بركة يدعو الاستقلاليين للابتعاد عن الحسابات الضيقة والعمل على نيل المراتب الأولى    صحيفة "معاريف" الإسرائيلية: نتنياهو "متوتر جدا" من مذكرة اعتقال دولية محتملة ضده على خلفية ارتكابه "جرائم حرب"    الملياردير ماسك يبدأ زيارة مفاجئة إلى بكين    تعيين حكم مثير للجدل لقيادة مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري    ليفار: قرارات الرداد أثرت فخسارتنا لماتش الحسنية وغانشكيو به للجنة التحكيم باش ياخد الجزاء ديالو    بسبب خريطة المغرب.. إتحاد العاصمة الجزائري يتجه نحو تكرار سيناريو الذهاب    طقس الأحد.. أمطار رعدية بعدة مناطق من المملكة    الحبس النافذ للمعتدين على "فتيات القرآن" بشيشاوة    "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان "مالمو"    مسؤولون في الخارجية الأمريكية يقولون إن إسرائيل قد تكون انتهكت القانون الإنساني الدولي    على هامش المعرض الدولي للفلاحة.. تتويج المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    حزب الاستقلال يجدد الثقة في نزار بركة أميناً عاماً    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    محمد صلاح عن أزمته مع كلوب: إذا تحدثت سوف تشتعل النيران!    الحسنية يلحق الهزيمة الأولى بالجيش الملكي في البطولة    الحرب في غزة محور مناقشات قمة اقتصادية عالمية في المملكة السعودية    ساعة جيب لأغنى ركاب "تايتانيك" بيعت في مزاد لقاء 1,46 مليون دولار    السلطات المغربية تتعقب صاحب صفحة "لفرشة"    الحصيلة المرحلية للحكومة في قطاع التعليم: من أجل أن تكتمل الصورة    محاولة الهجرة إلى سبتة تؤدي إلى مصرع شاب وظهور جثته في الحسيمة    ما الذي سيحدث بعد حظر الولايات المتحدة تطبيق "تيك توك"؟    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    افتتاح مهرجان تطوان المتوسطي ب"بنات ألفة"    توقيف سارق ظهر في شريط فيديو يعتدي على شخص بالسلاح الأبيض في طنجة    مرصد الصحراء للسلم والديمقراطية وحقوق الإنسان يندد بالإعدامات التعسفية في حق شباب محتجزين بمخيمات تندوف    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    بمشاركة خطيب الأقصى.. باحثون يناقشون تحولات القضية الفلسطينية    سيارة ترمي شخصا "منحورا" بباب مستشفى محمد الخامس بطنجة    ما هو صوت "الزنّانة" الذي لا يُفارق سماء غزة، وما علاقته بالحرب النفسية؟    عاجل.. مؤتمر "الاستقلال" يختار نزار بركة أمينا عاما لولاية ثانية    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    "دكاترة التربية الوطنية" يطالبون بتعويض المتضررين من عدم تنفيذ اتفاق 2010    حزب "الاستقلال" يختتم مؤتمره.. في انتظار الحسم في اختيار أمينه العام واتجاه لتزكية بركة لولاية جديدة    قيادة الاستقلال تتوافق على لائحة الأسماء المرشحة لعضوية اللجنة التنفيذية    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    بدء أشغال المجلس الوطني لحزب "الميزان"    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    صحيفة "النهار" الجزائرية: إتحاد العاصمة الجزائري يتجه إلى الإنسحاب من مواجهة نهضة بركان    وزان ..