مارسيل خليفة يهدي تكريم مهرجان وجدة السينمائي إلى غزة    "فيفا" يعاقب جنوب إفريقيا ويعتبره خاسراً أمام ليسوتو بسبب إشراك لاعب غير مؤهل    كأس العالم لأقل من 20 سنة.. النرويج تفوز على نيجيريا وفرنسا تهزم جنوب إفريقيا    وزارة ‬الخارجية ‬الأمريكية ‬تبرز ‬مؤهلات ‬المغرب ‬ك»قطب ‬استراتيجي‮»‬ ‬للأعمال ‬والصناعة    القضاء يتابع 35 شابا من "جيل Z" عقب الاحتجاجات الأخيرة    توقيف مطلوب لدى "أنتربول" بمراكش    مولاي الحسن يترأس افتتاح الدورة ال16 لمعرض الفرس بالجديدة    نيكول كيدمان وكيث أوربان يصلان إلى الانفصال    أطباء يحذرون من أخطار بسبب اتساع محيط العنق    اتفاق جديد بين المغرب والاتحاد الأوروبي لتعزيز تسويق منتجات الأقاليم الجنوبية    وكالة "فيتش" تؤكد تصنيف المغرب عند "بي بي+" مع نظرة مستقبلية مستقرة    أسعار الذهب تسجل ذروة قياسية جديدة    رشاوى ‬واختلاسات ‬لمسؤولين ‬جزائريين ‬كبار ‬أمام ‬القضاء ‬الإسباني ‬    "جيل Z" الجزائري يهدد بإعادة الشارع إلى الواجهة... والنظام العسكري في حالة استنفار    المغرب والولايات المتحدة يختتمان مناورات "ماروك مانتليت 2025" لمواجهة الكوارث    ترامب يعلن خطة لإنهاء حرب غزة وسط تشكيك محللين في جدواها    "أسطول الصمود" يقترب من منطقة خطر الاعتراض الإسرائيلي    القوات العمومية تتدخل لمنع تجمهرات مجهولة المصدر دون تسجيل أي إصابات أو خسائر    جيل زد المغربي.. احتجاجات تعيد رسم المخيلة السياسية    الدبلوماسية ‬المغربية ‬تطوي ‬المرحلة ‬الأخيرة ‬بدينامية ‬فائقة ‬السرعة    مباراة المغرب والبحرين.. بيع أزيد من 42 ألف تذكرة إلى غاية السادسة مساء    شباب المحمدية يفصح عن نواياه مبكرا بثلاثية في مرمى أمل تزنيت    بلدية ميلانو تمنح الضوء الأخضر لبيع سان سيرو لميلان وإنتر    "كولومبيا U20" تفوز على السعودية    تصعيد ‬عسكري ‬جزائري ‬ضد ‬المغرب    حين يسأل الملك... وتصمت الدولة    بوريطة يترأس في نيويورك مشاورات مع دول الساحل لتفعيل المبادرة الملكية نحو الأطلسي    إيقاف شخص يحرض على الخروج للشارع من أجل الاحتجاج    طقس الثلاثاء ممطر في بعض مناطق المملكة    كيوسك الثلاثاء | المغرب الأول بشمال إفريقيا في الحد الأدنى للأجور    احتجاجات "جيل زد": دينامية اجتماعية بلا سياق سياسي واضح!    الصحراء المغربية.. هلال يرد "دون جدال أو عدائية" على تصريح وزير الخارجية الجزائري أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة    ممثلة مطورة بالذكاء الاصطناعي تغضب هوليوود    الاقتصاد المغربي في منحى تصاعدي    المجلس الجماعي للجديدة يعقد دورة أكتوبر في جلستين    فريال الزياري: العيون.. مدينة الكرم والجمال الصحراوي الأصيل    "النقود السليمة" تُضعف ترتيب المغرب في تقرير الحرية الاقتصادية    طنجة.. السلطة تُنهي جدل تسعيرة "الطاكسي