لا يزال موضوع الخطبة الموحدة، التي هي من مشمولات خطة تسديد التبليغ التي اعتمدها المجلس العلمي الأعلى، يثير نقاشا عرضيا، بمنسوب حدةٍ متفاوتٍ؛ بسبب سوء الفهم أحيانا، أو نتيجة الفهم الممعن في الخطأ والمسرف في التحريف أحيانا أخرى. وكانت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أو المجلس العلمي الأعلى يتدخلان، في الغالب، لتبديد غبش سوء الفهم أو لتصويب مكامن الغموض أو الإبهام المرافقين لهذا الموضوع، الذي يتداخل فيه ما يهم شؤون الناس في دينهم ودنياهم. وعلى الرغم من كل الدفوعات الرسمية التي تحاول التصدي للتشككات والتشكيكات التي يثيرها موضوع خطبة الجمعة الموحدة، فإن السجال المرافق له لا ينفك يتواتر، في مواقع التواصل الاجتماعي، بحسن نية تارة أو من دونها في كثير من الأحيان؛ مما يقتضي معه نقل تصويبات العلماء ونشر بيانهم للناس في شأن يهم دينهم الذي ارتضاه لهم خالقهم عز وجل. خطبة العلماء.. والخطباء أحرار المنطلق الأساسي الذي لا ريب فيه ولا مراء هو أن خطبة الجمعة لا تصدر نهائيا عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية؛ لأن الثابت هو أن هذه الوزارة لا تتدخل في المضمون العلمي للتأطير الديني، وإنما تصدر الخطبة الموحدة المقترحة – منذ ما يقرب من سنة – عن مصدرها الطبيعي وهو المجلس العلمي الأعلى. فهي خطبة من العلماء وموجهة إلى الخطباء والفقهاء، بصيغة الاقتراح وليس الوجوب والإذعان. ولا شك في أن هذه المؤسسة العلمية (المجلس الأعلى للعلماء)، بالنظر إلى مقامها المكرس، تتحاشى الخوض في المجادلات مهما كان نوعها أو مصدرها؛ مما يجعلها تستنكف أحيانا عن الرد على التشككات المنشورة. كما أن مؤسسة العلماء، بمن فيها من الكفاءات العلمية وبما يميز عملها الجماعي في الفتوى والتأطير، هي مؤسسة منزهة عن العبث؛ وبالتالي فإن اقتراحها للخطبة الموحدة يتولى تسديد التبليغ في القضايا التي تتقاطع مع أحوال الناس في عقيدتهم ومعاملاتهم. أما المنطلق الثاني الذي يحضّ عليه العلماء، وهو أن خطبة الجمعة التي أراد المجلس العلمي الأعلى أن يعممها بتاريخ 28 يونيو 2024، ثم عاد بتاريخ 6 يوليوز بأن جعلها خطبة مقترحة، أي أنها ليست معممة بمعنى أنها مفروضة، وإنما هي معممة من باب التيسير والتسديد، وإن كان الذين لا يأخذون بها اليوم هم أقل من مائة وثمانين (180) من بين ستة وعشرين ألف خطيب. فالمجلس عندما اكتفى ب"الاقتراح"، قد انطلق من وعيه باحتمال مقاومة على شكل "تشويش" من لدن أشخاص معدودين على رؤوس الأصابع؛ إما بخلفيات تسييس الدين، أو بسبب الانغلاق الفكري على موروث لم تسبق مساءلته وإن تبين عقمه. ويدفع أصحاب هذا التوجه من العلماء بأن الخطبة المعممة المقترحة هي مرتبطة ببرنامج تأطير ديني يسمى ب"تسديد التبليغ"، وهي ليست مجرد عمل ارتجالي أو مبيت بهدف مع فرض خطاب معين، قبل أن يخلصوا-بالتأسيس على ما سبق- إلى التأكيد على "أنه لا تجوز منطقيا مقارنة هذه الحالة في المغرب مع أي حالة ليس لها سياق مؤصل في صميم مقاصد الخطبة وهي الإصلاح بأسلوب النبوة". تسديد التبليغ.. خطاب يراعي واقع الناس يؤكد العلماء، في ترافعهم الفقهي حول هذا الموضوع، أن "من تتبع بإخلاص شرح المؤسسة العلمية لأسباب نزول خطتها الدعوية قد أدرك أن برنامج تسديد التبليغ صادر عن تشخيص جوهري لحالة التدين في الميدان، وهي حالة تتمثل في ضعف آثار الخطاب الديني؛ وعلى رأسه خطبة الجمعة في جدوى تحسين التدين على مستوى السلوك". إن الأمر يتعلق، هنا، بمدى تأثير وازع القرآن على سلوك الأفراد ومعاملاتهم. ويضيف أصحاب هذا الدفع بأن "الرصد الذي انطلق منه المجلس العلمي الأعلى لا يمكن أن يختلف فيه اثنان؛ لأنه قائم على الإحصائيات الرسمية والدراسات العلمية لتفشي سلوكات الجنوح والغش والشقاق والإدمان، وغيرها مما لا يمكن أن يستمر عليه مجتمع يحاسب فيه الأفراد أنفسهم أمام الله"، قبل أن ينتهوا (من يتبنون هذا التوجه) إلى مسلمة بديهية وهي أن "خطبة الجمعة كانت وينبغي أن تبقى دافعا لتحسين الوازع الذي يدفع الفرد والجماعة إلى القيام بالعمل الصالح وإلى الانتهاء عن المنكر في النفس وفي الغير الذي على النفس مسؤوليته". ولا شك في أن هذا النوع من التصحيح، حسب الرأي نفسه، إنما يضطلع به رسميا العلماء؛ لأنه من صميم اختصاصهم وهو مناط عملهم، لاتصافهم بالوراثة في التبليغ كما هو مؤصل شرعا. ولا شك كذلك في أن هذا النوع من التسديد يستدعي أن ينضم فيه، إلى جانب علماء المؤسسة العلمية، كل ذي فهم سليم وغيرة على الدين ونية حسنة، علما بأن مسؤولية هذه المؤسسة هي في صميم حماية الدين إلى جانب أمير المؤمنين، ويعد منخرطا في عملها كل من يؤمن بثوابت الأمة ويخشى على نفسه أمام الله الخروج عنها أو أن يعد من الفتانين فيها. ولعل ما يدفع به العلماء في منافحتهم عن الخطبة المقترحة هو الدفع القائل "لا شك في أن خُطب الذين لا يأخذون بالخطبة المقترحة تقرأ من طرف الجهة المسؤولة كل أسبوع، وتدل على أنهم لا يقدمون للناس توجيها أحسن من الذي في الخطبة المقترحة، بالإضافة إلى أنهم لا يسهمون في الأمر الجامع بل يشكلون نشازا فيه". فالعلماء ينطلقون، في تقييمهم وحكمهم هذا، من الممارسة الفقهية اليومية، إذ لا يمارون في كون المدة التي مضت على اقتراح خطبة الجمعة المعممة "كانت كافية لمن فوجئ بها وتُرك له الوقت لكي يوازن ويحكم إذا كان سليما من آفات الخروج". كما لا يشكون كذلك "في أن معظم الخطب التي كانت تلقى من قبل كان يحتاج إلى تأهيل، وكثير منها كان يؤخذ من منابر أجنبية عبر وسائل التواصل الاجتماعي". البيّنة.. في مواجهة المشككين كثيرا ما تعرضت خطبة الجمعة المعممة والمقترحة لبعض المؤاخذات والاعتراضات، من قبيل أنها لا تراعي أحوال الناس. ويعقب العلماء على هذا الاعتراض بقولهم "لا شك في أن مراعاة الأحوال التي يقدمها البعض للاعتراض على الخطبة المقترحة هي دعوى باطلة إذا كان المقصود بها أحوال الناس الجزئية المحلية؛ لأن الأحوال التي جاءت الخطبة لتعالجها هي أحوال التوحيد والعمل الصالح من حيث المبادئ.. وإذا أصلحتها الخطبة صلحت بها الأحوال الجزئية المنعوتة بالمحلية؛ لأنها لا تخرج عن أن تكون، سواء من جانب الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، صادرة عن قدر صاحبها من حيث درجة الوازع أي التقوى". ويردف أصحاب هذا التعقيب كلامهم: "لا شك في أن الأحوال المحلية إذا قُصد بها ما تتناوله أخبار كل حي وقرية لا يسلم الخطيب إذا تطرق إليها فيقع إما في تخصيص غير مقبول أو في تعميم فيه مغامرة بالتجني أو من نقص في تشخيص لا يليق بالخطيب أن