زوما يدافع عن زيارته للمغرب: العلم الجنوب أفريقي ملك للشعب وليس للحكومة    قانون مالية 2026.. مواصلة تنزيل الإصلاحات الهيكلية والحفاظ على التوازنات المالية    فرنسا تندد ب"شدة" بخطة الحكومة الإسرائيلية لاحتلال غزة بالكامل    أسود البطولة يرفعون التحدي قبل مواجهة كينيا    أوغندا تكتسح غينيا بثلاثية في "الشان"    شيخ الطريقة القادرية البودشيشية في ذمة الله    موجة حر مع درجات حرارة تصل الى 48 بعدد من مناطق المغرب    وقفات مغربية تواصل مناصرة غزة    مشروع قانون المالية 2026.. تعزيز استدامة المالية العمومية ودعم النمو المستدام ضمن رؤية ملكية شاملة    تداولات بورصة البيضاء تنتهي بالأخضر    الحضري: بونو يستحق الأفضل في العالم    واشنطن توضح سياسة "رسوم الذهب"    "أولمبياد تيفيناغ" .. احتفاء بالهوية عبر منافسات تربوية في الحرف واللغة    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    المغرب يحتفي بأبنائه في المهجر ببرامج صيفية تعزز الانتماء للوطن وتواكب ورش الرقمنة (صور)    قادة دول ورجال أعمال يلتمسون ود ترامب بالذهب والهدايا والمديح    المعرض الوطني للطوابع والمسكوكات يتوج نسخته الثانية في مدينة خنيفرة بندوة علمية حول تاريخ النقود والبريد    عيطة الحال ... صرخة فنية من قلب البرنوصي ضد الاستبداد والعبث    الرباط تحتضن النسخة الأولى من «سهرة الجالية» بمناسبة اليوم الوطني للمهاجر    وفاة طفل غرقاً داخل حوض مائي بإقليم الحسيمة    ارتفاع صاروخي في صادرات الطماطم المغربية نحو إسبانيا بنسبة 40%    الشرطة توقف طبيبا متلبسا بتلقي رشوة 3000 درهم مقابل تسريع خبرة طبية    موجة حر تصل إلى 48 درجة وزخات رعدية مرتقبة في عدد من مناطق المملكة    قتيل ومصاب في انهيار بمنجم إميضر    رحيل الفنان المصري سيد صادق عن عمر 80 عاما في وفاة مفاجئة    الجمارك المغربية تجدد إجراءات الرقابة على المعدات العسكرية والأمنية    بطولة إسبانيا.. مهاجم برشلونة ليفاندوفسكي يتعرض للإصابة    مدافع برشلونة إينيغو مارتينيز في طريقه إلى النصر السعودي    المغرب في قائمة الوجهات الأكثر تفضيلا لدى الإسبان في 2025    بلدية إسبانية تتخذ قرارا مثيرا للجدل بحق المسلمين    بطولة أمم إفريقيا للمحليين.. بوابة اللاعبين المحليين صوب العالمية    مقاييس الأمطار المسجَّلة بطنجة ومناطق أخرى خلال ال24 ساعة الماضية    وفاة الفنان المصري سيد صادق    المغرب يصدّر أول شحنة من القنب الهندي الطبي نحو أستراليا        قتيل بضربة اسرائيلية على جنوب لبنان    لطيفة رأفت تعلق على "إلغاء حفلين"    النجم الحساني سعيد الشرادي يغرد بمغربية الصحراء في مهرجان "راب افريكا"    السلطات تحجز بالفنيدق طنا من البطاطس مجهولة المصدر وغير صالحة للاستهلاك    العربيّ المسّاري فى ذكرىَ رحيله العاشرة    واشنطن تعلن عن جائزة 50 مليون دولار مقابل معلومات للقبض على الرئيس الفنزويلي    سان جرمان يتوصل الى اتفاق مع ليل لضم حارسه لوكا شوفالييه    مدرب الرجاء يمنح فرصة لأبريغوف    "أوبن إيه آي" تقوي الذكاء الاصطناعي التوليدي    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    مسؤول أممي يرفض "احتلال غزة"    المغرب على رادار البنتاغون... قرار أمريكي قد يغيّر خريطة الأمن في إفريقيا    أطروحات يوليوز    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    عمليتا توظيف مالي لفائض الخزينة    المغرب يواجه ضغوطا لتعقيم الكلاب الضالة بدل قتلها    تسجيل 4 وفيات بداء السعار في المغرب خلال أشهر قليلة    "دراسة": تعرض الأطفال طويلا للشاشات يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب    من هم الأكثر عرضة للنقص في "فيتامين B"؟        الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    من الزاويت إلى الطائف .. مسار علمي فريد للفقيه الراحل لحسن وكاك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إِدْوَارْدُو غَالِيَانو مَاتَ وَمَا زَالَتْ أَوْرِدَةُ أَمْرِيكَا اللاَّتِينِيَّة مَفْتُوحَة..!
