بالنظر إلى تعدد التحديات البنيوية التي تواجه المنظومة التربوية، من قبيل ضعف مدخلات المؤسسات التعليمية، وتردي البنيات التحتية في أغلب المدارس، والنقص الحاد في الموارد البشرية المؤهلة، إلى جانب ضعف إقبال المتعلمين على التعلم وعلى أنشطة الحياة المدرسية، وعدم نجاعة مخرجات التكوين في مواكبة متطلبات سوق الشغل، تبرز الحاجة إلى إرساء شراكة استراتيجية وفعالة بين المدرسة والمقاولة، باعتبارها أحد المداخل الأساسية لدعم مسار الإصلاح التربوي وتحقيق التحول المنشود في جودة التعليم. ففي الوقت الذي تضطلع فيه المدرسة بمهمة أساسية تتمثل في مرافقة المتعلمين في بناء مشاريعهم الدراسية والمهنية، لم يعد مقبولًا أن تظل المقاولة في موقع المتلقي السلبي لمخرجات المنظومة التربوية، بل أضحت مطالبة، انطلاقا من مسؤولياتها الاجتماعية، الأخلاقية والوطنية، بالانخراط الفعلي في دعم جهود النهوض بقطاع التربية والتكوين، والمساهمة في تأهيل الرأسمال البشري الذي يعد ركيزة أساسية لأي إقلاع اقتصادي وتنمية مستدامة. وقد أبانت بعض التجارب الوطنية عن الأثر الإيجابي لهذا الانخراط، وعلى رأسها تجربة "المدارس المحتضنة" من طرف المكتب الشريف للفوسفاط، التي تمثل نموذجا متميزا في الانفتاح على المحيط المدرسي. فقد مكنت هذه التجربة من إدماج مقاربات حديثة في تدبير المشاريع التربوية المندمجة، سواء على مستوى التشخيص، أو تحديد الأولويات أو برمجة العمليات أو تدبير الموارد، إلى جانب تأهيل الفضاءات المدرسية وفق معايير معقولة، وتهيئة بيئة تعليمية محفزة على الإبداع والانخراط الفعال. كما ساهمت في تطوير كفايات الأطر الإدارية والتربوية من خلال الاستفادة من خبرات الفاعلين الاقتصاديين، مما عزز التقارب بين مخرجات التعليم وحاجيات سوق الشغل. وانطلاقًا من النتائج الملموسة التي حققتها هذه المبادرة، لا سيما في ما يتصل بتأهيل الفضاءات المدرسية، وتفعيل وتنشيط الحياة المدرسية، تبرز أهمية الوقوف عند أبعاد هذه التجربة، واستجلاء سبل توسيعها وتعميمها على باقي الفاعلين الاقتصاديين، بما يُمكن من تحويل هذا النموذج إلى رافعة حقيقية لانخراط المقاولة في تجويد المدرسة المغربية. تجربة المدارس المحتضنة.. نموذج شراكة استراتيجية من أجل تجويد الأداء التربوي والانفتاح على المحيط تعد تجربة "المدارس المحتضنة"، في إطار الشراكة المبرمة بين الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين ومؤسسة المكتب الشريف للفوسفاط، نموذجا نوعيا في دعم أداء المؤسسات التعليمية والارتقاء بجودة خدماتها التربوية والإدارية. وقد تأسست هذه التجربة على مجموعة من المرتكزات الأساسية، أبرزها المصاحبة الميدانية للأطر الإدارية والتربوية، والتشخيص الدقيق لواقع المدارس، وربط مجالات التدخل بأولويات تستهدف الرفع من كفايات المتعلمين وسد الفجوات المؤسسية، ودعم المؤسسات التعليمية بالموارد اللازمة، إلى جانب التكوين المستمر لفائدة الأطر الإدارية والتربوية، وتحفيز مختلف مكونات المجتمع المدرسي على الانخراط الإيجابي في الحياة المدرسية، بما يجعل من الفضاء المدرسي بيئة تعليمية محفزة وجذابة. فقد شملت مجالات التدخل تأهيل البنية التحتية وتحسين الفضاءات المدرسية، من خلال ترميم المرافق وتجديدها، وتزيين محيط المؤسسة والعناية بالمساحات الخضراء، بالإضافة إلى تزويدها بالتجهيزات المكتبية والمعدات الرقمية، بما يسهم في إدماج تكنولوجيا المعلومات في الممارسات التربوية اليومية. أما على المستوى التربوي، فقد شهدت الأندية المدرسية دينامية جديدة تجسدت في تنويع الأنشطة الموجهة للمتعلمين وتوسيع قاعدة المستفيدين منها، بهدف تنمية مهاراتهم الحياتية، وصقل قدراتهم الإبداعية، وتعزيز روح المبادرة والنجاح الدراسي، بما