رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    القضاء الفرنسي ينظر في طلب الإفراج عن ساركوزي    طرح تذاكر المباراة الودية بين المغرب و أوغندا إلكترونيا    مصرع أربعيني في حادثة سير ضواحي تطوان    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض    حقوقيون بتيفلت يندّدون بجريمة اغتصاب واختطاف طفلة ويطالبون بتحقيق قضائي عاجل    اتهامات بالتزوير وخيانة الأمانة في مشروع طبي معروض لترخيص وزارة الصحة    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    الركراكي يستدعي أيت بودلال لتعزيز صفوف الأسود استعدادا لوديتي الموزمبيق وأوغندا..    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    وقفة احتجاجية في طنجة دعما لفلسطين وتنديدا بحصار غزة    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    البرلمان يستدعي رئيس الحكومة لمساءلته حول حصيلة التنمية في الصحراء المغربية    كيوسك الإثنين | المغرب يجذب 42.5 مليار درهم استثمارا أجنبيا مباشرا في 9 أشهر    توقيف مروج للمخدرات بتارودانت    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين بالمغرب    زايو على درب التنمية: لقاء تشاوري يضع أسس نموذج مندمج يستجيب لتطلعات الساكنة    العيون.. سفراء أفارقة معتمدون بالمغرب يشيدون بالرؤية الملكية في مجال التكوين المهني    احتجاجات حركة "جيل زد " والدور السياسي لفئة الشباب بالمغرب    حسناء أبوزيد تكتب: قضية الصحراء وفكرة بناء بيئة الحل من الداخل    مؤسسة طنجة الكبرى: معرض الطوابع البريدية يؤرخ لملحمة المسيرة الخضراء    هنا المغرب    وفد قضائي وطني رفيع يزور جماعة الطاح بطرفاية تخليداً للذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء واستحضاراً للموقع التاريخي للملك الراحل الحسن الثاني    لقاء الجيش و"الماص" ينتهي بالبياض    تراجع عجز السيولة البنكية إلى 142,1 مليار درهم    تتويج المغربي بنعيسى اليحياوي بجائزة في زيورخ تقديرا لالتزامه بتعزيز الحوار بين الثقافات    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخطاب الذي القى سماح ادريس* رئيس تحرير مجلة الآداب أجزاءٌ كبيرةٌ منه في مؤتمر «العروبة والمستقبل»،
نشر في السند يوم 29 - 05 - 2010


دمشق 14 19 أيّار 2010.
التفكّك العربيّ في غياب العروبة
الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (أرشيف)هناك عروباتٌ لا عروبة واحدة؛ مقارباتٌ مختلفة للعروبة،
مثلما أنّ هناك مقاربات مختلفةً لكلّ عقيدة أو منظومة فكريّة. والتشديد على هذه النقطة واجبٌ لأنّ تبنّي مفهوم عرقيّ للعروبة، مثلاً، أو مُنْكر لحقوق «الجماعات القوميّة» غير العربيّة في إطار الوطن العربيّ، قد يزيد التفكّكَ بدلاً من أن يُقلِّصه
العروبة التي نطمح إليها، أنا وآخرون يشْبهونني، بديلاً من التفكّك الحاليّ، صعبةُ التعريف. ومن ثمّ فقد يكون من الأسهل أن نفسِّرَها بما ليس فيها، أو بما لا نرغب في أن يكون فيها. فهي، لذلك، ليست عروبةً تُعْلي من شأن العرب أو الإسلام أو السُّنَّة، وتخْفض من شأن غيرهم، داخل البلدان العربيّة أو خارجها. وليست عروبةً تُحِلُّ السلطةَ مكانَ المجتمع، وتختزل السلطةَ نفسَها في الزعيم أو العائلة الحاكمة أو الجهاز الأمنيّ أو الحزب القائد أو «الطليعة الثوريّة». وليست عروبةً تُغْفل الفردَ لمصلحة ما يُزعَم أنّه «المجتمع»، أو تغلّب مفاهيمَ نوع جنسيٍّ محدّد (الذكور) على آخر. والأهمّ أنّ العروبةَ التي نطمح إليها ليست قائمةً على الفكر المجرَّد، بل على قاعدة الإنتاج المادّيّ والذهنيّ: من اقتصاد، وعلاقاتِ تبادل، وسوق مشتركة، وتراث مطبوع ومسموع ومرئيّ...