نشر في هسبريس يوم 02 - 05 - 2015

قبل أن يتعاطى الكاتب الأوروغوائي الذائع الصّيت إدواردو غاليانو الكتابةَ، ويصبح مبدعاً كبيراً، ومثقّفاً مرموقاً ( كان يُعتبر رمزاً بارزاً من رموز اليسار في أمريكا اللاّتينية، وواحداً من أجرأ كتّابها فى العصر الحديث فى أمريكا اللاّتينية)، ومثلما كان الكاتب المكسيكي الشّهير خوان رولفو عاملاً فى أحد مصانع العجلات المطاطية ببلاده المكسيك فى شبابه، فقد إشتغل غاليانو فى شرخ عمره ، وأوّل شبابه كذلك عاملاً بسيطاً فى أحد المصانع ، كما عمل رسّاماً، وساعي البريد،وفى الطباعة،وموظفاً فى أحد المصارف البنكية، وفى سواها من الأعمال التي ليست لها أي صلة بإختياراته ،وميولاته، وطموحاته الحقيقية فى الحياة حيث أصبح فيما بعد من أكبر الكتّاب فى بلده الأوروغواي، ثم على مستوى القارة الأمريكية، والعالم الناطق باللغة الإسبانية، وتُرجمت كتبه إلى ما ينيف على عشرين لغة عالمية.
عن سنٍّ تناهز الرّابعة والسّبعين عاماً غيّب الحِمَامُ فى 13 أبريل الجاري 2015 فى عاصمة الأوروغواي(مُونطيفيديّو) هذا الكاتب الكبير صاحب أشهر كتاب وُضع منذ ما ينيف على 46 عاماً حول معاناة السكّان الأصلييّن للقارة الأمريكية الذين يسمّيهم الكاتب "سكّان الشقّ الجنوبي السُّفليِ من القارّة " ،مقابل "سكّان الشِقّ الشّمالي العُلْويِ من القارّة "، وهو كتاب " أوردة أو شرايين أمريكا اللاّتينية المفتوحة" التي لمّا تَزَلْ مفتوحةً ومشروخة بالفعل - إلى يومنا هذا - كما أكّد غير ما مرّة ذلك منذ بضعة أشهر صاحب الكتاب نفسه،الذي كان قد قال قيد حياته مازحاً أنّه : " – على الرّغم – من أنّ الرّئيس الفنزويلي السّابق الرّاحل "أُوغُو شّافيِسْ" أهدى نسخةً من هذا الكتاب إلى الرّئيس الأمريكي " باراك أوباما " عام 2009 خلال مؤتمر القمّة الخامس للعالَم الأمريكي، المنعقد فى " بويرتو إسبانيا " عاصمة ترينيداد وتوباغو ، وعلى الرّغم من أنّ نسبة مبيعات هذا الكتاب قد قفزت فى أحد مواقع البيع الأمريكية (أمازون) من رتبة 60.280 إلى المرتبة العاشرة فى يوم واحد ، إلاّ انّه على يقين لا "أُوغُو شَافيِسْ" نفسه، ولا "باراك أوباما" قد فَهِما فهماً جيّداً، وإستوعبا إستيعاباً حقيقيا نصّ، وعمقَ،وبُعْد هذا المؤلَّف "،الذي كان محظوراً فى كلّ من الأوروغواي، وتشيلي، والأرجنتين. يضافُ فى هذا السّياق إلى هذا الكتاب الضّخم الآنف الذّكركتابُه الكبير كذلك " مذكّرات النار" (1986) الذي يقع فى (ثلالثة أجزاء)، والذي أفردتُ له فصلاً قائمَ الذات تحت عنوان( إعمالُ النّظر) فى كتابي : " ذاكرة الحُلْم والوَشْم" (أضواء مثيرة على ماضي وحاضر العالم الجديد) الصّادر عن دار النشر " أياديف" الرباط عام 2005.
