الإِمَارة في الدّين والعرق والإيديولوجيا كان أحد السياسيين الفرنسيين اليمينيين يصرح دائما بأن جان جوريس يستحق رصاصة في رأسه. ولم يكن يقصد أبدا ما يقول. ولكن كان هناك من الدهماء من أخذ القول على محمل الجد فأطلق عليه رصاصة في الرأس وهو جالس يحتسي قهوته في مقهى. يُقال إنّ الإمارة هي الولاية، فمن يتَولى إمرة النّاس أو يَسوسهم كان أميراً لا أحد يُستشار في أمر سلطته. وبذلك كانت الإمارةُ رديفاً للإمامة، "فعَقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب الإجماع". ففي الإمارة قُدسيّة الدين وسلطة الحاكم، "فالإمامة موضوعٌ لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا". لا يتعلّق الأمر بمنصب في تدبير شأن سياسيّ فقط، بل هو موقع في الوجدان الدينيّ أيضاً. إنّ الإمارةَ ليست تجميعا لأصوات متنوعة، إنّها التجسيد الكليّ لفكرة. لذلك كان الأمير "صورة" عن نبيّ، أو "نسخة" معدّلة عن إله أرضيّ: "فالله ندب للأمة زعيما خلَف به النبوة"، فهو يجمع بين بطل الحكايات والأساطير وبين الزعيم السياسيّ، إنّه يصالح بين "الصّوت الهادي" في الدّين، وبين "الحكامة والتّدبير" في السياسة. إنّ الخطاب الدينيّ وحده يمكن أن يصل إلى جميع النّاس، فميثاق الله "كونيّ"، أما دستور النّاس فحدث "عارض" في الزمن. لذلك يحتاج النِّحليّ، شأنه في ذلك شأن الصوفيّ، إلى "معجم" خاص لكي يصف واقعا لا يراه الآخرون. ووفق ذلك، كانت الإمارة جامعة للأمر والتوجيه والحكم القائم على "الحقّ الإلهي"، خارج ما تقتضيه "الاستشارة الشعبيّة". وذاك ما يجعل من كلّ الإمارات في الأرض كيانات مصطنعة لا تمتلك في الغالب مقومات الدولة، بمفهومها الإمبراطوري القديم، وبمفهومها في سياق المدنيّة الحديثة أيضاً. إنّها تقوم على "الولاء" و"البيعة" لا على "التعاقد" السياسيّ، لذلك لا يؤمن المريد والتابع فيها إلا بما تقوم به "الجماعة المختارة" أو تقوله، في الدين والعرق والإيديولوجيا. لذلك غالبا ما تلوذ الكثير من "الجماعات" بالصحراء أو المناطق المهجورة هربا من "فساد الخلْق" أو اتقاء "لشرور" العصر و"موبقات" الحداثة. استنادا إلى ذلك كانت الإمارةُ شبيهةً بالنِّحلة، فهي ليست مصدرا لعقيدة أو بديلا عنها، إنّها جماعة من النّاس ضاقت بهم "العقائد" ولم تعد قادرة على احتضان "الصّفاء" و"النقاء" فيهم. إنّها في الغالب مشتقّة منها، فهي الرغبة في الذهاب بالنّفس إلى أبعد مدى فيها، أو هي العودة بالفرد إلى أقصى نقطة في وجدانه حيث يُصبح الانفعال عنده "خالصا" لا يُستثار إلا من خلال حالات انتماء كليّ يقدّم صورة مُثلى عن الدين أو العرق أو الإيديولوجيا. إنّ النِّحلة كيان مغلق ومكتف بذاته، إنّها تتضمن التشدّد والتعصب والإقصاء، إنّها "عالم مانويّ" يُبنى بشكلٍ سابق في الأذهان، لا في حقيقة معيش النّاس. فهؤلاء يمارسون قناعاتهم في النِّحلة خارج شرطهم الحياتيّ. فوجودهم لا يتحقق في أفعالهم، بل يُستمد من "واقعٍ" آخر. يشير الانتماء في سياقنا هذا إلى كلّ ما يمكن أن تُحيل عليه يقينيّات "الحقّ" و"الحقيقة" و"المطلق" عند هؤلاء جميعا. فمن خصائص النّحلة أنّها لا تتأسس وفق ما يشكّلُ مشتركاً بين كلّ النّاس، بل تسعى إلى الكشف عما يُميّز ويفصل بين "الحقيقيّ" و"المزيّف" في معتقداتهم. وذاك هو الرابط بين "الحشود" وبين النِّحلة، فكلاهما