كنت تلميذا داخليا بثانوية أبي العباس السبتي بمراكش موسم 1975/76 وشهدت حدث المسيرة الخضراء بتفاصيله، في الإعلام وفي الواقع، لأن هذه المدينة كانت مركزا لتجمع كبير للمتطوعين، وكنت أهرب من الثانوية لأشاهد بحرا من المغاربة رجالا ونساء يصلون عبر القطار لتحملهم شاحنات وحافلات كثيرة متوقفة على مستوى الطريق الوطنية رقم 8 بحي كيليز. كان منظرا غير مسبوق، عشرات أو مئات الشاحنات الحمراء في أغلبها، تحمل رجالا وأعلاما وبسمات وعزائم. كأن مراكش في عرس واسع متعدد لا حدود له. كان أخي الدركي مؤطِّرا لمتطوعي منطقة أسني وتحناوت وما جارها، كان يعمل بجانب القائد والشيوخ والمقدمين على تنظيم الرجال والنساء من أجل نقلهم في حافلات وشاحنات إلى مراكش، ليأخذ الجميع طريقه إلى أغادير ثم طرفاية، مركز التجمع الكبير. وحين يرجع أخي من مهمته، سيحكي لي تفاصيل المسيرة من الداخل. تساءلت آنذاك، وأنا شاب لم أتجاوز العشرين من عمري، هل يطلق الإسبان النار على المتطوعين أم يعتقلونهم؟ هل يحدث رعب في صفوف المغاربة فيولّون الأدبار؟ هل يوافق فرانكو المتشدد، على الحوار حقنا لدماء الرجال والنساء العزّل؟ لم يكن هناك أي يقين يخص مصير المتطوعين والمتطوعات، ولا مصير الصحراء إن كنا سنسترجعها أم لا. كانت التلفزة المغربية تعج بالأناشيد الوطنية أكثر من التحليل السياسي، وكان علينا انتظار المعجزات. كنا نبقى ساهرين في المراقد نكلم بعضنا البعض في الظلام بعد العاشرة ليلا، نناقش موضوعا واحدا، لا خلاف فيه، بينما الطلبة الشيوعيون ملتزمون الصمت خوفا من الأغلبية المؤمنة بالقضية الوطنية. ويوم أعلن المرحوم الحسن الثاني عودة المتطوعين، مبشرا بجديد سيكون في مصلحة بلادنا، تنفسنا الصعداء واطمأننْنّا على مواطنينا الذين أفلتوا من تحول رمال الصحراء إلى مستنقع دماء بفعل توقع تهور الديكتاتور فرانكو. ثم علمنا بعد ذلك وفاة الجنيرال وعودة الملكية إلى إسبانيا، التي تحول موقفها إلى ليونة تولَّدَ عنها اتفاق ثلاثي، بين المغرب وإسبانيا وموريتانيا. والحق نقول، إن استمتاع هذه الأخيرة بجزء من ترابنا دون بذل أي مجهود لم نستسغه، واعتبرنا ذلك ظلما في حق 350000 مغربي ومغربية كانوا على شفا الاستشهاد. وفي أحد أيام النصف الثاني من نونبر 1975، وبينما كنا نحن الداخليين نستعد لأخذ وجبة الغذاء، دخل علينا مدير الثانوية مصحوبا بالحارس العام للداخلية وبشاب يحمل حقيبة على ظهره، تذكرنا سريعا أنه تلميذ معنا في الدراسة وفي النظام الداخلي. طلب منا لحظة صمت ثم قال: – هذا صديقكم الذي مثلنا في المسيرة الخضراء وضحّى بشهرين من الدراسة من أجل الوطن، أرجو أن تساعدوه على نقل ما فاته من الدروس. فقمنا إجلالا له وصفقنا عليه بحرارة وتركنا الطعام وسلمنا عليه واحدا واحدا، علما أن المطعم كبير يتسع لأكثر من ستين مائدة. وكان هذا التلميذ يدرس في السنة النهائية، واستطاع الحصول على شهادة الباكالوريا رغم ضياع أيام كثيرة من الدراسة. لا أدري إن كان هذا الحس الوطني لا يزال يسكن الشباب اليوم، ولكن المؤكد أنْ لا أحد يترك المدرسة من أجل القضايا الوطنية، اللهم إن تعلق الأمر بتعبئة عامة للدفاع عن المغرب عسكريا. اليوم، نحن، نقف إجلالا أمام امتدادات هذه المسيرة، مسيرة البناء والتشييد والعلم والمعرفة، من أجل قطف نتائج هذا الحدث الكبير الذي مضت عليه خمسون سنة، تُوِّج باعتراف العالم بأحقيتنا في الحفاظ على صحرائنا وقتل كل أطماع الحالمين بالاستفتاء وتقرير المصير. لقد تقرر المصير في شكل حكم ذاتي متطور يرقى بالصحراء المغربية إلى درجة إغناء الجنوب والشمال معا، بتحولات اقتصادية جيوسياسية هائلة، لا نستطيع اليوم تصور حجمها الكبير. لن تجد القوى المتقدمة والنامية اليوم أي حرج قانوني في الاستثمار في هذه الأرض الطاهرة، التي ضحينا بنصف قرن من أجل نزعها من أنياب كلاب مسعورة، كادت أن تكون أبدية. لأننا نعيش اليوم مسيرة جديدة ليس هناك قوة في العالم تستطيع إيقافها.