" أوردة أمريكا اللاّتينة المفتوحة" كِتَابُ اليَسَار
كتابه الشّهير" أوردة أمريكا اللاّتينة المفتوحة" نشره وهو فى الواحدة واالثلاثين من عمره،كان فى البداية يعتقد أنه يضع كتاباً فى الإقتصاد السياسي ،وليس مؤلّفاً يعالج فيه بعمق كافة المشاكل، والمعضلات التي كانت تتخبّط فيها القارة الأمريكية فى شقّها الجنوبي فى ذلك الأوان،سياسية كانت، أو ثقافية،أو تاريخية، أو إجتماعية ،أو إنسانية، أوإثنية، أوعرقية، أو إبداعية وسواها.
يقوم إدواردو غاليانو فى هذا الكتاب بتحليل تاريخ هذه القارة البِكر ، بما فى ذلك بشكل خاص التصفية االعِرقية، والإستغلال الإقتصادي ،والهيمنة السياسية التي تعرّضت لها بشكل رهيب هذه القارّة منذ الإستعمار الأوروبي لها إلى فترة السبعينيات من القرن المنصرم التي نشر فيها هذا الكتاب .ثمّ جاءت حقبة ما يُعرف بالحرب الباردة (195- 1991) . كتاب إدواردو غاليانو المثير لقي هوىً وقبولاً كبيرين لدى الأيديولوجيات الثورية واليسارية ، وبشكل خاص فى بلدان مثل الأرجنتين، والتشيلي ، والبرازيل، والأوروغواي وسواها التي كانت ترزح تحت الهيمنة الدكتاتورية المتسلّطة، ونتيجة ذلك فقد زجّ بإدواردو غاليانو فى غياهب السّجون فى بلاده الأوروغواي بعد الإنقلاب الذي عرفه هذا البلد عام 1973، ثمّ أُرْغِم بعد ذلك على الهجرة القسْرية، والإغتراب القهري ، واللجوء إلى الأرجنتين فى المقام الأوّل، ثم بعد ذلك إلى إسبانيا.
وصرّح إدواردو غالينو خلال مشاركته فى الدّورة الأخيرة لمعرض الكتاب الدّولي فى البرازيل حيث قال: " أنه لن يعود لقراءة كتابه من جديد ، فقد يُغمَى عليه لو فعل ذلك، وأضاف أنّ هذه النصوص التي تنتمي لليسار التقليدي قد أصبحت مملّة الآن بالنسبة له، فجسمه الواهن لم يعد يتحمّل ذلك اليوم" . وقال غاليانو فى نفس السّياق بخصوص موضوع كتابه الذي منذ أن صدرعام 1971 كان ولا يزال يُعتبر- حسب بعض النقّاد - كتاب اليسار بإمتياز فى أمريكا اللّاتينية إلى اليوم، والذي جعله هذا اليسار لسنوات طويلة دليلاً،ومرجعاً، ومرشداً له فى العديد من التاظاهرات السياسية، والتجمّعات اليسارية فى مختلف بلدان أمريكا اللاتينية.
أبناءُ الأيّام
ويقول إدواردو غاليانوعن كتابٍ آخر صدرله فى المدّة الأخيرة بعنوان " أبناء الأيام ": " أنّ هذا الكتاب يأتي إنطلاقاً من شهادات ناطقة حيّة من أفواه أبناء شعب المايا في غواتيمالا منذ بضع سنوات خلت، هذه الشّهادات هي التي يتضمّنها هذا الكتاب بين دفّتيه اليوم. ويضيف أنّ المايا يعتقدون إعتقاداً راسخاً أنّنا فلذات أوأبناء الأيّام، أبناء الزّمن، وفي كلّ يوم تتولّد القصص، والحكايات المتواترة، ذلك أنّ الكائن البشري فى عرفهم مصنوع وموضوع من الذرّات، ولكنّه صيغ كذلك من القصص ،والسّرد،والتراث، والحكايات".
يجد غاليانو تشابهاً وتقارباً بين كتابه الجديد وكتاب آخر له صدر منذ بضعة أعوام وهو بعنوان "مرايا"حيث يقوم الكاتب بمراقبة العالم ورصده، أنّه أمرٌ مماثل أن ترمق وتراقب العالمَ من ثقب قفل، أو أن تحكي قصصاً عظيمة أنطلاقاً من حكايات بسيطة وصغيرة، أو كما يمكن أن يقول أكثر من شاعر بواسطة الحكايات اليوميّة المتواترة، أو بواسطة هؤلاء الذين يُطلق عليهم الأبطال المجهولون.