تحديد أفق إطلاق مشروع دار الاقتصاد الأخضر    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    انطلاقة مهرجان سينما المتوسط بتطوان    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    بفضل فوائده وجودته.. منتوج العسل المغربي يطرق أبواب السوق الأوروبية    الأمثال العامية بتطوان... (584)    اتحاد العاصمة باغيين يلعبو وخايفين من الكابرانات: هددو ما يلعبوش ويرجعو فالطيارة اليوم للجزائر وفاللخر مشاو يترينيو    صافرة كونغولية لمباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    نادية فتاح: المغرب يتيح الولوج إلى سوق تضم حوالي مليار مستهلك بإفريقيا    جاري القروض الصغرى المستحقة يصل إلى 8,4 مليار درهم في متم 2022    رحلة الجاز بطنجة .. عودة للجذور الإفريقية واندماج مع موسيقى كناوة    ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء بالمغرب    السعيدية.. افتتاح النسخة الثامنة من تظاهرة "أوريونتا منتجعات السعيدية – حكايات فنية"    الأكاديمية تغوص في الهندسة العمرانية المغربية الإسبانية عبر "قصر الحمراء"    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العولمة والتحولات الجيوسياسية
نشر في هسبريس يوم 01 - 03 - 2024

درج أغلب المتحدثون في العلاقات الدولية على اعتبار الوطن العربي منطقة تنتمي إلى دول العالم الثالث، أو الدول المتخلفة، الهامشية التي تعيش واقعا مفروضا عليها، خصائصه هي التوترات والنزاعات والمشاكل والهجرة القروية والدولية. الأمر الذي يجعل هؤلاء يعتبرون الوطن العربي خارج الحسابات الجيوسياسية، يتحمل أعباء موازين القوى بين الدول العظمى في منظومة العلاقات الدولية الجارية.
هذه الرؤية القدرية التي ترى العالم العربي يعيش حتمية علاقات القوة، لم تعد قادرة على فهم التطورات التي تعرفها الشعوب العربية بتفاعلها مع المحيط الدولي، وتطور إمكانياتها العلمية والثقافية والبشرية. إنها رؤية استعمارية بائدة، واستاتيكية للعلاقات الدولية، تنطلق من القوة العسكرية والمالية للدول العظمى، لتفهم باقي الدول، ومنها الدول العربية، على أنها تابعة وخاضعة وفق خطاطة تحليلية تبسيطية.
وتزداد هذه الرؤية بعدا عن الواقع الحي للوطن العربي، كلما استحضرنا نتائج وتأثيرات وتناقضات العولمة المتصاعدة باستمرار في كل أرجاء المعمور. باعتبارها السياق التاريخي المحدد لنشأة وتطور وفهم قضايانا المعاصرة وعلى رأسها العلاقات الدولية.
صحيح أن البشرية قذ عرفت دائما درجة معينة من التواصل وربط العلاقات بين مكوناتها في مختلف بقاع العالم. إلا أن اليوم، وبفضل التقدم العلمي والتقني وثورة وسائل الاتصال والتواصل ووفرة الإنتاج والخدمات، فإن هذه الدرجة قد وصلت إلى مستوياتها القصوى لتترابط الشعوب والدول أكثر من ذي قبل وفي كل المجالات. لذلك كثر الحديث منذ أكثر من ثلاثة عقود عن ظاهرة العولمة كخلفية أساسية ومركزية تؤطر مرحلتنا التاريخية الراهنة بكل قضاياها المعقدة وعلى رأسها العلاقات الدولية.
1- إذا كان من الصعب إيجاد اتفاق واضح على طبيعة ومقومات ظاهرة العولمة، فإننا نستطيع أن نتفق على الأعراض التي تمثلها وتؤشر على تأثيرها كعامل محدد للعلاقات الدولية، وللإرادة التي تنشط في مختلف الدول العربية لكي تفرض نفسها على الساحة الدولية. ويمكن أن نحدد ثلاثة أعراض أساسية تعبر عن خصوصية ظاهرة العولمة وهي كالتالي:
– الإدماج والتضمين: inclusion
– الترابط والتفاعل: interdépendance
– الحركية: mobilité
– الإدماج والتضمين (L'inclusion) يعني في الإجمال أن كل الشعوب في قارب واحد. في السابق كانت شعوب العالم تتجاوز وتتقارب بهذا الشكل أو ذاك. اليوم هي موحدة ومندمجة، أي أنها تعيش في منظومة من العلاقات الدولية توحد اقتصادات مختلفة ومتفاوتة في نموها بشكل كبير. الأمر الذي قاد العديد من الاقتصاديين إلى القول إن التضمين والإدماج الذي جاءت به العولمة عمق بشكل مهول اللامساواة بين الدول والشعوب، مما جعل هذه اللامساواة في الدخل والنمو الاقتصادي تصبح إحدى الرهانات الكبرى للعلاقات الدولية بدل كل الرهانات الاستراتيجية التقليدية.