الصغير" وتُحدد الحد الأدنى في 7 دراهم    المغرب يحذر "الإيكاو" من خطورة المناطيد الهوائية على سلامة الطائرات                        القانون 272 يدفع المصابين بألأمراض المزمنة إلى الهشاشة الاجتماعية    علماء روس يبتكرون أدوية "ذكية" يتحول شكلها داخل الجسم    وجدة تحتفي بالسينما المغاربية والدولية في الدورة 14 للمهرجان الدولي المغاربي للفيلم    بنسعيد: الراحل سعيد الجديدي أغنى المكتبة الوطنية بإنتاجات أدبية وصحفية قيمة        "طريقة الكنغر" تعزز نمو أدمغة الأطفال المبتسرين    عرض "نشرب إذن" ينافس في بغداد    دراسة: الموسيقيون يتحملون الألم بشكل أفضل من غيرهم        بوريطة: تخليد ذكرى 15 قرنا على ميلاد الرسول الأكرم في العالم الإسلامي له وقع خاص بالنسبة للمملكة المغربية        الجدل حول الإرث في المغرب: بين مطالب المجتمع المدني بالمساواة وتمسك المؤسسة الدينية ب"الثوابت"    الرسالة الملكية في المولد النبوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحيل مفكر
نشر في هسبريس يوم 05 - 05 - 2010


العقل العربي يودع كبير نقاده
كان لخبر وفاة المفكر المغربي محمد عابد الجابري قبل يومين وقع خاص على المشهد الثقافي المغربي خصوصا والعربي عموما. قبل أيام فقط وليس كالمعتاد جئت على ذكره بخير ببيروت في أكثر من لقاء مع بعض المثقفين العرب. كنت غير مقتنع بآرائه، لكنني كنت معجبا بنضجه الفكري وزهده السياسي.
غادر الجابري إلى مثواه بعد أن طارح ودافع عن مشاريعه وواصل صموده السياسي على الهامش إن لم نقل وفق لعبة التعليق العضوي. يمكن أن يكون المثقف عضويا مفتوحا على قضايا أمته دون عضوية في حزب مغلق. اليوم سيصبح نقد العقل العربي منتجا كلاسيكيا ربما لا ندري كيف ستقرؤه الأجيال القادمة بنفس مختلف تماما. ولع بابن رشد الحفيد حتى الثمالة وتطلب منه الأمر أن يقلب عالي التراث أسفله ليجد لفيلسوف قرطبة المكانة التي ارتآها حقيقة به. وانهم بابن خلدون والشاطبي وابن حزم ليجعل من التجربة الأندلسية عاصمة عن عقل مشرقي مستقيل نتيجة تهرمسه السينوي. أكبرت فيه ولعه الفكري ونضاله السياسي لكن عبت فيه غلوه في تقطيع التراث وجرف المعرفة بجارفة الأيديولوجيا. كان مشروعه ردة فعل مساوية في المقدار معاكسة في الاتجاه لتاريخانية العروي. قدر المغرب أن يكون الجابري منتجا لاستفزاز أيديولوجي عروي ، كما سيكون طه عبد الرحمن منتجا لاستفزاز أيديولوجي جابري. وما يعاب هنا عليه ليس فيه بدعا. فمثقفونا لم ينظروا إلى نقادهم بعين الرضا، ولا وقفوا عند مقالاتهم بروح رياضية. ومثل ذلك فعل الجابري مثل غيره ومثل كل المغاربة ، حيث لم يهتم ولم يلتفت ، وهكذا حتى نقاده تعلموا أن لا يلتفتوا ولا يهتموا بنقادهم. ولا عيب فيما ليس فيه باحثنا بدعا، فهو المزاج المغربي الذي أضرّ بالفكر والسياسة والدين وجعل المعنى يتلاشى في مصارع العلماء.
