طنجة.. توقيف المتورط الرئيسي في سرقة قبعة "كوتشي" بحي بئر الشعيري    "كان فوتسال السيدات" يفرح السايح    عادل الفقير    محمد وهبي: كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة (مصر – 2025).. "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    حكومة أخنوش تُطلق أكبر مراجعة للأجور والحماية الاجتماعية    الملك يهنئ أعضاء المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة للسيدات بمناسبة فوزه بكأس إفريقيا للأمم 2025    نواب بريطانيون عن الصحراء المغربية: مخطط الحكم الذاتي محفّز حقيقي للتنمية والاستقرار في المنطقة بأكملها    سيدات القاعة يفلتن من فخ تنزانيا في ليلة التتويج بلقب كأس إفريقيا    افتتاح فندق فاخر يعزز العرض السياحي بمدينة طنجة    ترامب يستقبل رئيس الوزراء الكندي    انطلاقة أشغال المركز الفيدرالي لتكوين لاعبي كرة القدم بالقصر الكبير    منتخب المغرب لأقل من 20 سنة يدخل غمار كاس افريقيا للأمم غدا بمصر    بهدف قاتل.. منتخب السيدات للفوتسال يتوج بلقب الكان في أول نسخة    زخات رعدية مصحوبة بتساقط البرد وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    جهة طنجة-تطوان-الحسيمة تتصدر تعيينات الأطباء المتخصصين لسنة 2025 ب97 منصباً جديداً    طنجة .. كرنفال مدرسي يضفي على الشوارع جمالية بديعة وألوانا بهيجة    عبد النباوي: العقوبات البديلة علامة فارقة في مسار السياسة الجنائية بالمغرب    الاستيلاء على سيارة شرطي وسرقة سلاحه الوظيفي على يد مخمورين يستنفر الأجهزة الأمنية    خبير صيني يحذر: مساعي الولايات المتحدة لإعادة الصناعات التحويلية إلى أراضيها قد تُفضي إلى نتائج عكسية    تجار السمك بالجملة بميناء الحسيمة ينددون بالتهميش ويطالبون بالتحقيق في تدبير عقارات الميناء    سلطات سوريا تلتزم بحماية الدروز    مأسسة الحوار وزيادة الأجور .. مطالب تجمع النقابات عشية "عيد الشغل"    القصر الكبير.. شرطي متقاعد يضع حداً لحياته داخل منزله    موتسيبي: اختيار لقجع قناعة راسخة    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    إدريس لشكر …لا ندين بالولاء إلا للمغرب    المغرب يتلقّى دعوة لحضور القمة العربية في العراق    المغرب يواجه حالة جوية مضطربة.. زخات رعدية وهبات رياح قوية    مُدان بسنتين نافذتين.. استئنافية طنجة تؤجل محاكمة مناهض التطبيع رضوان القسطيط    الإنتاج في الصناعات التحويلية.. ارتفاع طفيف في الأسعار خلال مارس الماضي    الشخصية التاريخية: رمزية نظام    فلسفة جاك مونو بين صدفة الحرية والضرورة الطبيعية    دراسة.. الأوروبيون مستعدون للتخلي عن المنتجات الأميركية    وزارة الأوقاف تحذر من الإعلانات المضللة بشأن تأشيرات الحج    العراق ولا شيء آخر على الإطلاق    إلباييس.. المغرب زود إسبانيا ب 5 في المائة من حاجياتها في أزمة الكهرباء    مسؤول أممي: غزة في أخطر مراحل أزمتها الإنسانية والمجاعة قرار إسرائيلي    انطلاق حملة تحرير الملك العام وسط المدينة استعدادا لصيف سياحي منظم وآمن    العلاقة الإسبانية المغربية: تاريخ مشترك وتطلعات للمستقبل    الإمارات تحبط تمرير أسلحة للسودان    ندوة وطنية … الصين بعيون مغربية قراءات في نصوص رحلية مغربية معاصرة إلى الصين    رحلة فنية بين طنجة وغرناطة .. "كرسي الأندلس" يستعيد تجربة فورتوني    ابن يحيى : التوجيهات السامية لجلالة الملك تضع الأسرة في قلب الإصلاحات الوطنية    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    المغرب يروّج لفرص الاستثمار في الأقاليم الجنوبية خلال معرض "إنوفيشن زيرو" بلندن    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    جسور النجاح: احتفاءً بقصص نجاح المغاربة الأمريكيين وإحياءً لمرور 247 عاماً على الصداقة المغربية الأمريكية    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد بن عبد الكريم الخطابي في مواجهة الاستعمار

عرفت نهاية القرن التاسع، وبداية القرن العشرين، بداية التآمر على الوحدة الترابية من خلال الاتفاقيات التي عقدتها الدول الاستعمارية لتفتيت المغرب إلى عدة أطراف، ولكن وقبل ذلك فإن اسبانيا احتفظت لنفسها بخمس جزر على شاطئ البحر الأبيض المتوسط منذ أربعة قرون هم: سبتة- بادس-حجرة النكور- مليلية والجزر الجعفرية ".