– الترابط والتفاعل(Interdépendance) تشير إلى أن الكل تابع للكل. دولة عظمى عسكريا، تحتاج لدولة صغيرة أمام التفاعلات المعقدة علميا واقتصاديا وبيئيا، أصبحت الدول في العالم اليوم تخضع لإكراهات منظومة العلاقات أكثر مما تخضع لأهدافهم الخاصة. فدولة صغيرة مثل تايوان لها أهمية كبيرة في مجال الثورة الرقمية التي يعيشها العالم. فما يسمى بصناعة الرقائق الإلكترونية لها أهمية استراتيجية أكبر في نسيج الصناعة الأمريكية. الأمر نفسه يمكن أن يلاحظ في ملفات الغذاء، والبيئة، والطاقة......
– الحركية (mobilité)وهي ظاهرة نقلت العالم من صورة العالم الثابت إلى عالم متحرك. فالثورة التي أحدثت في مجال التواصل والاتصال جعلت الحدود بين الدول والشعوب.
2- تسطر في الخرائط الورقية أكثر مما هي واقع فعلي. فهجرة اليد العاملة، الأدمغة، الأفكار والتقنيات والمعدات، صارت واقعا يوميا في عالمنا اليوم.
أمام هذه العوامل الثلاث المشكلة للعولمة فإن العلاقات الدولية لم تعد بالوضوح الذي كانت عليه في السابق. إذ عرفت عدة تحولات كان الوطن العربي مسرحا لها، وأحد المناطق المعبرة عنها.
ولفهم واقع الوطن العربي في العلاقات الدولية القائمة، لا بد لنا من العودة ولو باختصار لتاريخ العلاقات الدولية التي عاشتها هذه المنطقة. إذ باستحضار معالم هذا التاريخ سنفهم بشكل أفضل اللحظة الراهنة التي يمر منها وطننا العربي.
يتفق كل الدارسين على أن الوطن العربي، مثله مثل باقي الدول المسمات اليوم دول الجنوب، مر من ثلاث مراحل كبرى أساسية في تاريخه الحديث. وهي المراحل التالية:
– المرحلة الأولى هي مرحلة التحرر الوطني وتحقيق الاستقلال.
– المرحلة الثانية هي مرحلة الحرب الباردة وسياسة الأقطاب.
– المرحلة الثالثة هي مرحلة العولمة.
المرحلة الأولى التي هي مرحلة التحرر الوطني وبناء الدولة المستقلة، شكلت اللحظة التاريخية الأولى في تاريخ الوطن العربي التي صعدت فيها شعوبه لمسرح السياسة الدولية، ورفعت على أكتافها زعامات سياسية وطنية تعبر عن مطالب الاستقلال والتحرر من سيطرة الأجنبي. لمجرد حصول أغلب الدول العربية على الاستقلال الوطني ابتدأت حركة مطلبية تقوم على الحق في السلم والاستقلال والتنمية. هكذا شاركت العديد من الدول العربية في لقاء آسيوي إفريقي سمي بلقاء باندونغ (إندونيسيا) سنة 1955 وشارك فيه المغرب رغم أنه لم يحصل بعد على استقلاله، ومثله، بأمر من جلالة المغفور له محمد الخامس، الزعيم علال الفاسي. بعد هذا اللقاء التاريخي سادت داخل الوطن العربي عقيدة سياسية تحدد العلاقات.