يقع فيه"؛ لأن الثابت هو دور الدين في التخليق على مستوى الأمة لا يمكن أن يستند إلى اجتهادات فئوية. وردا على الاعتراضات التي رافقت واقعة عزل أحد الأئمة بالرباط، والتي ذهبت حد ربط قرار عزله بعدم التزامه بالخطبة الموحدة المقترحة، يرد العلماء المنافحين على ذلك بقولهم: "لا شك في أن الإمام الذي عزل مؤخرا في أحد مساجد الرباط لم يقع عزله لأنه لم يقرأ الخطبة المقترحة وكان موضوعها النهي عن التبذير، ولم يعزل لأنه نشيط في تيار سياسي، وإنما عزل لأنه عمم واتهم الوزراء بالتبذير في اقتناء السيارات وشراء الألبسة الفاخرة وشراء الشكولاتة، وكان بالإمكان أن يقاضيه أي وزير لم يشتر سيارة فوق ما ينبغي، وما غير اللباس الذي كان يرتديه قبل الوزارة، ولا اشترى يوما شوكولاتة من المال العام ولمتعته الخاصة". فبحسب أصحاب هذا الدفع، أن من واجب الخطيب أن يشجب على مسامع الناس الظلم والغش وغير ذلك من المفاسد، فيقول اقتداء بالسنة: "ما بال أقوام؟"؛ فأصول المصالح معروفة كما أن أصول المفاسد معروفة، وعلى الخطيب أن يعالج بكل شجاعة وبيان الأمور في جذورها. بل يذهب العلماء بعيدا في هذا الدفع، بتأكيدهم على أن المؤسسة العلمية قد برمجت مشروعها على مستويين: هما مستوى الخطاب، ومنه خطبة الجمعة، والأمة كلها تحتاج إلى شرح مضمونه في شرطي الحياة الطيبة في القرآن الكريم، وهما الإيمان والعمل الصالح، وهما منطلق مشروع العلماء. ثم مستوى القرب، أي العمل الميداني انطلاقا من المساجد لمواكبة الناس في فهم الشرطين المذكورين والالتزام بهما. برنامج العلماء.. مشروع أمة من يدافع عن خطة تسديد التبليغ، ويدفع عنها الاعتراضات من منطلق التنوير والإرشاد، يرى أن عددا من المؤمنين الغيورين العارفين قد ابتهجوا لمشروع العلماء الذي ليس فيه جديد إلا التعميم ومحاولة ترتيب التسديد القولي على مقتضى أولويات الالتزام والمواكبة الميدانية لغاية تحقيق الحياة الطيبة الموعود بها في القرآن الكريم. ويهيب فريق المنافحين بمن صدقت نيته وخلصت سريرته بأن يبادر بالانخراط لإنجاح هذا المشروع، وأن ينصح غيره ممن يحتاج إلى النصح ويستمع له بالإمساك عن معارضته معارضة مغرضة. وينطلقون في ذلك من معطى مؤداه "أن مسؤولية هذا الموقف هي أكبر على من هو بدرجة من التأثير في الناس؛ لأن الناس الفطريين يعتبرونه عارفا بكل عناصر النازلة وبأن قوله صواب، وقد لا يكون كذلك، لا سيما إذا تسبب كلامه في الجراءة التي تصدر عن ضعاف العقول". ومن ثمار مشروع العلماء الذي جناه المغرب، يشرح أصحاب هذا الرأي، أن "بلادنا قطعت شوطا بعيدا في ضمان حياد المساجد بالنسبة للاختلافات الجزئية وهي موضوع السياسة. وقد حمدت الأمة هذا الإنجاز الذي هو مكسب ظهرت فوائده الدينية والسياسية. لذلك، لا يمكن التراجع عنه أو التراجع فيه". بل إن القول الراجح عندهم هو أن من يشكك في مشروع العلماء الموسوم ب"تسديد التبليغ" يرتكب سيئة دينية؛ لأن هذا المشروع ليس مشروع شخص بعينه بل مشروع أمة، وليس أمرا ارتجاليا وليس وراءه فهم دنيوي، بل هو مؤصل في القرآن والسنة وهو متبع للمنهاج الذي بدأ به الإصلاح من القاعدة، منذ أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الأسواق وهو يقول: "أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".