ومع مرور السنوات فإن اسبانيا لم تتخلى عن أي شبر من الأراضي التي استولت عليها بل تأكيد، ومن خلال تحركاتها أنها تطمح إلى التوغل والتوسع وبسط السيطرة على المناطق المجاورة لأطراف نفوذها وخاصة بالريف، نظرا لموقعه الاستراتيجي وخيراته الباطنية، المعدنية منها خاصة. وأمام الرغبة الاسبانية للتوسع كان لزاما من ظهور مقاومة شرسة، وبالطبع كان هذا يتطلب زعامة وهو ما كشفت عنه الأحداث فيما بعد، كمجسد لروح وإرادة الجميع، ألا وهو الشريف محمد امزيان".
ولم تكن حركة المقاومة على خطأ عندما أسندت رئاسة تسيير المقاومين إلى محمد امزيان في أول اجتماع دعا إليه أعيان القبائل الريفية التي توافدت على حركة الشريف امزيان، "نظرا لما تحلى به من ذكاء واستقامة وحب لبلاده وقوة العزيمة وعبقرية في التنظيم ومعاشرة الناس، أي كل الخصال الذي تميز شخصية فذة لذلك نال احترام أهل الريف".
وطيلة خمس سنوات والمعارك تدور رحاها في قلب قبيلة قلعية وقد دارت ما يزيد عن مئة معركة، أولها معركة الديوانة قرب مليلية، معركة أزرو... معركة الحمام الخ... ولكن الهزيمة التي بقيت معلقة في أذهان الإسبان، وعلى حد قول الكاتبة الاسبانية "ماردياك" هي "هزيمة خندق الذئب" (إفري ووها)، وبهذه العبارات المؤثرة تعلق الكاتبة وتقول "هذه المحنة الدموية التي عرفها تاريخ التدخل العسكري لإسبانيا في المغرب والتي اشتهرت بهزيمة "خندق الذئب".
وعرفت هذه الهزيمة أيضا، بالأسبوع المأساوي لبرشلونة باعتباره أسبوع احتجاج في هذه المدينة وفي كل إسبانيا ضد إرسال الجيش إلى الريف.
وهكذا ظل المجاهد الشريف محمد امزيان صامدا في وجه الغاصب الاسباني وقام بواجبه في الدفاع عن وطنه وشرفه ووحدة بلاده، على أن استشهد في معركة الحمام سنة 1912، هذه هي الثورة الأولى للمقاومة الريفية والشريف محمد امزيان هو رمزها ومجسد روحها.
وبعد استشهاد الشريف محمد امزيان، بقيت المقاومة مستمرة ولكن بشكل فاتر، لم تمنع من اكتساح الجيش الإسباني لأهم القبائل التي شكلت سدا منيعا أيام الشريف أمزيان، وحتى الظروف المعيشية آنذاك لم تساعد المجاهدين نتيجة لعمق انتشار المجاعة في الريف، "إن السكان الأهالي يعانون من الجوع بشكل فظيع، فمنذ خمس سنوات لم يكن هناك محصول، أما المحصول هذه السنة فيعتبر أيضا منعدما ".