كان في السياسة داعية كتلة تاريخية لكنه في الفكر ولع بالتقطيع والقطائع. نافح عن الديمقراطية ودافع عن تراث الغلب ليعود ويمارس نقده خارج خطاطة نقد العقل العربي. أراد الجابري في نهاية المطاف أن يتحرر من سلطة مشروعه ولعله فعل ذلك على استحياء لكنه ذهب ضحيته ، لأنه حافظ على مشروعه من الخرم وحافظ على قدسية ملحمته الكلاسيكية. وحينما تعرض الباحث العربي الشهير إلى أزمات صحية عابرة كان قد التفت إلى أن الانخراط في نقد العقل المنظم والمنتظم بالمعنى اللالاندي الذي ولع به الباحث على طول ملحمته النقدية ، ينسحب شيئا فشيئا لإحدى أخطر أشكال نقد العقل ليس بالمعنى الابيستيمولوجي هذه المرة بل بالمعنى البيولوجي. أجرى الجابري قبل فترة عملية على الرأس في المستشفى الأمريكي. لم يخطئ أحد الصحفيين المخضرمين من زملائه وهو يداعبه: إن ريع العقل العربي يصرف اليوم على العقل الأمريكي. كان رحمه الله مثقفا متخما بالأيديولوجيا إلى حد لا يعير انتباها إلى خطورتها. لكنه أيضا لم يكن أيديولوجيا فجّا، بل كان أيديولوجيا يدرك لعبة الإسناد المعرفي للأيديولوجية. مرت مشاريعه تداعب كل التيارات وتتجاوب مع كل الأيديولوجيات المؤثرة خلال العشريتين الأخيرتين؛ لقد بدا للبعض سلفيا كما بدا للبعض ماركسيا كما بدا للبعض قوميا كما بدا للبعض علمانيا كما بدا للبعض إسلاميا... كل هذا والجابري يجيب كما أجاب ذات مرة في إحدى محاضراته الممهدة لصدور كتابه وخاتمة مشروعه في نقد العقل العربي: إنني كل هذا الشيء إنني أنطلق من واقع عربي فيه كل هذه الاتجاهات. كان الجابري صاحب ذكاء سياسي. وما فتئت أجوبته الثقافية أن تكون أجوبة سياسية في كثير من المواقف. إنه يقمع سؤال المثقفين بأجوبة سياسية، كما كان يقمع أسئلة السياسيين بأجوبة ثقافية. فالجابري مثقف وسياسي مخضرم أجاد لعب هذا الدور المزدوج ؛ غير أنه في نهاية المطاف تراجع إلى الخلف وفضّل الانزواء دون الانسحاب ليطل على المشهد من انطولوجيا الكتابة في غياب شبه كامل عن المشهد السمعي والبصري .
حركت أعمال الجابري إلى حدّ الاستفزاز غفير من النقاد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. تأخر النقد مغربيا ضد الجابري سنوات عديدة ، ما يؤكد أن مشروعه في نقد العقل العربي كان قد امتلك المجال واستولى على العقول . ومع أنني شخصيا كما أكدت في وقتها لم أكن أحس بهذا الانملاك الكبير بمشروع الجابري، حتى أنني لم أتردد في ممارستي النقدية لنصوصه ، إلا أن إحساسا ما يؤكد على أن الجابري كان ركنا من أركان الثقافة المغربية والعربية ، يترك حتى عند منتقديه انطباعا بأن المقارعة الفكرية مع الجابري تحقق استمرارية للحياة الفكرية وتبلغ بالفكر العربي مراتب ما كان له أن يبلغها لولا هذا النوع من المقارعة. ويكفي أنه استفز نقاده حتى قدموا في نقده أجزاء وموسوعات أغنوا بها المكتبة العربية؛ على الأقل هم مدينون له بهذا الفضل. في المشرق انبرى للجابري عدد من النقاد كان آخرهم جورج طرابيشي الذي قدم ملحمة نقدية ضخمة تترصد منهجية ونقول الجابري على طول مشواره في نقد العقل العربي. وفي المغرب جاءت محاولة طه عبد الرحمن متأخرة لكنها شكلت محاولة من نكهة مختلفة أقامت الحد المنطقاني على تفاصيل نقد العقل العربي. نقد الجابري صنع عند خصومه الكراهية التي امتدت لشخصه ، وهذا هو عوار الفكر والعقل العربيين. كنت أعتقد أن نصوص الجابري تحتاج بل تغري بالنقد. فأما نقاده فقد تطوروا بفكره ولكنهم لم ينسخوا آراءه. ففي مرات عديدة وجدت في نصوص نقاده إعادة توزيع لآرائه نفسها بلغة جديدة وتنسيق مختلف.
