ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة إلى النهائي بعد تجاوز المنتخب السعودي في نصف النهاية    لقاء الجيش و"الماص" ينتهي بالبياض    تراجع عجز السيولة البنكية إلى 142,1 مليار درهم    تتويج المغربي بنعيسى اليحياوي بجائزة في زيورخ تقديرا لالتزامه بتعزيز الحوار بين الثقافات    بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    حماس تدعو الوسطاء لإيجاد حل لمقاتليها العالقين في رفح وتؤكد أنهم "لن يستسلموا لإسرائيل"    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رجالات الريف...من زمن المقاومة إلى زمن المصالحة
نشر في أسيف يوم 15 - 02 - 2012

«ليس هناك نجاح أو فشل، انتصار أو هزيمة، بل شيء اسمه الواجب»
الأمير محمد بن عبدالكريم الخطابي

وري جثمان المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي يوم 6 فبراير 1963 بالقاهرة. بعد حياة مليئة بالتضحية بالغالي والنفيس من أجل الوطن والحرية والحق، بالاجتهاد الفكري والعمل الصالح، قاوم الاستعمار الإسباني بأسلوب حربي جديد وبفكر متقدم، حاول إرساء دعائم دولة حديثة وأدوات التقدم والازدهار في بنية فقيرة ومتخلفة، هزمته القوى القاهرة للتحالف الفرنسي الإسباني وتم نفيه من مسقط رأسه، أجذير (إقليم الحسيمة)، وفي سنة 1974 كان نزوله بالقاهرة لمواصلة حيث واصل جهاده وكفاحه من أجل الأفكار التي ظل طول حياته مؤمن بها، قبل وبعد الاستقلال: الحرية، الحق، الثقة في الشعب وقدراته، الحق للبشر في العيش الكريم. عبر بكل نزاهة عن آرائه ومواقفه من الاستقلال وظروفه وعن معارضته لبعض مواقف وسياسات الدولة الناشئة. لم يتسن له وهو على قيد الحياة، توفير ظروف، اتخاذ قرار الرجوع إلى وطنه إلى أن وافته المنية ببلاد مصر.
هذه قراءة سريعة لشخصية ولمسار هذا البطل الريفي، المغربي، المغاربي، الأمازيغي، العربي، الإسلامي، الإفريقي والأممي.
هذا المقال لا يسعى إلى الحديث عن المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي، فقد تناوله بالتحليل والدراسة العديد من الدارسين والمؤرخين والسياسيين وما زالوا إلى يومنا هذا يولون اهتماما كبيرا لهذا القائد النموذجي، أذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما صدر خلال الشهرين الأخيرين، أطروحة الدكتوراة التي تقدم بها السيد عبدالله الكموني بعنوان "المقاصد العقدية في نتاج محمد بن عبدالكريم الخطابي من خلال رسائله وأحكامه الفقهية" وهو بحث جدير بالاهتمام في موضوع لم يتم التطرق له من قبل. كما قامت دار النشر الرباطية "La Porte" بنشر كتاب، باللغة الفرنسية، للصحفي الفرنسي "J. Roger-Mathieu" حول "مذكرات عبدالكريم" وهي الطبعة الثانية بعد أن صدرت الطبعة الأولى بباريس سنة 1927 من القرن الماضي وهي المذكرات التي استقاها الصحفي الفرنسي، المراسل الحربي لجريدة لوماتان الباريسية من خلال محادثات مباشرة مع المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي وأخوه المجاهد امحمد بن عبدالكريم الخطابي على متن الباخرة التي قلتهم إلى المنفى. كما يتم الإعداد لإصدار كتب أخرى ذات بعد تاريخي لتسليط الضوء على فترة مهمة من تاريخ منطقة الريف والمغرب وجهاد رجالاتها. أغتنم هذه المناسبة لأذكر أن فتح أرشيف المستعمر الإسباني والفرنسي وتوفر الوثائق التاريخية سيمكن من الغوص في العديد من الجوانب لحرب الريف، فليستعد شبابنا لهذه الفرصة الذهبية من أجل إعادة قراءة الماضي وصبر أغواره. لكن، ومنذ زمن بعيد، الناس مشغولة بنشر مذكرات المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي التي ستكون بلا شك لحظة عظيمة ليتمكن كل المهتمين والمتتبعين لحرب الريف، من التوفر على وثيقة الشاهد الأول، شاهد على عصره بامتياز.