يرسخ أدوار الحياة المدرسية في تنمية شخصية المتعلم. وفي ما يخص تأهيل الموارد البشرية، حرصت هذه المبادرة على تنظيم دورات تكوينية لفائدة الأطر الإدارية والتربوية في مجالات متعددة، من بينها تنشيط الحياة المدرسية، وتطوير الكفايات الرقمية، والتمكن من كفايات التنمية الذاتية، إلى جانب تفعيل آليات المصاحبة الميدانية لتحسين الممارسات الصفية وتعزيز الكفاءة المهنية للفاعلين التربويين. كما مكنت هذه الشراكة الأطر الإدارية والتربوية من الاحتكاك المباشر بأطر مؤسسة المكتب الشريف للفوسفاط، مما أتاح لهم التعرف على أساليب التدبير الحديثة المعتمدة في المقاولات الكبرى، واستلهام منهجيات فعالة في التنظيم والتواصل والعمل الجماعي. وفي سياق تعزيز انفتاح المؤسسات التعليمية على محيطها، تم تخصيص ميزانية لدعم تنظيم لقاءات دورية مع جمعيات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ، ومع مختلف مكونات المجتمع المدني والشركاء المحليين، قصد إشراكهم في بلورة مشاريع المؤسسات المندمجة والمساهمة في تدبير شؤونها التربوية. كما تم تنظيم زيارات ميدانية إلى عدد من المقاولات المحلية، وفرت للمتعلمين فرصًا لاكتشاف عالم الشغل، والتعرف على المهن المتاحة، في إطار أنشطة التوجيه المدرسي والمهني، بما يساهم في بناء مشروعهم الشخصي والمهني، ويعزز فرص اندماجهم في الحياة السوسيو-اقتصادية مستقبلاً. الشراكة بين المدارس والقطاع الاقتصادي.. نحو نموذج تكاملي لتجويد التعليم وتعزيز الإنصاف التربوي يشكل التعاون بين المؤسسات التعليمية وقطاع الأعمال خيارا استراتيجيا للنهوض بجودة التعليم وتحقيق العدالة التربوية، كما يعد رافعة لتعزيز الانفتاح المتبادل بين المدرسة والمحيط الاقتصادي والاجتماعي. ففي هذا الإطار، تسهم الشراكات في خلق مساحات لتبادل المعرفة والخبرة، حيث تقدم الشركات موارد تطبيقية ومهارات مهنية تكمل فقرات المنهاج الدراسي، مما يسهم في تطوير التعلمات وربطها بسياقات الحياة العملية. ويسمح هذا الانفتاح للمؤسسات التعليمية بالحصول على دعم مالي ومادي يعزز بنيتها التحتية ويوفر الوسائل التكنولوجية الحديثة والموارد التعليمية، مما يهيئ بيئة محفزة للتعليم والتعلم. وفي المقابل، تتيح هذه الشراكات للمؤسسات الاقتصادية التعرف عن قرب على كفاءات المتعلمين ومناهج التكوين والكفايات المكتسبة داخل الفصول الدراسية، مما يساعدها على استباق حاجياتها من الموارد البشرية المؤهلة، باعتبار أن مخرجات المنظومة التربوية تشكل مدخلات أساسية لسوق الشغل. كما يمكن لهذه المؤسسات أن تسهم بشكل مباشر في تطوير المناهج والبرامج وطرائق التدريس، خصوصا داخل المؤسسات ذات التوجه المهني والتقني، من خلال المشاركة في مجالس المؤسسة وتقديم مقترحات عملية تعكس واقع سوق العمل. ويمتد هذا التعاون ليشمل دعم البرامج والأنشطة التربوية المرتبطة بتعلم اللغات، نظرا لأهميتها المتزايدة والانفتاح على عالم المقاولة، إضافة إلى تحسين العلاقة بين الشركات والمجتمع المحلي عبر مبادرات مشتركة تستهدف محاربة الأمية وتقليص نسب الهدر المدرسي كالمساهمة في توفير أسطول النقل المدرسي ودعم القسم الداخلي و...، مما يكرس أدوار المقاولة المواطنة. كما يضطلع القطاع الخاص بدور محوري في المساهمة في تطوير مهارات الأساتذة من خلال دعم فرص التكوين المستمر، وتحفيزهم على تبني ممارسات بيداغوجية مبتكرة وتشجيع التميز، بما ينعكس إيجابا على تحصيل التلاميذ وتجويد التعلمات. وتسهم هذه الشراكات أيضا في سد الفجوات التعليمية من خلال تشجيع برامج الدعم التربوي وتعلم اللغات الأجنبية ومواكبة المشاريع الشخصية للمتعلمين، خاصة في المناطق الهشة، إلى جانب تمكين التلاميذ من اكتساب كفايات عملية في مجالات التدبير المقاولاتي والرقمنة