ولقد إعتبر بعض النقاد هذا الكتاب إمتداداً لكتب غاليانو السّابقة، وتجسيماً لمواقفه من العديد من القضايا التاريخية، والاجتماعية، والإنسانية، والسياسية، التي ينفرد بمعالجتها بأسلوبه الخاص، وبقدْرٍ كبيرٍ من الجرأة، والمواجهة، والتحدّي،والثبات. يتضمّن هذا الكتاب قدْراً باهظاً من هذه الشُّحنة الناقمة التي يصبّ فيها وبها الكاتب جامَّ غضبه على هؤلاء الذين ينظرون إلى العالم من ثقب الباب، حيث لا يتراءى لهم منه سوى ما يروقهم، أو ما يحلو لهم مشاهدته، ورؤيته فيه. في هذا الكتاب تندّ نسائم الحريّة، والإنعتاق، وتفوح رائحة البحث المُضني عن الحريّات، والعدالة، وحقوق الطبيعة، والبشر. ففيه نلتقي ليس فقط مع أمّنا الأولى "حوّاء" أو مع أبينا الأوّل" آدم"، بل نلتقي وجهاً لوجه مع " باراك أوباما"، أو مع 'الحركات الشبابية الغاضبة في إسبانيا التي يقدّم غاليانو لها دعمَه ومساندتَه مثل بلديّه البيروفي مايو فارغاس يوسا بحماس منقطع النظير، في هذا السّرد الحكواتي المتواتر، بقدر ما يدنو فيه الكاتب من القارئ، فإنّه في الوقت ذاته ينأى ويفرّ ممّا يسمّيه أو يطلق عليه بالتضخّم الكلامي. !
بين ماضٍ فاتَ وحاضرٍقائم
كتاب غاليانو "أبناء الأيّام" رحلة يومية مثيرة من الماضي إلى الحاضرعلى إمتداد 365 يوماً من أيّام العام ،كل حكاية أو قصّة تتضمّن رسائلَ نافذة ،ونقداً لاذعاً للمجتمع الحالي الذي نعيشه، هذه الرّسائل تسافر عبر الزّمن حتى تصل إلى الحاضر.
إنّه إدانة صارخة للعصرالحاضرالذي نعيشه على مضض،إنها نظرة أو تشريح للواقع المرّ ،إنه يوجّه إنتقاداً شديداً للنظام العالمي الحالي الذي يحافظ ويذوذ عن المصالح المالية والإقتصادية، ولكنّه لا يتورّع من إلحاق الأذى بالطبيعة وإتلافها ،"يقول :" إنهم يتحدّثون عن كوارث طبيعية كما لو أنّ الطبيعة قد أصبحت جلاّداً " وليس ضحيتهم إنهم لا يحافظون عليها بل يسلبونها حقوقها.وعن النظام المالي يقول: " المصرفيّون في حرب ضد التضخّم المالي ، أمّا أنا فقد أعلنت الحرب ضد التضخّم الكلامي" وفي مجال حديثه عن الإرهاب يقول " إنّ الذين ينبغي إدانتهم، هم هؤلاء الذين يخطفون بلداناً ،الذين ينتهكون حرمة الأرض ،لصوص الفضاء، الذين يتاجرون بالخوف". وإنتقد الدكتاتوريات التى عاشتها، وعررفتها بلاده.
في هذا الكتاب نلتقي مع العديد من تعابيره المعهودة . إنّه يذكّرنا:"لو كانت الطبيعة مصرفاً أو بنكاً لكانوا قد عملوا على إنقاذها ".! كما يحفل هذا الكتاب مثل كتبه السّابقة بالسّخرية المرّة، والتهكّم اللاّذع من الولايات المتحدة الأمريكية .حيث كانوا يعتبرون " نيلسون مانديلا " إرهابيّاً ،وفى فاتح يوليو 2008 تمّ شطب إسمه من قائمة الإرهابيين التي ظل فيها 60 عاماً..!