كما صدر أيضا من مدينة الحسيمة عن "منشورات تِيفْرَازْ" كتاب ل"محمد الرايس"، رحمه الله، بعنوان "شهادات عن المقاومة في عهد الزعيم محمد بن عبدالكريم الخطابي"، قام بإعداده وتقديمه ابنه، عبدالحميد الرايس. الكتاب يحتوي على 566 صفحة وصور نادرة لثلة من المجاهدين وأخرى لإسبان يتم نشرها لأول مرة، مما جعل الدهشة تتملك بعض المؤرخين الإسبان خاصة المطلعين منهم على تفاصيل عديدة من تاريخ المنطقة.
إن هذا الكتاب هو الذي أوحى إلي بفكرة هذا المقال. لكن قبل ذلك أود أن أشير إلى المجهود الذي ما فتئ يقوم به ثلة من الوطنيين الغيورين الصادقين في أقاليمهم البعيدة عن محور الرباط-الدارالبيضاء، في إحياء الذاكرة والمساهمة بإمكانيتهم الضعيفة في جعل شعلة الفكر والحوار والتثقيف موقدة ومستمرة عبر جرائدهم الجهوية ومواقعهم الإلكترونية المحلية وجمعياتهم التنموية. فتحية صادقة لهم ليس في الريف وحده بل في كل ربوع هذا الوطن الحبيب.
قلت، ألهمني كتاب "محمد الرايس" الذي يتحدث، زيادة على مذكراته، عن خمس وثلاثين شهادة حية لمقاومين ومجاهدين عايشوا أحداث وحرب الريف بتفاصيلها الدقيقة وساهموا في مقاومة المستعمر، زيادة على شهادات موثقة لمحمادي الحاتمي وكذا قراءة في الشهادات لعبد الحميد الرايس. لقد أوحى إلي هذا الكتاب الفريد، بالمغامرة للحديث عن رجالات ذاك الزمان الغابر، رجالات الجهاد والمقاومة، وعن رجالات هذا الزمان، رجالات النضال والبناء والمصالحة. إن الحاضر جزء من الماضي، ومن لا ذاكرة له، لا مستقبل له. فماذا استلهم رجالات الحاضر من أجدادهم وآبائهم، وما المسؤوليات الملقاة على عاتقهم، وفاء لهم وتقديرا لتضحياتهم، في هذا الزمن المغاير لذاك الزمان البعيد-القريب، سعيا للبناء والتقدم وإعلاء كلمة الحق، نصرة للقضايا العادلة ومساهمة في إعلاء كلمة الوطن عاليا في سماء الأمم. إني أعتقد أن أحد الروابط بين رجالات المقاومة ورجالات المصالحة تكمن في تلك الكلمة السحرية التي جاءت في مقدمة هذا المقال من مقولات المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي، ألا وهي كلمة "الواجب"، نعم واجب كل واحد منا وفاء لتاريخ الأجداد، للمساهمة في بناء الوطن ورفاهيته للأجيال القادمة وكتابة صفحات مشرقة من التاريخ كما فعله الماهدون الخالدون من أبناء وطننا. نعم، لقد أبلى رجالات المقاومة البلاء الحسن من أجل كتابة ملحمة أخرى من الملاحم الكثيرة لأبناء هذا الوطن عبر مختلف العصور، نخلده اليوم ونستلهم منه الدروس والعبر في حياتنا اليومية وطموحاتنا المستقبلية. قاموا بواجبهم على أحسن ما يرام رغم كل الأخطاء والنواقص، لأنهم بشر، كما لنا نحن أيضا عيوبنا وهفواتنا. فهل قام رجالات اليوم، رجالات زمن المصالحة بواجبهم؟ هذا ما سنحاول التطرق إليه لنبدي بكل تواضع بعض الأفكار والخواطر والمقترحات حوله.
