ابتسامة بريمر مثيرة للاهتمام وهو يصافح الإخوة العراقيين، هذا القادم من بعيد، على مسافة آلاف الكيلومترات، ألم تسعه الولايات المترامية الأطراف؟ ألم يكفه رفاه بلاده وتقدمها المادي الهائل؟ ما الذي جاء به إلى العراق؟ لماذا يتعب نفسه ويعرضها للخطر؟ لماذا تدفع بلاد بريمر هذا الثمن الباهظ من دماء جنودها وثرواتها؟ إنه أمر يثير الاستغراب. بعد هذا الدمار الهائل الذي حل بالعراق والقتل اليومي لنسائه وأطفاله ورجاله والدوس على كرامة الإنسان العراقي في السجون مازال بريمر يبتسم في وجه العراقيين الذين يصافحهم أمام الكاميرات. لنكن من البساطة والسذاجة والطيبوبة بحيث نعتقد ونصدق بريمر في ابتسامته العريضة. ونرد عليه بابتسامة من الأعماق، ولنقف مسارعين لاستقباله بالأحضان، ونوافق على كل ما صدر منه بالتأييد والترحيب والموافقة، أليس هو محرر العراق وناشر لواء الأمن في ربوعه المترامية؟! لكن واقع الحال، واقع القتل والإهانة اليومية لناس العراق تدعوك للتقزز من ابتسامة بريمر الماكرة، وتجعلك تعتقد أنه يمارس نوعا عاليا من الكذب المفضوح. يبدو أن ابتسامة بريمر مخدومة جدا لخداع المغفلين. وربما ظن بريمر أن ابتسامته تنطلي على الناس. ربما كان ظنه مبنيا على تصوره للإنسان العراقي والإنسان العربي والمسلم من أنه إنسان من الدرجة الثانية أو الثالثة أو هو ليس بإنسان، وربما كان ظنه مبنيا على جهل فظيع بعراقة العراق والمسلمين عموما في الحضارة. فهلا قرأ بريمر تاريخ العراق وتاريخ العرب والمسلمين وإن لم يكن له وقت فليذكر لائحة علماء العراق الحاليين في مختلف مجالات المعرفة. إن هذه الشعوب، ومن بينها شعب العراق، تسخر من ابتسامة بريمر ولا تنظر إليه إلا كما تنظر لمجموعة من اللصوص مسلحة سطت على دار في حين غفلة من ساكنتها وتحكمت في الدار وأخذت تتصرف فيها تصرف صاحب الملك، وجعلت من أصحاب الدار الأصليين خداما لها...، وأما من اعترض منهم أو أراد أن يقاوم ويطرد اللصوص فجزاؤه القتل أو الطرد من الدار في أحسن الأحوال، لأنه متمرد أو مخرب أو ما شئت من المصطلحات. وقد يعطي اللص بعض الحلوى للأطفال، وقد يتجاذب أطراف الحديث مع بعض ساكنة الدار، وقد يظهر الود لهم ويحدثهم معن نفشه بأنه إنسان طيب جدا ومتحضر جدا وبأن كل الشرفاء لصوص إلا هو، وكل الخيرين أشرار إلا هو وكل المتحضرين وحوش إلا هو، ومع كل هذا الكلام الحلو، ومع كل الابتسامات تبقى حقيقة اللص أبلغ من أي كلام. تبقى هذه الحقيقة ضاغطة على نفسية أصحاب الدار الأصليين شاغلة لاهتماماتهم وأحاسيسهم، تجعلهم يسخرون دوما من حركات اللص وكلماته وابتساماته: كيف يتقمص لص شخصية الناصح الأمين؟ أم كيف يكون الذئب حملا وديعا؟ وتجعلهم يفكرون في سبل الخلاص من اللص المحتل للدار عنوة، تلبية لغريزة السيطرة ومرض استعباد الآخرين وجنون العظمة. لو ظل اللص يبتسم الوقت كله ما غير ذلك من حقيقته في شيئا. وما زاد الناس إلا سخرية منه ومن ابتساماته اللئيمة. محمد المحفوظي