرصين الذي يضع الجودة والدقة قبل الكم. ويبدو التركيز بشكل كبير على التعليق على الأحداث الراهنة وتقديم الآراء حولها، وهو جنس صحفي قائم بذاته ومهم، لكنه في إطاره المهني الاحترافي يستلزم خلفية بحثية صلبة وتحليلا مدعوما بالمعطيات لتقديم قيمة مضافة تتجاوز مجرد إبداء الرأي الشخصي أو الانطباع الأولي. إن هذه الملاحظات المهنية لا تقلل بأي حال من الأحوال من حق أي فرد، بمن فيهم حميد المهداوي، في التعبير عن آرائه بحرية عبر المنصات الرقمية المتاحة. لكن التمييز يظل ضروريا بين هذا الحق العام في التعبير، وبين ممارسة الصحافة كمهنة منظمة لها أصولها وقواعدها وأخلاقياتها التي تهدف لخدمة المصلحة العامة عبر تقديم معلومة دقيقة وموثوقة. من جهة أخرى تطرح ممارسة حميد المهداوي، كنموذج لما يمكن تسميته محتوى اليوتيوب غير المؤطر تنظيميا حتى الآن في المغرب، إشكالية أوسع تتعلق بالمسؤولية وحماية الأطراف المعنية، لا سيما الضيوف الذين قد يتم استضافتهم. ففي غياب إطار قانوني واضح ينظم المحتوى الإخباري والتحليلي على هذه المنصات الرقمية، وعدم خضوعها لآليات ضبط ورقابة مؤسسية مماثلة لتلك التي تشرف عليها الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا) فيما يتعلق بالإعلام السمعي البصري التقليدي، فإن أي تجاوزات أو أضرار محتملة قد تنجم عن المحتوى المبثوث تضع الضيف أو المتضرر في مواجهة مباشرة مع التبعات القانونية. هذا الوضع قد لا يوفر الضمانات الكافية للضيوف، ويجعلهم عرضة للمساءلة في حال وقوع ضرر للغير، دون وجود جهة وسيطة أو آلية للانتصاف المؤسسي السريع التي قد توفرها الأطر المنظمة. هذا الفراغ التنظيمي يثير قلقا مشروعا حول ضمانات الممارسة الإعلامية المسؤولة في الفضاء الرقمي، وحماية حقوق الأفراد والمجتمع من أي محتوى قد يكون ضارا أو مضللا أو غير دقيق. في المحصلة، يبدو أن قرار رفض تجديد بطاقة الصحافة المهنية لحميد المهداوي، كما أيدته المحكمة الإدارية، يجب أن يقرأ في سياقه القانوني والمهني، كحرص على تطبيق المعايير التي تضبط مهنة الصحافة وتحميها. لا يتعلق الأمر، بأي شكل من الأشكال، بتقييد حرية التعبير، فهي حق أصيل ومكفول للجميع، بمن فيهم حميد المهداوي، لممارسة النقد وإبداء الرأي عبر كافة الوسائل المتاحة. إنما القضية الجوهرية تكمن في التمييز الضروري والواجب بين هذا الحق العام والمطلق في التعبير، وبين ممارسة الصحافة كمهنة منظمة لها شروطها الموضوعية، والتزاماتها القانونية، ومسؤولياتها الأخلاقية تجاه المجتمع. إن التحدي المطروح اليوم على المشهد الإعلامي المغربي، وعلى الفاعلين فيه، هو كيفية مواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة وتنامي دور الإعلام الرقمي، مع الحفاظ على جوهر العمل الصحفي القائم على الدقة والموضوعية والمسؤولية. ويتطلب ذلك، بلا شك، التفكير الجاد في وضع الأطر التنظيمية الملائمة الكفيلة بتحقيق هذا التوازن المنشود، حماية للمهنة العريقة، وضمانا لحق المواطن في إعلام حر ومسؤول وموثوق. وفي نهاية المطاف، حتى حرية التعبير الأسمى، تجد حدها الطبيعي في حقوق الآخرين وسلامة المجتمع، وهو ما يذكرنا بالمبدأ الجوهري الذي أرساه الفيلسوف جون ستيوارت ميل حين قال: "إن حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين". فالحرية بلا ضوابط تحمي حقوق الجميع قد تتحول إلى نقيضها، وهو ما يجب أن يستحضره كل فاعل في المشهد الإعلامي."