ملاحظات أخرى، تبدو لي ضرورة إقحامها، تجنبا لكل قيل وقال، وما أكثره في زماننا هذا، بحيث تربينا على ترك الموضوع وكنهه والإبحار في النوايا والافتراضات وهوامش الهوامش. أولها، تتعلق بعنوان المقال، وخاصة بكلمة "رجالات". لقد قيل الكثير حول أول حكومة تنبثق عن دستور 201‍1، فيما يخص الحضور المتواضع للمرأة مما ضرب عرض الحائط شعار المناصفة وتاريخا من النضال من أجل أن تتبوأ المرأة المكانة اللائقة بها في كل مستويات تدبير الشأن الوطني. وحتى لا يُظَّن بي السوء، أؤكد أن استعمال "رجال" جاء للضرورة، لكون المقاومة المسلحة الريفية كانت في الميدان العسكري والحربي والسياسي مقتصرة على الرجال في ذاك الزمان. هل كانت المرأة الريفية غائبة عن ما يدور في محيطها؟ أبدًا... أبدًا، كانت حاضرة هي الأخرى وبقوة في كل الملاحم ولكن انطلاقا من دورها في بيئتها المحافظة والتقليدية، دينيا وثقافيا. يقال أن "وراء كل رجل عظيم، امرأة". بالفعل، كان وراء رجالات المقاومة الريفية نساء عظيمات، مؤمنات، متفانيات، يحرسن مساكنهن وأملاك عائلاتهن ويقمن بأدوار الرجال حين غيابهم عن منازلهم وذهابهم لساحات الحرب، يرفعن من معنويات الرجال، يسهرن على تربية الأطفال... التراث الشعري الشعبي المسمى بالريف "إِزْرَانْ" غني بالدلالات على وعي وانخراط ومساهمة النساء بالبلاء الحسن في فترة المقاومة. وعلى الباحثين والباحثات النبش في دور المرأة في تلك الفترة. أما في زماننا هذا، فما زال الرجال يستحوذون على كل مناحي الحياة في الريف رغم أن المرأة والفتاة التحقت بالتعليم وانخرطت في عوالم الشغل والحياة وأصبحت رويدًا... رويدًا، تتبوأ المكانة التي تستحقها. في الميدان السياسي، لنا مثالين يثلجان الصدر، بعيدا عن الدواعي والحيثيات، ألا هو ترؤس أول امرأة للمجلس البلدي للحسيمة وانتخاب أول امرأة من نفس المدينة كبرلمانية، ويا لمكر الصدف، المرأتين من الحزبين الأكثر تعارضا و"تناحرا" في زمننا هذا. إنهما أدلة على أن التغيير والمناصفة في طريقيهما الصحيحين. هذا بالنسبة للجيل النسائي الشاب الصاعد، أما فيما يخص أمهاتنا وجداتنا، فليسمح لي السيد عبدالحميد الرايس، الذي أعد وقدم للكتاب المذكور أعلاه، أن آخذ جملة من ما سطره في إهداء الكتاب حيث جاء: « إلى والدتي التي طالما انتظرت صدور هذا العمل »، ما أروع ما انتظرت، لم تنتظر المال والجاه، بل صدور كتاب، نعم كتاب ألفه زوجها المرحوم المجاهد محمد الرايس والذي يتحدث عن مقاومات شعبية لرجالات الجهاد والتضحية. ملاحظات، الأولى كانت حول كلمتي "الرجال" و"المناصفة".
الثانية، تتعلق بكتابة مقال حول الريف وما يمكن أن يُخَّمَن حول الموضوع. ورفعا لأي لبس، أؤكد أن التطرق لجهة الريف لا ينبع من أي تصور انعزالي أو نظرة ضيقة، بل على العكس، إني مؤمن بأن المحلي، بخصوصياته وتاريخه وثقافته وتقاليده، هو خاص يصب ويغني ما هو عام، يغني تاريخ وثقافة وتقاليد الوطن، المغرب، الذي بدوره يؤثر ويفعل في المحلي والجهوي. إنه التكامل والغنى في إطار وحدة الوطن، وحدة الأهداف والمقاصد، بعيدا عن كل شوفينية وعنصرية وقبلية مجانية. أتحدث اليوم، عن الريف، مسقط رأسي، كما يمكن أن أتحدث عن الرباط التي احتضنتني مع أبي وأمي، إخوتي وأخواتي، منذ زمن بعيد إلى يومنا هذا. كما يمكن لي أن أتحدث عن فاس، تافيلالت، دكالة، الصحراء، سوس، وكل جهات المغرب لاستلهام ملامح رجالاتها ونسائها عبر التاريخ إلى يومنا هذا. هذا موقفي وهذه قناعتي.