بعد أن أنهى الجابري ملحمة نقد العقل العربي مع نقده لمنظومة القيم العربية ، تحرر من نقد العقل العربي ودخل في تجربة أكثر تحررا ، إذ بدا أكثر جرأة على التراث أعني التراث الذي استند إليه خلال مسيرته النقدية . كانت آراؤه لا سيما ما تعلق منها بالقرآن الكريم انتهاكا وخرما لمشروع نقد العقل العربي. ففضلا عن بعض الآراء التي بدت عند مخالفيه شاذة ليس آخرها تأكيده القول بتحريف القرآن في مظان المسلمين كافة كان قد أغرم بتفكيك الفكر أكثر من إعادة بنائه. وقد وجدت في هذا ما أكدت عليه دائما، ألا وهو أن الباحث العربي قد يملك الجرأة على القرآن ولا يملك الجرأة نفسها على التاريخ. إن التاريخ أكثر قدسية وخطورة في الفكر العربي من القرآن نفسه. لذا كان الجابري سلفيا محافظا في مشروع نقد العقل العربي؛ بالأحرى كانت محاولة لإعادة بناء هذا العقل على أسس تستجيب وتتكامل مع مطلب تحقيق عقل المعقول بالمدلول الرشدي وعقل المنقول بالمدلول الحنبلي. هذا التكامل بين محنتين: محنة ابن رشد ومحنة ابن حنبل التي تسند المحاولة المذكورة ، وربما حبك منها الباحث تراجيديا التراث المطلوب تغليبه في هذا التوزيع والتشطير والتجزئة القطائعية التي اكتست عنده طابعا ليس إجرائيا فحسب بل تعدت لتصبح قطيعة أنطولوجية داخل التراث. لقد أثبت القول بتحريف القرآن ولكنه سلّم بكل الأحكام التي جاءت في التراث. لم تكن المحاولة نقدية جذرية بل كانت تجزيئة وتغليبية بامتياز. لقد غرق الجابري في التراث بعد أن حاول تقطيعه إلى خيارات. كنت أرى انعداما في التناسب بين دعوته للنهضة وقسوته على التراث الآخر. فمقتضى الكتلة التاريخية يناقض تغليب تراث على آخر . ومطلب النهضة آبي لإعمال وسيلة الاستئصال النظري للمختلف. جاء كتابي " محنة التراث الآخر" جوابا على تهمة العقل المستقيل التي وسم بها التراث العربي المشرقي، كما جاء كتابي "ما بعد الرشدية " جوابا على مزاعم نهاية القول الفلسفي العربي والإسلامي عند ابن رشد. وما كان لي أن أكتب ذلك لولا هذا الاستفزاز الفكري الكبير؛ لهذا أنا مدين له في ذلك. علينا أن نتعلم شكر من ننتقد؛ لأن لهم الفضل فيما نمارسه وننتجه.
لي مع الجابري حكاية؛ لقد انتقدته قبل أن أراه. وحينما رأيته قبل 16 سنة تقريبا على هامش إحدى الندوات ، لم أعرّفه باسمي. كان الحديث معه وديّا. وكانت بحّته تضفي الكثير من الأنس على تعبيره. اتفقنا على موعد مفتوح لإجراء لقاء حول قضايا فكرية، في انتظار اتصال منّي لم ألتزم به نظرا لسفري خارج البلد. اكتفيت بنقده من بعيد. وحينما ساهمت معه مرة في مجلة فكر ونقد، لمست منه معاملة على أصولها المهنية. لم أكن أنتظر من مجلته أن تنشر مقالا لناقد قسا عليه بعض الشيء، ولا حتى كنت أنتظر مكافأة من مجلته، ولكنه فعل؛ وهذا بخلاف الكثير من المثقفين الذين يعتبرون نقد آرائهم نقدا شخصيا يستلزم تصفية الحساب في كل المواقع حتى في الطرقات ، وربما أثّر على صوابهم المعرفي والأخلاقي. لقد كان في الممارسة كبيرا.
كنت أتخيل محمد عابد الجابري في أي موقع رسمي، لكنه ظل بعيدا عن هذه الأدوار والوظائف، بعد أن اعتذر منها جميعا. في هذا الموقف كان الجابري بخلاف الكثير من المفكرين، رجلا زاهدا في المنصب والسلطة. لقد علق عضويته في حزب الاتحاد الاشتراكي كما رفض العضوية في مؤسسات كثيرة سال لها لعاب مثقفينا. الجابري مثقف لم يتزلف ولم يحن رأسه ولم يحمل من عقد الكثير من المثقفين المغاربة وغيرهم . يمكنك أن تنتقد الجابري مفكرا في صميم مشروعه ، لكنك لن تملك إلا أن تحيي فيه سمته المناضل؛ رحم الله محمد عابد الجابري!
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.