كتاب "أبناء الأيّام" يعيد طرح إشكالية التفكير في العالم والإختلال أو المُعضلات التي يعيشها بشكل معاكس أو بطريقة تقهقرية. وهو يقدّم قصصاً قصيرة، وحكاياتٍ كبرى لكل يوم من أيّام الحَوْل .إنه في هذا السّرد الحكواتي المتواتر، بقدر ما يدنو فيه من القارئ، فإنّه فى الوقت ذاته ينأى ويفرّ ممّا يسمّيه أو يطلق عليه: بالتضخّم الكلامي.
اللّاهثون وراء الحقيقة
من الفقرات التي تواجهنا فى هذا الكتاب :وتمضي الأيام ، الأيام التي صنعتنا،هكذا ولدنا ،كأبناءالأيّام ، االلّاهثون دائما وراء الحقيقة،الباحثون عن الحياة، 22 مارس : يوم الماء، نحن من الماء، من الماء كانت الحياة، الأنهار دم يروى الأرض،هذه الأنهار مصنوعة من ماءٍ زلال ، إنّها خلايا عديمة التفكير، إنّها الدّموع التي تجعلنا نبكي،وهي الذاكرة التي نتذكّر بها ، والتي تخبرنا أنّ صحارى اليوم ،كانت بالأمس غاباتٍ وأدغالاً،والعالم الجاف تحوّل إلى عالم مبلّل،في ذلك الزّمن الغابر الذي لم يكن فيه لا الماء ولا الأرض ملكاً لأحد، بل كانا ملكاً للجميع،من ذا الذي إستحوذ على الماء ؟ القرد ذو الهراوة ، القرد الأعزل مات بضربة واحدة،إذا لم تخنّي الذاكرة فإن فيلم 2001 أوديسة الفضاء هكذا يبدأ ، في 2009 إكتشفت مركبة فضائية الماء فى القمر، هذا الخبر عجّل بمخطّطات الإكتشاف، مسكين أنت أيها القمر..!
وهكذا يستمرّ الكاتب في تسجيل إنطباعاته وملاحظاته اللاّذعة على إمتداد توالي الأيّام وإنصرامها أمام أعيننا، وذاكراتنا كالسّيل العارم ،والأتيّ المنهمر، وهكذا يضع غاليانو نصبَ أعيننا لوحاتٍ وأحداثاً ، وأمثالاً ووقائعَ،وتوابعَ وزوابعَ ، وكوارثَ، وأهوالاً عاشتها البشرية في تتابع مسترسل .
وفي مواقع أخرى من الكتاب نقرأ:المفقودون ،إنّهم أموات بلا مقابر، أو مقابر بلا أسماء،نساء ورجال إبتلعهم الرّعب، الأطفال الذين إستعملوا أو هم رهينة حروب، وكذلك الغابات الأم ، ونجوم ليالي المدن، والحواضر،وعطر الزّهور ، وطعم الفواكه، والرّسائل المكتوبة بخطّ اليد،والمقاهي العتيقة حيث ينسابُ الزّمانُ في سكون،ولعب الكرة في الأزقّة والشّوارع،وحقّ المشي، وحق إستنشاق الهواء الطلق، والدّور بدون سيّاج، والأبواب بدون أقفال،والشعور بالإنتماء،والفطرة الأولى..!
يَا أَبَتِي سَاعِدْنِي عَلىَ النَّظَر..!