يُفرز كائنا لا يحتاج إلى نفسه لكي يكون، فهو موجود في الكلّ، بالمفرد "النِّحليّ" وبالجمع "الحاشد". إنّه في الحالتين معا يتخلى عن ذاته، فهو نسخة من سلوك سابق مودع في "نصّ" يجسده أمير الجماعة أو السكرتير الأول للحزب أو الداعية العرقيّ. إنّه جزء من كتلة انفعالية تتحقق بالجمع خارج إرادته المباشرة. "إنّ الحشود تقتات من النِّحلة، والنِّحلة هي نواة وعصب كلّ الحشود". يتوارى الفرد في الحشد، إنّه يصبح جزءاً من صرخة تطلقها آلاف الأفواه في الشوارع، ويختفي النحليّ في يقين الجماعة، فهو يعيش ضمن صوت الحقّ الأوحد. "إنِّ النّحلة تحصُل على ما تريد ديناميكيا في سيرورة الزمن، وهو ما تحصل عليه الحشود ستاتيكيا في اللّحظة العابرة". يتعلّق الأمر في هذا وذاك بوسيلة في تصريف القلق والخوف من الموت والأمراض وما يمكن أن يأتي من المجهول. لقد كانت حركة "جيل زاي" حشودا غاضبة تشكو من ظلم حقيقيّ، ومع ذلك لم يفلح الغطاء التكنولوجي الجديد في إخفاء طابعها النّحليّ. لقد رفضت كل المعتقدات، ورفضت التحزب والإيديولوجيا والتفاوتات في السن وكل ما يُصنف ضمن جدلية الصراع الاجتماعي. لقد كانت تروم بناء "حقيقة" مستمدة من "يقين" جيل لا يأتيه الباطل من كلّ الجهات. فلم تكترث الدولة لصراخها. فالدولة لا يزعجها كثيرا ما يقوم به المُشاغب في الشوارع، فمن يشاغب لا يروم شيئا آخر غير تفريغ حقد دفين أو هوى أو احتجاج عابر بلا أفق سياسيّ. لذلك تتعامل معه باعتباره "ولدا" شقيا قد يكسّر ويشتم ويهدد ولكنّه سيثوب إلى رشدهِ، ويمكن أن ترضيه ببعض العطايا. إنّها تخاف من المناضل، فهذا يضع أحلامه ضمن مستقبل يُبنى وفق غايات وطن قادر على استيعاب أحلام كل القاطنين فيه. إنّنا ننتقل من الحشود إلى النّحلة، أي من "الانفعال الجمعيّ" غير المتحكم فيه، إلى "اليقين الكليّ" حيث يُحاصَر الفرد ضمن نصرة في "العقيدة" أو انتماء في" العرق" أو قناعة في "الإيديولوجيا". وذاك ما يشكّل "مانويّة الفكر النحليّ" وإقصائيّته. إنّه يشكل أيسر السبل إلى ملكوت الله أو عوالم العرق الصافية أو فضاء الطهارة السياسية. هناك "إحساس" عميق يخترق الفرد ويوحي له بأنه "يعود"، في الزمن، إلى نقطة البدء حيث كان كلّ شيء طاهراً: الفضيلة الدينيّة والعرق الصافي والمشاعيّة الأولى التي تساوي بين جميع النّاس. إنّ النِّحلة تمنح المريد السكينة وما يستتبع ذلك من طمأنينة ودعة وسعادة قصوى تصل إلى حدّ الاستغراق في حالات "وَجْد" تُمكّن الفرد من الانسلاخ عن محيطه. فذاك شرط التغلب على الأهواء والشهوات، وشرط التخلص من حالات الاكتئاب والحزن والقلق الذي رافق الإنسان منذ أن أدرك شرطه الزمنيّ في الأرض. إنّها تشكّل في الغالب قطيعةً مع "السائد" من الأفكار والعقائد والممارسات. وذاك أيضا مصدر "استعاريّة" الخطاب النّحليّ، إنّه لا يصف واقعاً اجتماعيّا، بل يستثير حالات "إشفاق" أو حالات "غضب"، هي مزيج من بؤس أرضيٍّ يستعصي على التفسير، وبين سعي إلى خلاص في المصير السماويّ. واستناداً إلى ذلك، لا تختلف "الرّقية الشرعية"، وهي من بقايا طقوس الشعوب البدائيّة، كثيرا عن الممارسات السياسية والإيديولوجية والدعوات العرقيّة الراميّة إلى تخليص الفرد من "الأفكار الهدامة". ففي الحالة الأولى نخلّصه من كائنات غريبة تستوطن جسده، أما في الثانية فنخلصه مما يوسوس له في