لم يعد حضور الآلة في الطب مسألة أدوات مساعدة، بل تحولا هادئا يعيد تشكيل جوهر الممارسة الطبية. فبين تشخيص ينجز في ثوان، وتوقعات تستبق الأعراض، تتسع مساحة النفوذ الخوارزمي داخل غرف العلاج. غير أن هذا التقدم، على بريقه، يفتح سؤالا أعمق من التقنية ذاتها: من يقود القرار حين تشتبك الحسابات الآلية مع الخبرة الإنسانية؟. لحظة إعادة تعريف يقف الطب اليوم عند عتبة إعادة تعريف دوره. أنظمة ذكية تحلل صورا معقدة، ترصد اختلالات دقيقة، وتربط بين معطيات متفرقة بسرعة مذهلة. هذه القدرات غيرت إيقاع الممارسة الطبية، لكنها لم تحسم معناها. فالدقة، مهما بلغت، لا تجيب وحدها عن سؤال المسؤولية ولا عن حدود التفويض. حين تتكلم الأرقام تكمن قوة الآلة في التعامل البارد مع الكم الهائل من البيانات، فهي لا تتردد، لا تنسى، ولا تمل؛ تحسب الاحتمالات، وتقيس المخاطر، وتقترح مسارات علاجية محسوبة. غير أن الأرقام، مهما بلغت دقتها، تبقى صامتة عن القلق الإنساني، وعن السياقات التي لا تقاس. ما يتجاوز النماذج المريض ليس حالة مجردة، بل تجربة معقدة من الخوف والرجاء والتاريخ الشخصي. الطبيب حين ينصت لا يجمع معطيات فقط، بل يقرأ ما بين السطور، ويفهم ما لا يصرح به. هذه القدرة على الفهم العميق لا يمكن اختزالها في نموذج، لأنها تنتمي إلى مجال الحكم الإنساني لا الحساب. وهم الحياد ينطوي الاعتماد غير النقدي على التقنية على وهم خطير، هو وهم الحياد. فالخوارزميات تصنع داخل سياقات بشرية، وتحمل في بنيتها افتراضات واختيارات، وحين تسلم لها سلطة القرار دون مساءلة يتحول الخطأ المحتمل إلى قدر مقنن، وتضيع المسؤولية بين كود صامت ونتيجة رقمية. مركزية الحكم البشري في هذا المشهد يستعيد الحكم الطبي مكانته لا بوصفه بديلا للتقنية، بل ضابطا لها. الطبيب هو من يزن التوصيات، يعارضها حين يلزم، ويتحمل تبعات القرار. هذه المسؤولية لا تقبل النقل، لأنها جوهر العلاقة العلاجية، وأساس الثقة التي لا تبنى بالأرقام وحدها. معرفة من نوع جديد يفرض هذا التحول نمطا جديدا من المعرفة الطبية، معرفة تفهم الآلة دون أن تنبهر بها، وتستخدمها دون أن تخضع لها. التعليم الطبي مطالب اليوم بتعزيز التفكير النقدي، والقدرة على الحوار، وحس التقدير الإنساني، لأنها أدوات القيادة في زمن الخوارزميات. الوقت بوصفه قيمة إذا أحسن توظيف التقنية يمكن أن تتحول من عبء إلى فرصة، فرصة لاستعادة الوقت المهدور في الإجراءات، وتوجيهه نحو ما لا يعوض: الإنصات، الشرح، والمرافقة؛ هنا فقط يصبح التقدم حليفا للإنسان، لا منافسا له. القيادة أم الانقياد ليس سباق الآلة مع الإنسان صراعا على التفوق، بل اختبارا للنضج، نضج يعرف كيف يستثمر القوة دون أن يفقد المعنى. طب الغد لن تحدده سرعة الخوارزميات، بل قدرة الإنسان على أن يقودها بحكمة. والسؤال الذي سيظل مطروحا، مهما تطورت الأدوات: هل نملك الشجاعة لنظل بشرا في زمن تفكر فيه الآلات؟.