على أنّ ذلك لا يعني أنْ ليست للعروبة المنشودة ثوابتُ فكريّة. على العكس، ينبغي أن تكون ثوابتُ هذه العروبة واضحةً كعين الشمس، وأَحْصِرُها في خمسة أركان رئيسة: أ) الاستقلال الفعليّ السياسيّ والاقتصاديّ لكل الأقطار العربيّة. ب) التعاون التدريجيّ بينها وصولاً إلى الوحدة الشاملة. ج) عروبة فلسطين والقضاء على الصهيونيّة. د) الحريّات العامّة والخاصّة، بما فيها حريّةُ الاعتقاد والإلحاد والتوجّه الجنسيّ. ه) أنها جزء لا يتجزّأ من الحركة العالميّة المعادية للاستعمار والظلم ونهب الثروات.
■ ■ ■
في غياب ناظم فكريّ وإنتاجيّ هو العروبة التقدُّميّة، أو العروبةُ الحرّة، أو ما شئتم من مسمَّيات، استفحل التفكُّكُ داخل الأقطار العربيّة، لا على صعيد العلاقات بين المواطنين فحسب، بل داخل نفوسهم وعقولهم كذلك. ولعلّ حالةَ لبنان أن تكون حالةً متطرّفة، لكنها قد تسلّط ضوءاً ساطعاً على العلاقة بين التفكّك وغياب تلك العروبة:
فعدمُ الاتفاق الفعليّ، لا النفاقُ الظاهر، على هويّة لبنان العربيّة المقاومة، هو أحدُ الأسباب الرئيسة للحروب والانقسامات الداخليّة المتكرّرة منذ نشأة بلدنا. صحيحٌ أنّ الطبقة السياسيّة الحاكمة، بمختلف تشكيلاتها المتناقضة حيناً والمتقاطعة أحياناً، اتّفقتْ في مؤتمر الطائف على عروبة ما يسمّى «الكيان اللبنانيّ»؛ لكنْ مَنْ مِنّا يصدِّق يا ترى أنّ حزبَ القوّات اللبنانيّة، مثلاً، مؤمنٌ بالعروبة، مهما كان تعريفُه لها، بما في ذلك تعريفاتُ ثقافة البترودولار؟
وفي غياب ناظم العروبة التقدميّة، ازدهرت تحالفاتُ اللبنانيين مع الخارج، بل تبعيّتُهم للمعسكر الأميركيّ، أو «للمعسكر» الإيرانيّ. وهذا لا يعني أن نساوي بين هاتين التبعيّتين، ولا بين هذيْن المعسكريْن، خطراً وأطماعاً وهيمنةً، وإنْ كنتُ ممّن لا يرغبون لأمّتهم في أن تلتحقَ بأيٍّ منهما، مع اقتناعي بضرورة قيام أوثق العُرى مع إيران وتركيا على وجه الخصوص، ولكنْ من موقع المشروع القوميّ العربيّ التقدّميّ الواضح ما أمْكن.
كما تفاقمتْ في لبنان الادّعاءاتُ الفرنكوفونيّةُ والأنغلوفونيّة، وبتنا نجد آلافَ الشباب يخْجلون من التحدُّث بالعربيّة، التي غدت لديهم حاملاً في ذاتها لهويّةٍ دونيّةٍ بسبب ارتباطها في أذهانهم بالضَّعف والهوان والتخلّفِ عن الرَّكْب الصناعيّ والتقنيّ والإبداعيّ في الغرب. وازدهرتْ في الساحة الثقافيّة اللبنانيّة (وفي غيرها من الساحات العربيّة) خطاباتُ جَلْد الذات، وما أسمِّيه «العنصريّةَ المضادّةَ» التي تَذمُّ الثقافةَ العربيّة وتَصِفُها بالثقافة المنقرضة (أدونيس)، وترمي «العقلَ العربيَّ» بالعجز عن التفكير الجماعيّ والفعل الإيجابيّ، وغير ذلك من الأضاليل الاستشراقيّة. كما اشتدّ عودُ النزعات العنصريّة اللبنانيّة ضدّ العربيّ «الآخر» داخل لبنان، السوريّ والفلسطينيّ بشكلٍ رئيسٍ: فالسوريّ لا يُمْتدح علناً عند كثير من اللبنانيين إلاّ إذا خدمَ مصالحَنا الضيّقة (زعماء وطوائفَ وأحزاباً)، والفلسطينيُّ لا يُشاد به حيّاً في لبنان بل شهيداً في غزّة؛ أما في الداخل اللبنانيّ، فنُبقي العمّالَ السوريين بلا ضمانات، وننفث عليهم نكاتنا الطبقيّةَ والعنصريّة السمجة، ونَحْصرُ الشعبَ الفلسطينيّ في معازلَ أشبهَ بالبانتوستانات، ونمنعه من حقوقه المدنيّة ومن حقّ التملّك بحجّةِ رفضِ التوطين (وكأنه يريده أصلاً).