وبمجرد احتلال اسبانيا لعدة قبائل بالريف، ووصولها إلى قبيلة تمسمان وبني توزين المجاورتين لقبيلة بني ورياغل برز إلى الميدان مقاوم يدعى عبد الكريم الخطابي، وبما أن الظرفية صعبة، "اضطر إلى استدعاء ابنيه محمد وامحمد ليلتحقا به بأجدير، فامتثل الولدان لأمره والتحقا به". وبعد استحضار الخطر الذي بدأ يهدد المغرب من احتلال فرنسا للمغرب الأقصى تحت ستار عقد الحماية مع المولاي عبد الحفيظ وخروج اسبانيا من مليلية للاستيلاء على الريف، كان لزاما التفكير في عاقبة الأمر، وما يجب العمل به. وهكذا قرر عبد الكريم الخطابي بمعية باقي المقاومين بأن يقاوموا الاستعمار كيفما كان وبناء على ذلك أسس مركزا عاما للمقاومين في موضع يسمى "وذيع" مقابلا للعدو الذي كان "بتفرسيت"، لكن الحالة الصحية لعبد الكريم الخطابي لم تسعفه وهو لا يزال في بداية مشواره النضالي، وعلى أي، يبقى هو من أضاء شعلة الوطنية في قلب أنجاله البررة وخاصة محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي سيكون حقا رائدا لجيله وبقي وفيا لنضاله شابا، كهلا، شيخا.
هكذا إذن، برز مولاي موحند (بهذا الاسم يعرف بالريف) إلى الميدان وشغله الشاغل هو المصالحة والتوفيق بين الناس، وجمع شمل القبائل وتمتين الوحدة بينهما والقضاء نهائيا على ما كان يعرف "بعادة الثأر" التي راح ضحيتها عدد غير قليل من المواطنين وقد تمكن من ذلك بفضل حكمته وإيمانه واجتهاده بعدما أحس بان الأمور تسير كما كان يأمل، أصر على انعقاد مؤتمر عام لقبائل الريف، "وهو ما تحقق فعلا بإمزورن بحضور جميع أعيان القبائل- 12 جمادى الثانية 1339ه- وحينئذ اقترح الزعيم على الحاضرين بان يعاهدوا الله في المصحف الكريم بان يدافعوا عن وطنهم وشرفهم، وبتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية، وهو ما تم فعلا، فتقدم هو أولا معاهدا الله ورسوله على ما ذكر".
وعلى الطرف الآخر-إسبانيا- كانت الاستعدادات جارية على قدم وساق لعقد مؤتمر عام بجزيرة النكور وبحضور جميع الضباط سواء من قيادة مليلية أو تطوان، وبعد مداولاتهم واستعراضهم جميع الظروف المحيطة بالأمر، قرروا استعمال القوة اللازمة للقضاء على قبيلة بني ورياغل، وافترق الجميع وهم عاقدين العزم لهزم حركة المقاومة وودع أحدهما الآخر أمام جميع الحاضرين وصرح بما يلي:"هذه آخر ملاقة لنا عن طريق البحر وفي القريب العاجل سنلقى على ظهر فريسنا عن طريق البر، لان هذه الحواجز سندكها بأرجلنا دكا".
وتجدر الإشارة إلى أن الإسبانيين وجهوا دعوة إلى المرتزقة لأجل حضور هذا المؤتمر، وقد تقرر بعد اجتماع المقاومين إرغام كل من حضر في هذا المؤتمر بغرامة نقدية وهو ما تم فعلا، بحيث تقدم جميع الأشخاص الذين حضروا بدفع تلك الغرامة باستثناء أحدهم الذي هم بالفرار إلى جزيرة النكور.
ومع مرور الأيام وبالتحديد بوم 31 ماي 1921، بدأت أولى الهجومات من طرف الإسبان على إحدى المواقع الإستراتيجية، وبإسرار المقاومين وفي محاولة منهم لردع هجوم العدو، استطاعوا من رد الجيش الاسباني على أعقابه معلنين بذلك على أول انتصار وتعرف هذه المعركة بمعركة "ادهار أوبران" (أغلب المعارك تسمى نسبة للمكان الذي وقعت فيه المعركة(. وهكذا بقيت لغة التعامل الوحيدة هي الرصاص الذي كان يتفرقع هنا وهناك بين الفينة والأخرى". ومع تغير الوضعية على الساحة، انتقلت محاضرات الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي من مرحلة التوعية الأخوية بين زعماء القبيلة إلى شرح التكتيك الحربي الذي يجب استخدامه أمام الجيش المنظم تنظيما عصريا يقاتل حسب خطة مرسومة ومدروسة من المختصين بإمعان". وقد كان يرنوا من كل هذا إلى التعريف بأسلوب حرب العصابات الذي أعطي أكله فيما بعد، على طول فترات المقاومة الشعبية المسلحة.