ذهنه، أي نخلصه من أحلامه ومن رغباته في بناء مجتمع عادل، أو ننتشله من حالات العيش ضمن تعددية تقبل كلّ الألوان. تهدد الأولى الفرد في يقينيّة إيمانه الدينيّ، أما الثانية فتهدد النظام السياسي أو الانتماء العرقيّ. إننا نعود بالفرد، في جميع الحالات، إلى ما يشكل وحدة تنفي التعدد داخلها لأنّها وحدة في "الأصل"، لا حاصل التنوع في الحياة. إنّه التوق إلى "مقام الرضا" حيث السدرة التي تنتهي عندها كل حالات التناقض وإمكانية الانشطار. "فشأن المحبّ أن يرضى بكلّ ما يفعله المحبوب." لذلك لم تكن كلّ الرمزيات التي تعود إلى "المركز" و"النقطة القصوى" و"الحد النهائيّ" سوى رغبة دفينة عند الكائن الفاني في الإمساك بوجود كليّ لا شيء بعده. إنّه يبحث في الذاكرة وفي المعيش اليوميّ أو في استيهاماته عن الصفاء الذي تُبشر به كلّ "العقائد" أو تبنيه المحكيّات التي تُسنِدها. إنّها حالة من حالات المزج بين "الطهارة الدينيّة" و"التّطهير العرقيّ" و"التطهّر الإيديولوجيّ". قد يكون ذلك تجسيداً لما يشير إليه بعض النفسانيين باعتباره رغبةً في استعادة لحظة النشأة الأولى في الرحم أو الاندفاع المتعجل نحو "العالم الآخر". وتلك هي حالة من يدعو النّاس في الشاشات آناء الليل وأطراف النّهار إلى العودة إلى الرشد في السلوك اتقاء شرّ النار، أو إلى العودة إلى "أصلهم" الأول، كما كان قبل أن يشوش عليه الفاتحون أو يلطخه الغزاة. ووفق هذه الطهارة لا يُستمد السلوك من فعل حضاريٍّ له مردود في التاريخ، بل من انتماء إلى العرق أو الدين أو الإيديولوجيا. لم يكن طريف أو صالح مفكرا ولا أديبا، ولم يكن مناضلا شيوعيا ولا اشتراكيا ولا ليبراليا، كان فقط يمثل نِحلة لم تعمر طويلا في ذاكرة الوطن، ولم تكن إمارته سوى لحظة عابرة في الزّمن لم تترك أثراً يدل عليها في سلوك النّاس وفكرهم ومعتقداتهم وفي معمارهم أيضاً. ومع ذلك كان بطلا في ذاكرة "الموريين" دون سواهم. فالموريّ "نقيّ" و"صالح" و"طاهر" بالطبيعة، لا بما يمكن أن يفرزه الشرط الاجتماعيّ بكامل النقصان فيه. لا يتعلّق الأمر برغبة في استعادة لحظة في التاريخ الوطني، بل هو التوق إلى استعادة ما يمثل العرق الصافي للأمة. لذلك لا يسعى دعاة العرق إلى الحداثة في الحاضر، إنّهم يستعملون الحداثة لكي يثبتوا للناس أحقية البعض في الانتماء العرقيّ في الماضي. إنّ الفرد عندهم ليس قيمة في ذاته، بل هو تحقق خاص لمحدّد عرقيٍّ سابق، إنّهم حداثيّون موريّون. يجب أن تقود الحداثة إلى تخليص النّاس من "شيطان" العروبة و"فساد" المشرق. فذاك هو شرط خلاصهم في الأرض. وهذا معناه أنّ النِّحليّ لا يعيش في الدولة، فموطنه هو الإمارة، لذلك لا يطمئن أبدا إلى المواطنة، أو لا يؤمن بها إلا مضضاً، فهذه قيمة عارضة من مخلفات العيش في الأرض. لا يتعلم التابع والمريد كيف يفكر ويختار، وكيف يرفض ويقبل، بل يتعلم كيف يوجه مشاعر المقت والحقد نحو الآخرين الذين لا يشبهونه. وبذلك يتعلّم أيضا كيف يكون على حقّ دائما. إنّ النّحلة بذلك ميالة إلى قطعيّة في الحكم، إنّها تناهض من يشكّك في "الاستقامة" الأصلية، كما هي مودعة في "نص" سابق أو في "جينات" موهومة هي جزء من عرقٍ ثابتٍ في التاريخ: نحن موريّون أخيار في مواجهة المشارقة، الآخرين الأشرار. لذلك كانت الكراهيّة من ميزات النحليّ، إنّها أصل العنف في سلوكه