وفي غياب عروبةِ التقدّم والإنتاج، تماهت في أذهان بعض اللبنانيين فكرةُ العروبة مع الاستبداد والتخلّفِ والكسلِ والخنوعِ واللغْوِ والخطابِ الفارغ الذي لا طائل تحته و«العنتريّاتِ التي ما قتلتْ ذبابة» (نزار قبّاني في «هوامش على دفتر النكسة»). كما تماهت فكرةُ المقاومة مع الموتِ والعبث والأصوليّة والدمارِ الذاتيّ والانتحارِ المجّانيّ. وتصاعدتْ شعاراتٌ لا تخلو من السخف والغباء ودغدغةِ أكثر المشاعر البشريّة سطحيّةً، من قبيل «حبّ الحياة» و«ثقافة الحياة» و...«بَدْنا نعيش».
■ ■ ■
هذا على الصعيد الداخليّ، وفي إطارِ بلدٍ مخصوصٍ هو لبنان.
أمّا على صعيد العلاقات بين الأقطار العربيّة، فمع غياب فكرة العروبة التقدّميّة يسود اليومَ منطقٌ شوفينيٌّ ووحشيٌّ اسمُه «السيادة الوطنيّة». هكذا تَضْرب السلطاتُ المصريّة، كما تعلمون، حاجزاً فولاذياً تحت الأرض على الحدود مع غزّة، بذريعة منع «تهريب» السلاح إلى الشعب الفلسطينيّ هناك، وكأنّ غزّة، لا إسرائيل، هي التي تهدِّد سيادةَ مصر. ويصبح أدنى خلافٍ سخيفٍ بين فريقي كرةِ قدم ذريعةً تستغلّها السلطاتُ وأبواقُها الإعلاميّة للنيل من كرامة الشعبيْن معاً، مشجّعةً الناسَ العاديين والإعلامَ الخاصّ (كما يقول رفيقي أحمد بهاء الدين شعبان) على التفوّه بأقذع الشتائم العنصريّة: فتصبح الجزائرُ «بلدَ المليون لقيط»، وتغدو مصرُ «بلدَ المليون رقّاصة». وبذلك تَضرب السلطاتُ عرضَ الحائط بأنبل تعاونٍ مصريّ جزائريّ أسهمَ في انتصار الثورة الجزائريّة زمنَ الرئيس القوميّ العربيّ جمال عبد الناصر.
وفي غياب عروبةٍ تقدّميّةٍ تستوعب الجماعاتِ القوميّة (الإثنيّات) وتضمن حقوقَها، تُمعن الولاياتُ المتّحدة تدخُّلاً في شؤون العراق، فتغذّي الانقسامَ العربيّ الكرديّ، ليصبح الأميركيُّ هو «حامي حمى» العراقيين الأكراد من مواطنيهم العرب الآخرين. ومن جديدٍ تُضرب عرضَ الحائط محاولاتٌ عربيّةٌ، وإنْ قليلة، لإقامة جسورٍ بين العرب والأكراد، من قبيل إنشاء الرئيس عبد الناصر إذاعةً ناطقةً بالكرديّة في مصر عام 1958. ويجري التغافلُ عن الدم الكرديّ، الذي امتزج بالدم الفلسطينيّ واللبنانيّ في قلعة الشقيف (جنوب لبنان)، وفي غير ثغر من ثغور القوات المشتركة اللبنانيّة الفلسطينيّة، ضدّ العدوّ الإسرائيليّ في نهاية السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات.