"لقد مكن التحالف القبلي من تكوين جيش قوامه خمسة آلاف رجل، وسيحتل كل المواقع الإستراتيجية المحيطة بأنوال حيث تتمركز الجيوش الاسبانية"، وسيوقع المقاومين بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي على اكبر نصر حققته الثورة الريفية، وكان ذلك في معركة "أنوال" الشهيرة- 21 إلى 26 يوليو 1921- التي تكبد فيها العدو خسائر مهولة في الأرواح تتعدد الروايات بشأن عددها ( ما بين 16 و 20 ألف قتيل)، كما كسب فيها المقاومين العديد من العتاد والسلاح الخفيف والثقيل مكنهم من الاستمرار في الحرب وبشكل عصري ومنظم، ويقول أحد المؤرخين الإسبان "تشار لزبتري" في كتابه تاريخ اسبانيا، ملخصا الأثر الذي كان لمعركة أنوال داخل اسبانيا ويقول:" كارثة أنوال ذات اثر بليغ في تاريخ اسبانيا، لو أن هذه الكارثة لم تقع، لما قامت الديكتاتورية، ولو أن الديكتاتورية لم تقم لما قامت الجمهورية الثانية وبالتالي ما وقعت الحرب الأهلية". وبالفعل فالجنود والضباط الذين ذاقوا الهزيمة في أنوال وفي مختلف المعارك في الريف هم الذين سيقودهم فيما بعد فرانكو لينطلق بهم من تطوان إلى اسبانيا سنة 1936 للقضاء على النظام الجمهوري". هكذا استرجع المقاومون أنوال بكل المناطق المجاورة لمليلية، فتعالت الزغاريد والهتافات وعاد الموكب بالظفر، فأصبح مولاي موحند سيد الريف، ووطد هذا النصر الباهر نفوذه في الداخل والخارج، وأصبح العالم يهتم به، وبدأت الصحافة العالمية تكتب عنه وترسل إليه كبار الصحافيين لاستجوابه، وقد نعتت الدول الغربية بطل الريف بعد معركة أنوال بلقب "نابوليون الريف". لتبقى بذلك معركة أنوال صفحة بطولية خالدة ورائعة، والأروع أنه قادها أناس فلاحون بسطاء، ولكنهم ذو همة عالية وهدفهم الأسمى تحرير المغرب جملة وتفصيلا.
وانطلاقا من 1921 والى غاية 1925 استمرت المعارك بين الطرفين ويقول مولاي موحند عن هذه الفترة في حوار أجراه مع مجلة أمريكية سنة 1954 "تواصلت سلسلة الهزائم التي ألحقناها بالإسبان، وانتصرت الحرية التي اكتسبناها بافتخار على مشاعر الاحتقار الذي كنا نعامل به، واستطعنا بفضله فتح المدارس بشكل تلقائي وإقرار أمن عمومي حقيقي".
وبالتطورات البطولية التي تجسدت في الانتصارات الباهرة والمتوالية على القوات الإسباني إلى حدود سنة 1924، فإن الشهور الأولى من 1925 (أبريل) شهدت حدثا هاما، يتمثل في الملاحظة التي سجلها المقيم العام بالرباط المرشال اليوطي والمتمثلة في أن الحكومة الاسبانية على وشك الرحيل والجلاء من التراب المغربي، بنادر وأعطى أوامره إلى القيادة بفاس لتعمل على إثارة الفتن والقلاقل في تلك الناحية بين القبائل الخاضعة لها وبين القبائل المنضمة إلى المقاومين.وفعلا وبتفاعل الأحداث وبتكاثر المناوشات اسر المقاومون على أرد الجيوش الفرنسية على أعقابها كما فعلو مع الإسبان، فأظهر المقاومون كما هو معلوم، مقاومة بأسلحة وصمودا نادرا في مواجهتهم للجيوش الفرنسية، والحقوا بها أقسى الهزائم طيلة الثلاث اشهر الأولى لانطلاق المعارك (من أبريل إلى يوليوز 1925)، الشيء الذي مكنهم من السيطرة على كل المواقع التي كانت قد احتلتها فرنسا من قبل من المنطقة، وأصبح المرشال ليوطي يبدي تخوفا صريحا من إمكانية دخول المقاومة إلى المدن المحاذية للجهة فاس تازة، وزان". هكذا إذن بدأت فرنسا تعترف بصلابة المقاومة الريفية وقدرتها على التصدي لأحسن القوات الأوربية وتؤكد بأن المقاومة لها جيش منظم تنظيما عصريا".
