الخط : إستمع للمقال يشكل بيان وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية الصادر في فاتح يونيو 2025 محاولة جديدة لإعادة التموضع السياسي والدبلوماسي ضمن قضية الصحراء المغربية، في وقت يشهد فيه الملف تحولاً نوعياً بفعل الموقف المتقدم للمملكة المتحدة التي أكدت دعمها لمقترح الحكم الذاتي المغربي باعتباره خياراً جدياً وذا مصداقية. ويأتي البيان ليجدد، بلغة انفعالية مبطنة، المواقف التقليدية للجزائر دون أن يتمكن من إخفاء انزعاج دبلوماسي واضح من التغيرات الجيوسياسية التي لم تعد تتيح لها نفس هامش المناورة الذي طالما استندت إليه. يظهر البيان إذن كخطاب دفاعي متأخر لا يقدم اقتراحاً بديلاً ولا يؤسس لمنظور واقعي قابل للتفاوض، بل يراهن على إحياء خطاب تجاوزته ديناميات السياسة الدولية والقانون الدولي نفسه. من خلال قراءة تحليلية للبيان، يتضح أن الجزائر لا تزال تراهن على تشكيك متكرر في مشروعية المبادرة المغربية، دون أن تقدم في المقابل أي تصور عملي أو مبادرة تطرح على مائدة الحوار. إن رفض الجزائر الدائم لمقترح الحكم الذاتي ووصمه بكونه "مخططاً أحادي الجانب" يفتقر إلى مقومات التفاوض، يبدو متناقضاً مع روح القانون الدولي الذي يفتح مجالاً واسعاً للحلول التوافقية ضمن مبدأ تقرير المصير، خاصة إذا جاءت هذه الحلول ضمن مقترحات تقرها الأممالمتحدة وتعتبرها واقعية وجادة. ومن هذا المنظور، فإن توصيف الجزائر لمبادرة الحكم الذاتي بأنها "فاقدة للمحتوى" لا يبدو مرتكزاً على أسس قانونية، بل يعكس تمسكاً بموقف مبدئي جامد تجاوزته المعادلات السياسية الحديثة. في ضوء التقدم البريطاني الأخير، تزداد عزلة الموقف الجزائري دبلوماسياً، حيث باتت العديد من الدول المؤثرة، خاصة ضمن مجلس الأمن، تنظر إلى مقترح الحكم الذاتي كحل قابل للتطبيق في ظل استحالة العودة إلى صيغ قديمة مثل الاستفتاء، الذي اصطدم منذ أكثر من عقدين باستحالة تحديد الهيئة الناخبة. يكتسي الموقف البريطاني أهمية استراتيجية ليس فقط بالنظر إلى الثقل السياسي والاقتصادي للمملكة المتحدة، بل أيضاً لما يعكسه من تأثير مباشر على توازنات المجلس الأمني وعلى مستقبل التوصيات الأممية، وهو ما يفسر محاولة الجزائر استباق نتائج هذا التحول من خلال بيان تسعى من خلاله لتثبيت سردية قانونية وسياسية لم تعد تجد لها دعماً مؤسسياً واسعاً. البيان ذاته يكشف بشكل غير مباشر عن تحول في الخطاب الجزائري، إذ لم يتطرق إلى خيارات التفاوض أو المبادرات المشتركة، كما خلا من أي اقتراح بديل، ما يعكس قناعة ضمنية بأن الرهانات الدولية الكبرى بدأت تنحو نحو تثبيت خيار الحكم الذاتي كحل توافقي عملي. إن تحميل المغرب مسؤولية "الجمود" و"عرقلة" المفاوضات، في الوقت الذي تبادر فيه الرباط إلى طرح حلول على الطاولة وتحظى بدعم عدد متزايد من الدول، يبدو طرحاً أحادياً يعجز عن مجاراة الواقع الدبلوماسي المتغير، خاصة وأن الجزائر ترفض حتى اليوم الاعتراف بأنها طرف مباشر في النزاع، رغم أنها الممول والمحتضن السياسي لجبهة البوليساريو. في السياق القانوني، تبرز مفارقة لافتة في بيان الجزائر؛ فبينما تدعو إلى احترام القانون الدولي ومبدأ تقرير المصير، فإنها تنكر في الوقت نفسه على مجلس الأمن حقه في اعتبار المبادرة المغربية أساساً جدياً للنقاش. هذا الموقف يفتح نقاشاً عميقاً حول حدود الشرعية الدولية، إذ أن قرارات مجلس الأمن، وإن كانت غير ملزمة في مجملها، إلا أنها تشكل مرجعية قانونية وأخلاقية ضمن بنية القانون الدولي العام، لاسيما حين تتعلق بقضايا السلم والأمن الدوليين. وبالتالي فإن استنكار الجزائر للدعم الدولي المتنامي لمقترح الحكم الذاتي لا يرقى إلى الطعن في شرعية هذا الدعم، بل يكشف عن تآكل خطابها القانوني التقليدي. أما من زاوية العلاقات الدولية، فإن البيان الجزائري يأتي كإعادة إنتاج لخطاب متآكل في سياق دولي جديد لم يعد يتعامل مع النزاعات بنفس الثنائية القديمة: احتلال مقابل تقرير مصير. فالعالم ما بعد الحرب الباردة بات ينظر إلى التسويات الواقعية والحلول التوافقية باعتبارها أنجع السبل للحفاظ على الاستقرار الإقليمي والدولي. ومن هنا فإن إصرار الجزائر على خطاب "الاحتلال" و"الشرعية التاريخية" لا يجد له ترجمة في مواقف القوى الكبرى، بل يزداد انكشافه أمام منطق براجماتي يراعي ميزان المصالح والاستقرار في منطقة ذات أهمية استراتيجية. ختاماً، لا يمكن قراءة بيان الخارجية الجزائرية إلا كتعبير عن ارتباك دبلوماسي واضح في مواجهة حركية دولية متنامية لصالح المقاربة المغربية. فالبيان، رغم حرصه على الظهور بلغة سيادية، يكشف عن شعور عميق بالانكشاف الاستراتيجي في ظل التغيرات المتسارعة لمواقف الدول المؤثرة، خاصة بعد الدعم البريطاني. وبذلك، فإن ما سعت الجزائر إلى تقديمه كخطاب دفاع عن الشرعية، ينقلب عليها كوثيقة إدانة رمزية لعجزها عن مواكبة التحولات الجارية في ميزان العلاقات الدولية والقانون الدولي المعاصر. الوسوم الجزائر الصحراء المغربية المغرب الملك محمد السادس بريطانيا فرنسا