■ ■ ■
ثم إنّ ما فاقم حالات التفكّك العربيّ بسبب غياب العروبة التقدميّة هو الدورُ المتراجعُ لمؤسّسة الجامعة العربيّة. لقد كانت هذه الجامعة، وبصرف النظر عن دوافع إنشائها في 20/3/1945 (أكان لبريطانيا دخلٌ في ذلك من أجل منع النفوذ السوفياتيّ؟)، تتويجاً لآمال العرب الوحدويين ونضالاتهم طوال النصف الأول من القرن العشرين، بهدف تعميق العلاقات بين مصر ودول المشرق، بانتظار انضمام البلدان العربيّة إليها بعد استقلالها.
لكنّ الجامعة العربيّة اليوم قد أضحت، يا للأسف، واحدًا من ثلاثة أمور: أ) إمّا بوقاً للنظام الرسميّ العربيّ، ولأحد أجنحته المهيمنة تحديداً (المصريّ السعوديّ)؛ وإمّا ب) ساعيَ بريدٍ بين الأطراف العربيّة المتصارعة لا يَمْلك قوةً تتعدّى إطلاقَ بياناتٍ ومناشداتٍ لا تُسْمن ولا تُغني من جوع؛ وإمّا ج) ملتقى للأنظمة العربيّة تَعْرض فيه تنازلاتٍ مذلّةً على العدوّ الإسرائيليّ فلا يَرضى بها (كحال مبادرة الجامعة العربيّة عام 2002).
إنّ مَنْ يسمع السيّد عمرو موسى يُدافع عن الجدار الفولاذيّ المصريّ ضدّ غزّة يأسف لكيفيّة تغليبه «السيادةَ» المصريّة على ما يُفترض أنّه «قضيّة العرب المركزيّة»، فلسطين. وبدلاً من أن يُدافِعَ الأمينُ العام لجامعة الدول العربيّة عن حقّ الشعب الفلسطينيّ المحاصَر في غزّة في بناء الأنفاق لتأمين صموده وحياتِه بعد إغلاق معبر رفح، نجدُه يدافع عن حقّ مصر في السيادة، وكأنّ السيادةَ القُطْرية أهمُّ من حياة آلاف المحاصرين. وإنْ مَنْ يرى (التركيّ) رجب طيِّب أردوغان ينسحب من مؤتمر دافوس، احتجاجاً على بيريز ورئيس الجلسة، يأسى للأمين العام لجامعتنا (العربيّة) حين يراه وهو يكاد لا يستطيع أن ينتزع نفسَه من مقعده لفرطِ ما أدمن من استكانة وسكوت على الضيم!
■ ■ ■
بدلاً من أن يُدافِعَ موسى عن حقّ الشعب الفلسطينيّ المحاصَر في غزّة في بناء الأنفاق، نجدُه يدافع عن حقّ مصر في السيادة
على أنّ أهمَّ عوامل التفكك العربيّ (وآثاره أيضًا) هو، بلا أدنى ريْب، صيرورةُ بعض الأنظمة العربيّة منصّات للاعتداء على أقطار عربيّة أخرى. إنّ حصارَ العراق، وبعدَه حصار غزّة، ليسا فقط دليلاً على التآمر الأميركيّ/ الأوروبيّ الإسرائيليّ، بل هما أيضًا برهانٌ على تواطؤ عدد من الأنظمة العربيّة على فكرة العروبة (مهما كان تعريفُها)، لا على نظامَي صدّام حسين وحركة حماس فحسب، بصرف النظر عن نقدنا الشديد لهما. ولو أنّ العروبة، وإنْ بالبُعد العِرْقيّ أو الجغرافيّ، كانت هي معيارَ النُّظُم العربيّة على اختلافها، لَما حوصرتْ بيروت عام 1982، ولا حوصِر العراقُ وجُوِّع وقُتِلَ أطفالُه بالملايين، ولا عانت المقاومةُ الوطنيّةُ اللبنانيّةُ شبهَ استفراد أثناء عدوان تمّوز 2006، ولا حوصرتْ غزّة من القريب قبل البعيد منذ أعوام. غير أنّ المنطق الرسميّ العربيّ السائد هو، في أحسن الأحوال، منطقُ الحفاظ على الدولة القُطْريّة هنا وهناك، لا الدفاع عن مصالح الأمّة جمعاء.