في ظل هذه الظروف لم تجد فرنسا من سبيل إلا بإرسال مبعوث رسمي إلى مدريد في إشارة منها لضرورة تحقيق التعاون الوثيق بين الدولتين للقضاء على حركة المقاومة في الريف"، ولقد توجت جلسات عمل اللجنة المختلطة بالتوقيع على اتفاق هام في 9 يوليوز 1925 يتضمن التعاون والتنسيق بين سلطات الحماية الإسبان والفرنسيين لتطبيق مبدأ الحصار البري والبحري على منطقة الريف".
وتم استئناف المشاورات الثنائية بين القيادات العسكرية وفي هذا الإطار يندرج اجتماع وزان يوم 17 مارس 1926، والذي بموجبه حدد تاريخ العمليات العسكرية التي سيبدأ في غضون الأسبوع الثاني في أبريل 1926، لكن لأسباب عدة لم تبدأ العمليات ألا يوم 6 ماي 1926.
ومن نافلة القول فإنه أصبح من الصعب على حركة المقاومة بعد التدخل الفعلي والرسمي لفرنسا في الحرب مواصلة كفاحها بنفس الفعالية والندية ضد دولتين، خاصة وان فرنسا جندت كل طاقاتها العسكرية، والديبلوماسية من اجل تحقيق هدفها المنشود وإخضاع المنطقة الشمالية من المغرب.
وقصد تضليل الرأي العام الدولي وخاصة في المتربول، دعت الدولتين الاستعماريتين -فرنسا، إسبانيا- إلى عقد مؤتمر بوجدة بحضور ممثلين عن المقاومة الريفية، لإيجاد حل سلمي للازمة، فاشترط مندوبي فرنسا وإسبانيا شرطين، يتمثل الأول في إطلاق سراح الأسرى والشرط الثاني يتمثل في السماح للجيوش الاستعمارية باحتلال نقط استراتيجية على ضفاف "الكرت" وباشتراط هذه الشروط المستحيلة تبين لممثلي المقاومة الريفية، استحالة التوصل إلى حل تفاوضي.
لقد كان هذا المؤتمر كافيا لتحميل مسؤولية استمرار المعارك لتعنت المسؤولين الريفيين، "وبعد تطبيق محكم لفصول المسرحية وفقا للسيناريو المحبوك، أعطيت الاوامر لشن اكبر هجوم إمبريالي على حركة مقاومة شعبية في التاريخ الحديث والمعاصر، لينهى الفصل الأخير بالإجهاض على الحركة وتطويق إمكانية استمرار العمل المسلح". وبإصرار القوتين الاستعماريتين على دحض المقاومة الريفية، "أرسلت فرنسا أكبر قادتها العسكريين- اعني به المرشال "بيتان"- وأرسلت معه ثمانين جينرالا ليساعدوه في قيادة حملة عسكرية مؤلفة من 325.000 جندي مزودين بأحدث الأسلحة الثقيلة والطائرات"، ونفس الشيء قامت به اسبانيا فأرسلت ما يزيد عن 100.000 جندي مزود بكامل العتاد والأسلحة اللازمة، ولذلك لم يكن من الغريب أن نرى جيش الريف، لا يقوى عسكريا على هجوم مشترك أسهم فيه أكثر من 425.000 جندي بمساندة أسطولين بحريين وطيران فرنسا وإسبانيا، وأن نرى قرية محمد بن عبد الكريم الخطابي تسقط في أيدي المهاجمين".
وأمام هذه الحالة الرهيبة، وبعدما فكر الأمير مولاي موحند أولا وأخيرا في مصير الريف ورأفة بأهله، اضطر إلى الاستسلام في 26 ماي 1926 فاختار الاستسلام بيد فرنسا، التي فكر أنها ستعامله معاملة حسنة بدلا من استسلامه لاسبانيا التي كانت تكن له الحقد والبغض نتيجة ما قاسته من أهوال الحروب ضده.