والمهن الرائدة، مما يعزز من فرص إدماجهم المهني ويؤهلهم ليكونوا فاعلين في بناء مستقبلهم ومجتمعهم. ومن أوجه هذا الانخراط كذلك مساهمة المؤسسات الاقتصادية في تنمية المهارات والكفايات الحياتية للمتعلمين، من خلال دعم أنشطة الحياة المدرسية، وتشجيع إنشاء الأندية التربوية التي تُعنى بتنمية القدرات التواصلية والقيادية والاجتماعية، بما يُكمل الأدوار التعليمية للمؤسسة المدرسية، ويُعزز تربية التلاميذ على القيم والابتكار والانفتاح على الذات والآخر. نماذج دولية رائدة في الشراكة بين المؤسسات الاقتصادية والتعليمية تُعد الشراكة بين المؤسسات الاقتصادية والمنظومة التعليمية خيارًا استراتيجيًا تبنته العديد من الدول المتقدمة، انطلاقا من الوعي بأهمية انفتاح المقاولات على محيطها التربوي والاجتماعي والاقتصادي. وقد ساهم هذا التوجه بشكل فعال في تحسين جودة التعليم، وتعزيز المهارات، وتحقيق الاندماج المهني والاجتماعي للمتعلمين. من النماذج الرائدة في هذا المجال، نذكر برنامج "P-TECH" لشركة "IBM"، الذي يمثل شراكة مبتكرة بين القطاعين العام والخاص، إذ يمكن التلاميذ من الاندماج في مسار تكويني يمتد لست سنوات، يجمع بين التعليم الثانوي والجامعي التطبيقي. ويحصل المستفيدون في نهايته على شهادتين أكاديميتين وفرصة لإجراء مقابلة عمل مع "IBM" أو أحد شركائها. وفي مجال دعم التعلم مدى الحياة، تبرز منصة "Google Digital Garage"، التي تقدم موارد تعليمية رقمية مجانية في مجالات متعددة، من بينها التسويق الرقمي وتحليل البيانات وتصميم المواقع، مع تنظيم ورشات حضورية وتدريبات موجهة لأصحاب المشاريع الصغرى، ورواد الأعمال، والباحثين عن فرص الشغل. كما يمكن الإشارة إلى الدور المجتمعي المهم الذي تلعبه بعض الشركات من خلال تقديم الدعم المالي واللوجستي المباشر للمدارس. فعلى سبيل المثال، استثمرت مؤسسة للمشروبات الغازية بأفريقيا أكثر من 70 مليون دولار أمريكي لتحسين البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في أزيد من 2000 مدرسة موزعة على 35 دولة إفريقية، مما مكن أكثر من 1.4 مليون تلميذ وأستاذ من الاستفادة من بيئة تعليمية ملاءمة. كما قدم برنامج "IBM KidSmart" للتعليم المبكر أكثر من 200 ألف جهاز حاسوب محمل ببرامج تعليمية لفائدة رياض الأطفال في 60 دولة، مساهما في تعليم أكثر من 15 مليون طفل وتأطير أكثر من 250 ألف معلم. أما على مستوى تطوير المهارات وتعزيز فرص التشغيل لدى الشباب، فقد وصلت مبادرة ""Microsoft YouthSpark إلى أكثر من 300 مليون شاب في أكثر من 100 دولة، موفرة لهم فرصا متعددة لتعلم المهارات الرقمية، وتحسين فرصهم في التعليم والعمل. كما ساعد برنامج "Accenture Skills to Succeed" ما يفوق 3 ملايين شخص حول العالم على اكتساب المهارات الضرورية للولوج إلى سوق الشغل أو إنشاء مقاولات صغرى، بفضل شراكات استراتيجية مع منصات تعليمية عالمية مثل "Coursera" و"Udemy" و"LinkedIn Learning". ختاما، وفي ضوء ما سبق، يتأكد أن الشراكة بين المدرسة والمقاولة تمثل رافعة حقيقية لإصلاح المنظومة التربوية والارتقاء بجودة التعليم. فالمقاولة، باعتبارها فاعلا اقتصاديا واجتماعيا، مدعوة اليوم للانخراط الفعلي في دعم المدرسة، ليس فقط عبر تأهيل الفضاءات، بل من خلال الإسهام في تطوير الكفايات وتوجيه التكوينات نحو حاجيات سوق الشغل. وقد بينت التجارب، سواء من خلال نموذج "المدارس المحتضنة" أو المبادرات الدولية، أن هذا التكامل يفضي إلى نتائج ملموسة على مستوى الأداء المدرسي، وتحفيز المتعلمين، وتأهيل الأطر التربوية. وعليه، فإن تعميم هذه الشراكات وتوسيع مجالاتها سيسهم لا محالة في بناء مدرسة الإنصاف والجودة والابتكار، وجعلها في قلب المشروع التنموي الشامل.