وكما سبق القول لإدواردوغاليانو كتاب آخركذلك تحت عنوان "مذكّرات الناّر" وهي ثلاثية قيّمة حول أمريكا الجنوبية يتساءل الكاتب فيها عن بعض المصادفات الغريبة، والمحيّرة التي تمرّ بالإنسان، وعن إعمال النظر في الأمور والتمعّن فيها بعمق ،ويورد غاليانو قصّةً طريفة فى هذا السياق يقول إنها أثّرت فيه تأثيراً بليغاً، وهي عندما قرأ إستجواباً للكاتب الأمريكي الأسود اللون "جيمس بالدوين" الذي يحكي أنه حتى سنّ التاسعة عشرة من عمره لم يكن يعرف كيف يَرَى الأمورَ على حقيقتها على الرّغم أنه كان سليمَ النظر، وأنّ صديقاً رسّاماً له هو الذي علّمه كيف يرى، ففى عام 1944 عندما كانا هما الإثنان يسيران في بعض شوارع نيويورك، ووصلا إلى ركنٍ مُهمَلٍ من أركان الشارع توقّفا عن السّير، وبدأ الصّديق الرسّام يشير بيده إلى غَمْرٍ من الماء بجوار الرّصيف وهو يقول له: أنظر، ويحكي بالدوين أنّه نظر في البداية فلم ير شيئاً، رأى غَمْراً من الماء ليس إلاّ، وعاد الرسّام ليلحّ عليه، فقال له من جديد أنظر، أنظر وعاود النظر، وهذه المرّة رأى شيئاً لم يتراء له من قبل، رأى بقعة من الزّيت داخل الغمر، وعندما ركّز نظره أكثر وبمزيد من التمعّن، مع إلحاح الصّديق في أن ينظر وينظر، فبالإضافة إلى قوس قزح المُنعكس في الغَمر، رأى كذلك أشياء كثيرة أخرى، رأى أناساً يمشون، المارّة، الحمقى، العُمُّال، السّود، الذين يقطعون الطريق كلّ يوم، ولم يتوقّفوا قطّ للنظر مثلما فعل هو، وبعد أن زاد تحديقه رأى المدينة بأكملها، ورأى الكَوْنَ داخل ذلك الغَمْر الحقير الذي يوجد في ركن قصيٍّ من أركان جزيرة منهاتن، وكان ذلك اليوم هو اليوم الذي تعلّم فيه أن يرى.. ! ويشيرغاليانو معلقاً على هذه الحكاية: " إنّ الفنّ الحقيقي هو الذي يساعدنا على إعمال النظر، وعلى فتح نوافذ جديدة مُشرعة أمامنا"
تقول الحكاية الأخرى التي يوردها غاليانو في كتابه في نفس السّياق، والتي لا تقلّ طرافةً عن سابقتها : أنّ صديقاً له لم يكن قد رأى البحر قطّ في حياته لأنه من داخل الأروغواي، فأخذه أبوه ذات يوم لمشاهدة البحر وليعرف البحر لأوّل مرّة، كان صديقه لم يتجاوز السّابعة من عمره، كان أوّل ما إنتهى إليه من البحر نسماته،ورذاذه ثمّ هديره، وعندما رأى البّحرلاوّل مرّة في ملكوته ،ووسعه، وروعته لم يستطع أن يتمالك نفسه أمام جلال المفاجأة، فصاح في والده : يا أبتي ساعدني على النّظر..!. فما أجملَ أن نساعد على فهم الحياة، أيّ أن نساعد على فتح نوافذ ، وفوهات جديدة في منطقة مّا من العالم ،وهي أمريكا اللاّتينية التي طالما نُظر إليها بغير قليلٍ من الإزدراء". !
أوّلُ " مكانٍ للحَرْق "..!
القصص التي يسوقها غاليانو في كتابه "مذكّرات النار"عن تاريخ أمريكا اللاتينية هي قصص حقيقية، وهي تتضمّن قيماً رمزية عميقة تكشف النّقاب عن أشياء لا تخلو من أهمية، ويضرب الكاتب كمثال بواحدة من هذه القصص المروّعة من تاريخ هذه الجهة النائية من العالم عندما أقيم عام 1496 أوّل " مكان للحرْق " في أمريكا اللاتينية في "هايتي" إنه منذ إكتشاف أمريكا لأوّل مرّة يعاقَب إنسان في هذه القارة بالقتل حرقاً، إن القاتل (العشماوي) هو " بارطولومي كولومبوس" أخو كريستوفر كولومبوس البحّار الشهيرالمغامر، الضحايا الذين إشتعلت أجسامهم حرْقاً وهم أحياء هم ستّة من الهنود، ويشير الكاتب أنّ هذا الإعدام، أو هذه التضحية تجسّم لنا كلّ شيء، ليس فقط تصادم حضارتين ، بل وأكثر من ذلك هو أنّ أكبر خطأ لما يُطلق عليه إكتشاف أمريكا هو عدم إكتشاف شيء، لأنّ "كولومبوس" مات مقتنعاً أنه كان في اليابان كما يعرف الجميع. أيّ في ظهر آسيا. إنّ الأوروبيّين الذين قدِموا إلى أمريكا كانت لهم عيون لمشاهدة الحقيقة التي وجدوها، إلاّ أنهم مثل حالة" جيمس بالدوين' كانوا عاجزين عن إكتشافها، إنّ نظرتهم لها كانت شبيهة بنظرة بالدوين الأولى للغَمْر. إنّ دأب هؤلاء كان هو السّلب والنّهب المنظمين، وإلحاق الأذى والضرر ببلدان أخرى، إنّ الغازي، يقول غاليانو: وصل لإنقاذ الذي وقع عليه الغزو من ظلام الوثنية، إلاّ أنه في آخر المطاف هو الذي وقع بين مخالب الوثنية الحقيقية، فما هو الذنب الفظيع الذي إرتكبه هؤلاء الهنود الستّة ليلقِي بهم بارطولومي كولومبوس في النّار أحياء.؟. !