بيْد أنّ ذلك لا يمنعنا من القول إنّه لا يُمْكن أحدًا، بعد عقود من ترسّخ الدولة القطْريّة، القفزُ على هذه الدولة، إلاّ «عبر مسلسلٍ تاريخيّ»، كما كتب الراحلُ الكبير محمد عابد الجابري. والسؤال المقلق هو: أين نحن من هذا المسلسل؟ والإجابة البديهيّة: يبدو أننا نكصنا إلى ما قبل حلقته الأولى.
■ ■ ■
ثمة فوارقُ (ومحضُ فويرقاتٍ أحياناً) بين الأنظمة العربيّة حيال القضايا القوميّة: من مشاركٍ، إلى متواطئ، فصامتٍ، فمجعجعٍ ولا طحين، فمُمانع. ومع ذلك فإنه لا يمْكن الركونُ إلى أيّ من الأنظمة، ولا إلى الجامعة العربيّة، من أجل محاربة التفكّك العربيّ، وإرساءِ عروبةٍ تقدُّميّةٍ جامعة، بل الدورُ الأساسُ منوطٌ بقيام حركة تحرُّر عربيّةٍ جديدة، توحِّد الطاقاتِ القوميّة على أسسٍ شعبيّةٍ وتشبيكيّة، لا نظاميّة، وتنفتح على كل القوى المعادية للاحتلال والاستعمار (بما فيها حركاتُ الإسلام الكفاحيّ التي نمت على ضفاف عجز اليسار العربيّ، وتعاني اليوم أزماتِها المتفاقمةَ هي الأخرى، ولا سيّما في غزّة ومصر)، وتَطْرح المُواطنةَ والعدالةَ الاجتماعيّة أساسين للتطوّر الداخليّ.
ولا ريْب في أنّ للمثقفين العضويين دورًا كبيرًا في قيام هذه الحركة وفي استمرارها وتجديدِها: مثقفين يزاوجون بين مطالب التحرير والوحدة والتطوير الداخليّ، مستقلّين عن أنظمتهم (ما لم تتغوّلْ وتحتكرْ مجالاتِ العمل بأسْرها)، مبتعدين عن تبريراتِ أحزابهم (أنْ حدث أنِ انتموْا إلى أيٍّ منها)، منخرطين في يوميّات الحياة العربيّة، فلا يُنتجون شعارات لا معنى لها، ولكنّهم لا يَغْرقون كذلك في تلك اليوميّات بحيث تنطمس مبادئُهم ومُثلُهم العليا.
إنّ التفكّك يتزايد داخل فلسطين والعراق واليمن ولبنان، وبين مصر والجزائر، والسعوديّة واليمن، ومصر وقطاع غزّة، على الرغم من اللقاءات والنفاقات الرسميّة العربيّة. والمطلوب ضغطٌ شعبيٌّ وثقافيّ وحزبيّ متزايد على النظم العربيّة من أجل فرض ولو الحدّ الأدنى من التعاون العربيّ، ولتعزيز مكانة الجامعة العربيّة على أساسٍ معادٍ للاستعمار والهيمنة والصهيونيّة، وعلى حساب الميول القطريّة والإقليميّة والانعزاليّة. وما لم يضطلع العربُ بتشييد ركائز مشروع قوميّ عربيّ، لاطائفيّ، علمانيّ التوجّه، فلسطينيّ الهمّ، فسنصبح أكثرَ فأكثرَ لعبةً بين أقدام المشاريع الأخرى، الضخمةِ والمكرَّسةِ منذ عقود (المشروع الأميركيّ الإسرائيليّ)، أو التي في طور التشكّل (كالمشروعيْن التركيّ والإيرانيّ).
إنّ وحدتنا التقدميّة، القائمة على الإنتاج الماديّ والذهنيّ، هي أساسُ تعاوننا مع المشاريع الإقليميّة التي تتوافق مع تاريخنا في الماضي وطموحاتنا في الحاضر والمستقبل. وما دمنا بلا مشروع، فنحن سائرون في اتجاهاتٍ تزداد تبعيّةً... وانحدارًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.