3- الدولية على أساس مبدأ عدم الانحياز، وصارت العلاقات الدولية وفق خطاطة ثلاثية، قطب رأسمالي غربي، قطب اشتراكي، ثم قطب دول عدم الانحياز التي تطمح لنموذج جديد في الاقتصاد. لذلك ظهرت في مؤتمر سنة 1975 في مؤتمر عدم الانحياز سنة 1975فكرة المطالبة بنظام اقتصادي جديد يتخلص من سيطرة الدول الأوروبية. خاصة وأن كل المقومات الاستراتيجية للاقتصاد الحديث موجودة بأراضي دول الجنوب (بترول، غاز، معادن نفيسة، يد عاملة شابة......).
المرحلة الثانية وهي التي ابتدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وطبعت أساسا بانقسام الوطن العربي بين دول تقف وراء القطب الاشتراكي، ودول تقف وراء القطب الرأسمالي. في مناخ الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي سابقا، والولايات المتحدة الأمريكية. فكل مجهودات المرحلة الأولى الرامية لتكريس سياسة عدم الانحياز وخلق توازنات للسلم والاستقرار والتنمية من قبل دول الجنوب ومنها الدول العربية، لم تجد عند الدول العظمى في الشمال سوى الإهمال والتبخيس.
لقد سادت لدى الدول العظمى تصورات قبلية وأحكام مسبقة حول العالم العربي باعتباره عالم لا يستحق الاهتمام إلا من أجل ثرواته الطبيعية. إنه العالم الثالث، المتخلف، مصدر الهجرة والمشاكل....
وأقصى ما استطاعت الدول العربية الحصول عليه ومعها كل دول الجنوب، هو خلق منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية سنة 1964، التي حاولت التفاعل مع مطالب التنمية الاقتصادية ثم منظمة برنامج الأمم المتحدة للتنمية المعروفة ب PNUD سنة 1965.
ومع تصاعد حضور مطالب الدول العربية، ومعها كل دول الجنوب، على الساحة الاقتصادية الدولية لم يكن أمام الدول الغربية المتقدمة سوى خلق تحالفات مصغرة عبارة عن أندية ديبلوماسية اقتصادية مثل مجموعة السبع (G7) التي أنشأت سنة 1976 (1975 تأسست G6 واستدعيت كندا في ما بعد لتعرف منذ ذلك التاريخ ب G7) إنها أندية اقتصادية تضم دول تقدم نفسها على أنها الأكثر غنا وقوة وذكاء من باقي دول العالم.
4- أمام هذا التهميش الذي قوبلت به الدول العربية وهي تبحث لنفسها عن مكانة اقتصادية على الساحة الدولية، وأمام سيطرة مقتضيات الحرب الباردة وسياسة الردع النووي، توزعت الدول العربية بين من انحاز إلى القطب الاشتراكي، ومن انحاز للقطب الرأسمالي للبحث عن مساعدات مالية واقتصادية ولوجستيكية تمكن شعوبها من الإقلاع الاقتصادي.
المرحلة الثالثة هي التي ابتدأت عندما قال رئيس الاتحاد السوفياتي سابقا غورباتشوف سنة 1989 للرئيس الأمريكي بوش الأب، بأن الاتحاد السوفياتي لم يعد معني بالمنافسة النووية بين البلدين. لتجد الدول العربية نفسها، سواء تلك التي تدور في فلك الاشتراكية أو تلك التي تدور في فلك الرأسمالية. في وضعية تقف فيها أمام مستقبلها وحيدة دون حماية. وما سمي في هذه المرحلة بنهاية التاريخ، هو في الواقع نهاية حقبة من تاريخ العلاقات الدولية كانت فيها الدول العربية تضمن مسبقا المساعدة والحماية من هذا القطب أو ذلك.
لقد شكلت نهاية الحرب الباردة واختفاء الاتحاد السوفياتي محطة دخول العلاقات الدولية في سياق جديد هو سياق العولمة المطبوع بعوامل متميزة كالإدماج في اقتصاد واحد والعيش في ترابطات معقدة ودائمة بين الدول والشعوب، وفي حركية قوية لرؤوس الأموال والبشر والتقنية والأفكار...