ومواقفه. إنّه لا يمكن أن يعيش مع الآخرين، إنّه يعيش في غربة دائمة، إنه ينتظر خلاصاً حيث يصبح كل شيء مشابهاً لنفسه. إنّ المواطن "ناقص"، فهو فرد يخطئ ويصيب ويهوى ويندفع ويطمئن ويغضب، إنّه قلِقٌ؛ أما النحليّ فكائن "كامل"، إنّه لا يعيش حياته كما يمكن أن يتحقق في سلوك عارض، بل يتصرّفُ وفق توجيهات ساميّة قبلية لا يطالها النقصان، إنّه "مطمئن". لا يفكر النحليّ، إنّه مفكّر فيه ضمن "حقيقة" سابقة هي يقين النّحلة. إنّه لا يذهب إلى الله من خلال تقوى منبعثة من "الداخل"، بل يسعى إلى ملكوته من خلال فتوى تمنع وتبيح وتحل وتحرّم في "الخارج". لا ينفصل النص عن الشارح، إنه يستمد معناه من النّفَس المضاف الذي يأتيه من "الداعيّة". فاختياراتنا "الإراديّة" هي حاصل "تمثلات قديمة" أو تطبيقا ل "وصفات جاهزة" أو "إعلاء لكلمة" هي الحق الكليّ. فلا ضير في أن يُجرَّد النّاسُ من ذاكرتهم، من كلّ ما تعلموه في اللغة والدين والفكر والإرث المادي، فالتطهير العرقي يقتضي التخلص مما يتنافى مع طبيعة الناس كما توحي بذلك الجينات العرقية. ولا ضير في أن تضيع قطعة من أرض الوطن وأن ينفصل جزء منها، فالوطن ليس جغرافيا يحكمها التاريخ والمصالح، بل هو فكرة يمكن أن تتجسد في أضيق مساحة ممكنة يعيش فيها الناس سواسية كأسنان المشط في مجتمع "خالص". لذلك لا أهمية للصحراء، بتاريخها ورمزيتها وبعدها الاستراتيجي في الوطن، لأنها ليست جزءا من إيديولوجيا تبحث عن صفائها في إمارة تبني جنة للناس في الأرض، كما يمكن أن يتجسد ذلك في انتصار "طبقة" هي التجسيد المطلق للخلاص الإيديولوجيّ. ووفق منطق النحلة أيضا يمكن أن نعود بفلسطين إلى "لون" واحد، فلا ضير أن يضيع ثلثاها من أجل "إمارة" يسود فيها شرع الله وحده. فقيام الإمارة يقتضي التخلي عن حقيقة الوطن المتعدد، من أجل يقين النّحلة. إنّ الطريق إلى الله لا يسلك درب الوطن، بل يودع في صدق الجماعة الراشدة. لم تعد فلسطين ممتدة في وجدان الناس من خلال ما يميز بينهم، بل من خلال ما تقوله العقيدة وتبشر به. قد يموت المقاتل من أجل الأرض، ولكن الشهادة لا تصدق إلا على النحليّ. فالشهادة في الدين لا في التضحية من أجل مبدأ. وتلك هي انزلاقات الفكر النّحلي. إنّ هويتنا لا تتحقق ضمن ما يقتضيه وجودنا ضمن فضاء اجتماعيّ مرئي في المتاح الثقافي في الحاضر، بل علينا أن نحاكي نماذج قديمة تأتينا من تاريخ قيد التدوين أو فردوس منه جئنا أو إليه نذهب. ووفق ذلك تنتشر حالات الحذر من الآخر والخوف من المختلف بشكل لاشعوريّ في سلوك النّاس. إنّ الأساسي دائما هو صفاء العرق ويقين النّحلة ونقاء الإيديولوجيا. والحال أنّ الإنسان لا يعيش شرطه على الأرض ضمن إكراهات عِرقية نحليّة سابقة على وجوده في الثقافة. لذلك كانت كل الدعوات العرقيّة والاقصاء النحليّ مبررا ل "شرعية" تستند إليها كل الإيديولوجيات اليمينية والانفصالية من أجل ممارسة عنصريتها في الفضاء العمومي. إنها لا تُشير إلى التعدد والتنوع، كما يبدو عليه الأمر في الظاهر، بل تكرّس الأفكار الخاصة ب "السمو" و"التفوق" و"التحضر" و"الفرقة الناجيّة". لقد كانت الدعوات العرقية في أغلب الحالات وسيلةً من أجل القضاء على التنوع الثقافي الحقيقيّ الذي يؤكد غنى الوجود الإنسانيّ كما يمكن أن يتجلى في الثقافة وأنماط العيش وفي تدبير القلق الوجودي أيضا.