الملاحظة الثالثة، كما للريف زعاماته ورجالاته، فلمختلف مناطق المغرب رجالات وزعماء أفذاذ، عبر العصور والحقبات، وحتى نبقى في بداية القرن الماضي وتغلغل الاستعمارين الفرنسي والإسباني، فلا بأس من الإشارة، رفعا لكل لبس، عن رجال عظام، من أمثال المجاهد موحا او حمو الزياني في الأطلس المتوسط، المجاهد عسو أوبسلام بالأطلس الكبير، المجاهد أحمد الهيبة بن ماء العينين، الذي حارب الاستعمار الإسباني بالصحراء المغربية والاستعمار الفرنسي بجنوب المغرب وبموريتانيا، المجاهد الشريف محمد أمزيان في الريف، زعيم المقاومة الريفية في بداياتها... ناهيك عن جهاد رجالات المغرب الأحرار بمختلف مناطق الوطن. أما من جاهدوا من الوطنيين وحازوا الاستقلال والذين ناضلوا في مغرب الاستقلال، مغرب سنوات الجمر والرصاص، من مختلف الأطياف السياسية، النقابية والفكرية، فكثيرون أيضا ومن مختلف الجهات، ليس هذا المقال مجالا لذكرهم والتحدث عنهم.
لنعد لرجالات زمن المقاومة ولشهادات "محمد الرايس"، رحمه الله، عن دور هؤلاء في كل مناحي الحياة في بيئتهم والتي تحدثوا هم أنفسهم عنها سنوات من بعد الحرب التي خاضوها ضد المستعمر الأجنبي ومشاركة بعضهم في الحياة السياسية والفكرية لبلدتهم. قلنا إن الرابط في هذه المقال سيكون محوره الرئيسي "الواجب"، فهنا يحضرني ما قاله الإسباني "إسطيبان ذي لاس إيراس"، Don Esteban de las Heras، كان ترجمان جزيرة النكور، ملما الأمازيغية الريفية والعربية الدارجة، مخاطبا المجاهد عبدالكريم الخطابي، الأب، مخاطبا إياه بما يلي: « أنت وحدك يا فقيه، تعرف ما يطبخ في القدرة، ويحاك في الخفاء. أما قومك فلا يعرفون سوى لعنة الله على الكفار » (صفحات 79 و80 من الكتاب). لقد لخص هذا الإسباني، أحد الجوانب المحركة للجهاد، ألا وهو "واجب" الدود عن الملة والدين، الإسلام، بالغالي والنفيس وكذا "واجب" الدفاع عن النفس وعن العائلة والأرض والوطن. نعم، واجب البارحة واليوم وغدا، لا ثمن للحرية والوطن والدين، إلاَّ الحُسْنَيَيْن، وهو ما أبلى فيه رجالات الريف البلاء الحسن بأغلى ما عندهم، مواجهين قوات استعمارية عظيمة العتاد والسلاح، لم تتوان في استعمال كل الدسائس والمناورات والتحالفات والأسلحة الفتاكة الكيماوية التي أتت على الأخضر واليابس في حصدها أرواح البشر (النساء، الأطفال، العجزة، المرضى...) والنبات والدواب. رغم كل هذا، رجالات الريف لم يهنوا ولم يستسلموا، بل صابروا وجاهدوا قدر استطاعتهم وإمكانياتهم بقيادة زعيمهم الخالد محمد بن عبدالكريم الخطابي. ويستخلص من الشهادات أيضا أن بعض رجالات الريف في ذاك الزمان كانت تحدوهم رغبة في التعلم وكسب المعارف، ليس في علوم الدين فحسب بل أيضا في كل مجالات المعرفة الإنسانية والعلوم والتقنيات، كما عملوا على تعلم لغات الغير وطرق عملهم وتسييرهم، كما سافروا داخل المغرب وخارجه بحثا عن الجديد، كانوا يعتبرون هذا من باب "الواجب"، "واجب" الانفتاح على العالم الجديد وكسب تقنياته وعلمه والعمل على استفادة جهتهم وأبناء بلدتهم منها. لقد كان لدى القادة بالريف وعي حاد ب"واجب" وأهمية التعلم والقراءة والكتابة. فتمعنوا معي هذه الوصية للمجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي لتلاميذ مدرسة أجدير في عشرينيات القرن الماضي، الواردة في الصفحة السادسة من ذات الكتاب، حيث