صحيح إذن أن البطل وقع في قبضة الفرنسيين ونفوه إلى لارينيون، ولكن الصحيح أيضا أن المغرب بخاصة وحركات التحرر عامة أصبحوا يستلهمون الشجاعة الخارقة للمقاتل المغربي في الإعداد لكفاحهم صد مستعمريهم، ولم يكن الزعيم الفيتنامي على خطأ عندما صرح وقال:"إن الدروس المستفادة من حرب الريف، فقد أظهرت بصفة جلية، أن باستطاعة شعب صغير هزيمة جيش عصري ومنظم، عندما يحمل السلاح ويدافع عن حقوقه وحريته، فالريفيون استحقوا بجدارة أن يقال عنهم أنهم أعطوا الدرس للعالم أجمع". هذه هي إذن المقاومة الشعبية المسلحة بالريف وهذا هو رمز هذه المقاومة لدى الشعوب كلها، ملهم هو شي منه وماوتسي تونغ وتيتو، والحائز على إعجاب كبار قادة القرن مثل لينين وسلطان كالييف، وعلى مساندة كبار مثقفي الغرب في فرنسا، ألمانيا، انجلترا، أمريكا وكل حركات التحرر فيما بعد. "هكذا كان الأبطال عبر القرون والأجيال ركائز لأمجاد الأمم وأعمدة كيانها، وأمة بدون أبطال هي أمة بدون تاريخ، ولا تاريخ لأمة ليس لها أبناء كانوا كلمات على صفحات ذلك التاريخ بل هناك أمم تبحث عن أبطال لتتخذ منهم روابط حاضرها بماضيها، تقيم لها التماثيل حتى تذكرهم الأجيال وتحيي لهم الذكريات حتى يكونوا رمزا ونبراسا ويكونوا قدوة ومثالا"، ومهما كانت العبارات متقنة والكلمات منمقة فإن أي شيء يكتب لا يفي هذا الرجل حقه، فلقد كان رجلا عظيما وإنجازاته على مر السنوات أعظم.
قبل أن أضع نقطة النهاية كمؤشر على نهاية الحديث عن فترة المقاومة الشعبية المسلحة بالريف، لا بد لي من الحديث عن أعمال وخروقات لا إنسانية رافقت هذه الحرب التي جرت رحاها بالريف، هذه الفظاعات تتمثل في حرب الإبادة التي شنتها اسبانيا بتواطؤ فرنسي وألماني وصمت دولي ستحول الريف إلى مقبرة جماعية، وذلك باستعمالها لسلاح الغازات السامة الكيميائية التي لم يجرأ قائد ألمانيا النازية لاستعمالها خلال الحرب العالمية الثانية، على اعتبار أنه سلاح محظور دوليا بموجب بروتوكول جنيف 1925 المصادق عليه. ومع توالي الحقب والسنوات، وكنتيجة طبيعية لاستعمال هذه الغازات المحظورة في هذه المنطقة، ارتفع عدد المصابين بداء السرطان في صفوف مواطني منطقة الريف، حتى انتبه الأطباء بالمعهد الوطني للأنكولوجيا بالرباط لهذه الظاهرة وراحوا يتساءلون عن أسبابها، فاللغة الامازيغية غدت لسانا رائجا في غرف وممرات العيادات وفي أمكنة الفحص والكشف ذات الصلة حتى أصبح البعض يتساءل هل اتخذ هذا المرض الرهيب صفة المرض العرقي؟ هل يمكن لداء ما أن يركب مطية الانتقاء والعنصرية والميز الإثني؟ الم ينعت من قبل داء السرطان بالمرض الطبقي؟.
استعمال الغازات السامة ضد المقاومة الريفية أصبح الآن حقيقة تاريخية تؤكدها وثائق وأرشيفات الدول الاستعمارية، ولكنها ما زالت محاطة بأسوار التكتم والتعتيم، وحتى "الدولة المغربية" لم تنسى الانضمام إلى مرتكبي هذه الجرائم اللا إنسانية، لأن صمتها اتجاه هذه القضية هو نفسه الصمت الذي عبر عنه المجتمع الدولي أنذاك.
هكذا اذن انتهت حرب الريف التحريرية بمآسي إنسانية فظيعة ولعل ما كتبه أحد الصحفيين الفرنسيين يلخص هذه الفظاعة ويقول: "إذا كان الأوربيون يعتبرون "كرينكا" التي قصفها الطيران الفرنكاوي حتى الإبادة مثالا لويلات الحرب ووحشيتها، فإن الريف كان يوميا مسرحا ل "كرنيكا".
بقلم : نجيم حيدوش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.