ولعل الحرب الروسية الأكرانية جاءت لتكثف التحول الدي عرفته العلاقات الدولية مند نهاية الحرب الباردة. فمع العولمة اتضح للدول التي خرجت منتصرة من مرحلة الحرب الباردة أنها رغم قوتها العسكرية والمالية والاقتصادية تحتاج لدول أضعف منها وأصغر منها، في الطاقة كما في التجارة وفي البيئة كما في السياسة الأمنية وضبط الهجرة والتعاون الدولي.
وعندما انطلقت أول شرارة للحرب الروسية الأكرانية رأت فيها دول العالم العربي حربا لا تعني سوى المصالح الأوروبية والغربية، وبالتالي فإنها ليست مجبرة على الاصطفاف وراء طرف ضد طرف آخر.
إن تجربة المرحلتين السابقتين اللتين عاشهما الوطن العربي، مرحلة التحرر والاستقلال، ومرحلة التهميش التي عانى منها إبان الحرب الباردة، علمتاه كيف يبني استراتيجية جديدة في صراع العلاقات الدولية. فمن سياسة عدم الانحياز إلى سياسية الانحياز لهذا القطب أو ذاك، نجد الدول العربية اليوم، مع كل التحولات العلمية والعسكرية والاقتصادية والإيديولوجية تنهج سياسة تعدد الانحياز وفق مصالح كل دولة، ووفق مقتضيات الرهانات الإقليمية والاستراتيجيات التنموية.
لقد فهم العالم العربي (باستثناء حكام جارتنا الشرقية) أن منطق العلاقات الدولية اليوم داخل سياق العولمة، لم يعد هو ذلك المنطق الدي ساد في نهاية القرن التاسع عشر حيث قال بسمارك عبارته الشهيرة (العلاقات الجيوسياسية أمر سهل، اثنان ضد والانحياز حد) بمعنى أن منطق التحالفات لم يعد بسيطا يعتمد الغلبة والقوة فقط. بل أصبحت العلاقات الدولية متشابكة ومعقدة مطبوعة بتعدد الانحياز والتحالفات.
ولعل هده المنظومة الجديدة للعلاقات الدولية هي التي ابتدأت تتشكل مند نهاية الحرب العالمية الثانية. إذ منذ هذا التاريخ والعالم لم يشهد انتصارا عسكريا لدولة عظمى وقوية على شعب ضعيف وفقير. وهي المنظومة التي أصبحت اليوم واضحة ومسيطرة، حيث القوة العسكرية لا تنعكس على طبيعة التحالفات الدولية والإقليمية. بل إن القوة في منظومة العلاقات الدولية الحالية لم تعد تقاس بالحديد والنار، بل بعوامل علمية وثقافية وإنسانية أصبحت لها أهمية في صياغة الاستراتيجيات الجيوسياسية. فالرقائق الإلكترونية كتقدم علمي صناعي بوأت التايوان مكانة جيوسياسية مهمة أمام تهديدات العملاق الصيني. الروابط الروحية والثقافة الوطنية الراسخة لدى المغاربة مكنت المغرب من كسر كل مناورات أعداء وحدته الترابية وأقنعت العديد من الدول بمشروعية مغربية صحرائه.
لقد فرضت التحولات التي عرفتها منظومة العلاقات الدولية مع العولمة، على الدول العربية أن تختار سياسات دولية دون دوغمائية إيديولوجية، وباستنارة من مصالحها الوطنية والإقليمية في التنمية والتقدم. إذ أن هذه التحولات جعلت العلاقات الدولية تستند على قوة الثقافة والروابط الاجتماعية والعمق الإنساني، في ارتباط وثيق بمطالب التنمية وردم هوة اللامساواة بين الدول.
6- والوطن العربي لم يعد تلك المنطقة المتخلفة، الثالثية، المهمشة في الحسابات الجيوسياسية.