الهِنْديّ ذُو الجِلْد الأبيَض
يشير غاليانو: " أنه ليس عيباً أن يُحْتفَى باكتشاف أمريكا ، ولكن ليس من أجل تكريم الملوك الكاثوليك الإسبان الذين أنشأوا محاكمَ التفتيش، والتعذيب، والتنكيل المعروفين بعدم التسامح ،والجهل، بل فليكن هذا الاحتفال تكريماً لبعض التقاليد الأمريكية القديمة جدّاً، وقيم ،وعوائد الأمم التي عشقت الحرية، وتعلقت بالشّرف، والكرامة، وهامت بالطبيعة، إنّ سكّان هذه المناطق من العالم كانوا يعيشون ويعملون جماعات فيما بينهم قبل أن يحدث " الإكتشاف" الذي جاء ولقّنهم الأنانية ،والكراهية، والأثرة، والتشرذم، وحقّ المِلْكية، والجَشَع، وروائع أخرى..! أو أن يكون إحتفالاً بهؤلاء الذين جاءوا فاتحين مثل حالة البحّار "غونسالو غيرّيرو" الذي ظلّ تائهاً في أرض "المايا"، ثم سرعان ما إنخرط في مجتمع الهنود، وتزوّج منهم وكان له أولاد، وعندما علم (المكتشِف) " إيرنان كورتيس" بقصّة ذلك البحّار طلب منه الحضور فرفض، وآثر أن يظلّ مع أهله الجدد، وعائلته وأولاده، ولما كان عام 1536 وبعد معركة طويلة بين هنود المايا والغزاة، وبين العشرات من الجثث ظهر هنديٌّ ملتحٍ، هنديّ ذو جلد أبيض، وقد شقّت جبينه رصاصة غاشمة، لقد كان "غونسالو غيرّيرو" الذي آثر أن يسقط مع مَنْ إرتاح إليهم، وأحسنوا وفادتَه، هذا الرجل هو أوّل غازٍ تمّ غزوُه، وكان هناك آخرون ظلوا في غياهب المجهول.
سَابَاطاَ سَاندينُو وغِيفارَا جَمَعَهُم مَصِيرٌ وَاحِد
ويحكي لنا غاليانو من جهة أخرى فى كتابه المثير برمزية عميقة عن مبدأ تقدير وتقديس الصّداقة فى هذا الشقّ من العالم ،فيخبرنا كيف أنّ البطل الأسطوري" بانشو فييّا" كان إسمه الحقيقي هو " دوراتيو أرانغو" وبانشو كان إسم أعزّ اصدقائه، وعندما قتل الحَرَس المدني صديقَه الذي كان ينتمي إلى شلّة " أرانغو" إتّخذ لنفسه إسمَ صديقه ،أيّ الإسم الذي هَوَى، وأصبح إسمه " بانشو فييّا" لكي لا يموت إسم صديقه أبدا، إنّه نوع من مصارعة أو مقارعة الموت ضدّ النّسيان الذي يُعتبر الموت الوحيد الذي يقتل حقيقة. وهكذا ظلّ إسم صديقه حيّاً في شخصه، تردّده أمريكا اللاتينية حتى اليوم . ويسوق الكاتب مثالاً آخر فى نفس السياق فيقول: كيف يمكن تفسير أنّ ثلاثة من المتمرّدين الأمريكييّن الجنوبييّن الذين أصبحوا يشكّلون نوعاً من الأسطورة في حياة النّاس، وفى أدب أمريكا اللاّتينية وهم : "سَابَاطاَ" و"سَاندينو" و"غِيفارا" جَمَعَهم مصيرٌ واحد، فالثلاثة ماتوا في سنّ 39 سنة، الثلاثة ماتوا على إثر خيانة، والثلاثة ماتوا في كمين نُصِب لهم...!
-عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوطا- ( كولومبيا).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.