يقول: «أوصيكم يا أبنائي بالقراءة والكتابة، وعليكم أن تعودوا أنفسكم على ممارسة الكتابة وتدوين خواطركم ومشاهداتكم اليومية دونما إبطاء أو إجهاد في البحث عن الجمل المنمقة، بل عبروا عن أحاسيسكم باللغة الريفية الأمازيغية أو العربية أو بخليط بينهما، فالمهم هو التعبير الصادق الأمين عن المشاعر، والأهم هو اكتساب ناصية الكتابة والتعود على ممارستها». هذا كله في بيئة متخلفة، محيط اقتصادي صعب، وموارد للعيش ضئيلة، فلاحة في تضاريس صعبة، تجارة بدائية، صيد بحري تقليدي، مجتمع قبلي عصبي متناحر، دولة مركزية ضعيفة وأطماع استعمارية صاعدة ومتوحشة. نعم، كان معظم رجالات زمن المقاومة من الفلاحين الفقراء المستضعفين في الأرض، لكن كانوا رجالا مؤمنين، أحرارا، لا يخافون الجهر بالحق والدفاع عن كرامتهم. كانوا أيضا رجالا يُخْطئُون وأحيانا يقومون بأفعال تعارض سياسة المقاومة، لكن غالبيتهم العظمى، إلا النزر القليل، لم يخونوا ولم يبحثوا عن مغانم ومآرب شخصية. كانوا أبطالا بمجد. ولنترك الزعيم علال الفاسي يحدثنا حول هذا الموضوع في كتابه "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، حيث يقول في الصفحة 136-137 : «ولقد وجد الأمير من الشعب إخلاصًا وافيًا وثباتًا وتفانيًا لا يضاهيه إلا ما تتحدث به الروايات عن سير الأعاظم وصفات الأبطال... حدثني الزعيم محمد بن عبدالكريم الخطابي بالقاهرة: أن الكلونيل مونيستيريو القائد الإسباني لمعركة النكور اتفق ذات مرة مع محمد بن الحاج محمد أَفقِّير المكنى عند الإسبانيين بإنْريكي على سم الأمير، وكان حاضرا على الاتفاق ابن سعيد السلاوي، وحمل أَفقَّير قنينة سم، وجاء معه ثلة من الإسبانيين حاملين عديدًا من الديناميت لنسف دار الأمير بعد سمه، وما وصل إلى أجدير حتى بلغ الأمير ما قدم من أجله، وقدم له القنينة، وحمل له الإسبانيين الذين معه كأسارى، وناهيك بإخلاص هذا الرجل الشعبي الذي أقل ما يقال عنه إن إخلاصه لبلاده لم يكن واضحًا إلى حد أن يثق به الإسبانيون ويتآمرون معه على الفتك ببطل الريف، ويضعوا تحت تصرفه أفرادًا من مواطنيهم للقيام بالاستفادة من الدهشة التي تعتري الجمهور بعد قتل رئيسه». رجالات الريف، الفلاحون المستضعفون، كانوا يُولُون أهمية عظمى ل"واجب" الإخلاص، الوفاء، الثبات، التفاني، في الجهاد والنضال والبناء السياسي، الاقتصادي والاجتماعي، وهي قيم عالمية، رفيعة، صالحة لكل العصور والحقبات. يا له من درس عظيم لجيلنا وللأجيال القادمة. أكتفي بهذه الإشارات السريعة حول وعي وقيام رجالات الريف في زمن المقاومة ب"واجبهم" تجاه الوطن. رحمهم الله.
لقد كان لصدور هذا الكتاب المتضمن لشهادات وصور المجاهدين الخمس والثلاثين، والذين ينوبون عن الآلاف من المجاهدين، الوقع الحسن على عائلاتهم ومعارفهم، لقد تم نفض الغبار عنهم وتمت إعادة الاعتبار لهم. لقد انْتُشِلُوا من ذاكرة النسيان إلى ذاكرة الخلود. إن رمزية هذا الاعتراف لا يضاهيه ثمن ولو كان بأطنان من الذهب. نتمنى أن يحذوا الآخرين حذو هذا العمل للتعريف بكل من ساهم من قريب أو بعيد في ملحمة "ادْهَارْ أُوبَرَانْ" و"أنوال" وغيرها من المعارك، كثير.
سيكون لنا موعد مع رجالات زماننا هذا، رجالات الريف في زمن المصالحة.
عبدالحق الريكي
الرباط، 15 فبراير 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.