إذ استطاعت الكثير من الدول تقوية مكانتها وتجويد مطالبها باعتماد على سياسة تعدد الأقطاب المبنية على تحالفات محلية وإقليمية. هكذا نلاحظ دولة كالمملكة العربية السعودية تنخرط في تنويع تحالفاتها سواء إقليميا بين الانتماء لمجلس التعاون الخليجي وفي الآن نفسه التحالف مع إيران، أو دوليا بالحفاظ على تحالفاتها التقليدية مع الولايات المتحدة الأمريكية، والانفتاح في الوقت نفسه على الانخراط في المجموعة الاقتصادية "البريكس" التي تتزعمها الصين وروسيا. الاستراتيجية نفسها نلاحظها عند دولة عربية أخرى لا تقل أهمية هي جمهورية مصر العربية، إذ نجدها في تحالف إقليمي مع الأردن والعراق في ما سمي ب "الشام الجديد" من جهة، وتحالف إقليمي مع الأردن والإمارات في ما سمي ب "الشراكة الصناعية" وفي الآن نفسه نجدها في تحالف مع روسيا وإيطاليا والإمارات في الملف الطاقي، إلى جانب علاقتها الوطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ الفترة الرئاسية لأنور السادات. نفس الاستراتيجية المعتمدة على تعدد الأقطاب نجدها عند دولة قطر التي تعد البلد الذي يتمتع بعلاقات دولية جيدة مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا إلى جانب حضورها القوي في التحالفات العربية الإقليمية والآسيوية. ولم يخرج المغرب عن هدا الأفق الاستراتيجي، إذ نجده هو الآخر ما فتئ ينوع في علاقته الدولية مع مختلف الدول الإفريقية والعربية والغربية. لقد نشط حضوره الإفريقي بين الدول الإفريقية ليس فقط باتفاقيات التعاون الاقتصادي والتنموي، بل كذلك بإشعاعه الروحي والثقافي. هذا إلى جانب أنه استطاع انتزاع اعتراف حليفته التقليدية الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية صحرائه، وأن يطور علاقاته مع الجارة إسبانيا ويكون له حضور وازن في الحوار السياسي الوزاري العربي الياباني.
فبفضل ذكاء الديبلوماسية المغربية في تحصين كل مواردها السياسية والثقافية في اتجاه تنويع علاقاتها مع دول العالم. استطاع المغرب أن يطالب بعلاقات دولية تنبني على مشروعية مغربية صحرائه.
7- هكذا فعلى الرغم من الظروف الدولية المتأزمة في المرحلة الراهنة، وتداعياتها الكبيرة على كافة مناطق العالم، وفي القلب منها المنطقة العربية، تبدو وضعية العلاقات الدولية اليوم، فرصة مهمة للعرب في العديد من المسارات، تتمثل أولا في مسار بناء التعاون العربي – العربي لتجاوز الخلافات الراهنة، وثانيا في مسار بناء العلاقات الدولية في اتجاه تعزيز دور أكبر على المستوى العالمي. وهي مسارات مرتبطة ببعضها وإلى حد كبير.
حيث ينظر إلى العلاقات العربية العربية بمثابة مدخل أساس لتحقيق علاقات أقوى مع المحيط الدولي، خاصة في ظل عالم يتشكل من جديد، وتحالفات في طور البناء وشيوع حالة من الشك وعدم اليقين في السياسات الدولية للدول العظمى على خلفية الارتباك الكبير في العلاقات بين عناصره في السنوات الأخيرة. وهو الارتباك الدي تأجج أكثر مع اندلاع الأزمات الأخيرة وأكبرها الحرب الروسية على أكرانيا، والحرب الإسرائيلية على غزة.
ولقد تجلى تأقلم الدول العربية مع هدا الوضع الدولي المتقلب والمأزوم في تبني مختلف هده الدول لاستراتيجية دولية أسميناها تعدد الانحياز وهي التسمية التي اقتبسناها من تصريحات وزير خارجية الهند الحالي عشية انعقاد اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين في مارس الماضي بالعاصمة الهندية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.