منذ الساعات الأولى من صباحِ كلّ سبت وأحد، يفِدُ المئاتُ من بائعي المتلاشيات على سوق "الكلب" الواقعِ جوارَ حيّ كريمة بمدينة سلا، يعرضونَ "سِلعا" أغلبُها مُستعمل، وسطَ مساحةٍ مُتربةٍ تعجُّ بالأزبال والنفايات. غيْرَ أنَّ الحالة المزرية لفضاء السوق لا تحُولُ دونَ وفادة آلاف المتسوقين على مدى ساعات يومي السبت والأحد من كلّ أسبوعٍ، ينتمي أغلبهم إلى الطبقة الفقيرة والمتوسّطة، بحثا عن "هْميزات" قادمةٍ من وراءِ البحر المتوسّط بأرخص الأثمان. في سوق "الكلب"، الذي يُعتبر واحدا من أشهر أسواق المتلاشيات في المغرب، يَجدُ المرْءُ كل ما يمكن أنْ يخطُرَ على باله، من أواني الطبخ، والكُتب، والتجهيزات المنزلية، والألبسة، وقطع غيار السيارات، وحتّى الأدوية، ومضارب "الغولف" والتنس، وقوارير الخمر الفارغة، والمطبوعات الإدارية القديمة... في هذا الفضاء يتعالى صياحُ بائعي المتلاشيات منذ ساعات الصباح الأولى، ويُوجدُ من قاصدي السوق من هو دائب على زيارته كلّ أسبوع، فَبِدراهم معدودات قد يغنمُ المرْء من هذا السوق قطعا ما تزالُ صالحة للاستعمال، من "ماركات" معروفة تُباعُ في المتاجر الكبرى بأسعار مرتفعة. يقول أحمد المرزوقي في أحد مقالاته المنشورة بهسبريس، والذي عنْونه ب"سوق الكلب": "لست أدري لماذا سُمّي السوق بهذا الاسم، ولا أعرف ذلك الكلب المحظوظ الذي توفي وأعطى اسمَه لهذا السوق الغريب العجيب، الذي تجتمع فيه جميع متناقضات الدنيا". وإذا كان المرزوقي لا يعرفُ لماذا سُمّيَ ذلك السوق الشهير باسم الكلب، فإنَّ أحدَ البائعينَ ممن يعرفون السوق جيّدا يقول إنَّ هذا الفضاء التجاريَّ كانَ يُسمّى "سوق الخير"، وفي بداية الثمانينيات كانتْ قُطعانٌ من الكلاب تفدُ على المكان، فسُمّيَ "سوق الكلب". ويُضيفُ البائع، وهُوَ يتحدّث بهمْسٍ عن قصّة اسم السوق لهسبريس، كمَا لوْ أنّه يُداري حرجا، أنّ هذا الفضاء التجاريّ الأسبوعي كانَ حقّا فضاءَ خير، قائلا: "كنّا كانجيبو السلعة لْهنا، وكانفكّوها كلّها"، قبْل أن يضيف بكلمات متدفّقة من ثغْرٍ هجرته كثير من الأسنان: "اللي سمّاوْه سوق الكلب هُومَا اللي كْلاب". وينجلي الغضبُ عنْ مُحيّا الرجل وهُوَ يتذكّر زيارةً قامَ بها إلى نواحي مدينة أكادير قبل سنوات خَلَتْ، إذ سأله أحدهم من أين أنت، وحين أجابَ الرجل بأنه من مدينة سلا، ابتسم السائلُ وقال: "أنت إذن من سوق الكلب". وتكاد تنطبق عبارة "اسم على مسمّى" على هذا السوق واسمه، فوسط الفضاء الذي ينعقد فيه يصادفُ المرءُ كثيرا من الكلاب تسير جنبا إلى جنب مع المتسوّقين، أو ترقد وسط المتلاشيات المعروضة للبيع، غير مبالية بما يدور حولها. وليْسَ البائعُ السلاوي الهرمُ الذي تحدث إلى هسبريس وحْده من يُحرجه نعْتُ "سوق الكلب" بهذا الاسم، خاصّة مع ما للكلب من تمثّلات سلبية في المجتمع المغربي؛ سائق سيّارة أجرة أيضا، حينَ طلبْنا منه نقلنا إلى عين المكان، حرصَ على إعلامنا بأنّ السوق أصبح يحمل اسم "سوق ساعة"، أمّا الزبناء الذين يقصدونه فلا يهمّهم سوى العودة ب"هميزة" بأرخص الأسعار. هذا الهاجس أشار إليه أحمد المرزوقي في مقاله، بقوله: "..ما إن يحلَّ يوم السبت أو الأحد حتى تراني أقصده (السوق)، وكأن فيه مغناطيسا يجرني إليه... والسبب في ذلك راجع ربما إلى أنني أمنّي نفسي كل مرة بتكرار صفقة كنت أنا فيها الرابح الأكبر، بعدما باع لي شيخ كتبا جديدة بثمن بخس يستحيل على المرء تصديقه". ولئن كانَ التجوّل في السوق والتنقيب بين المتلاشيات لا يُشعر الفقراءَ الذين يقصدونه بأي حرج، فإنَّ قاصديه من الطبقة المتوسطة غالبا ما يتصرّفون بنوع من الحذر، خاصّة أنّ أغلبَ السلع التي تُباعُ في المكان تبْدو غيرَ صالحة لشيء؛ حذرٌ يُخفيه بعضهم خلْفَ نظارته الشمسية ذات الزجاج الداكن. المرزوقي فطنَ إلى هذه النقطة، وأشار إلى أنّه غالبا ما يلتقي ببعض المعارف من الموظفين السامين والأطر العليا وهم يجوبون المكان طولا وعرضا، متنكرين في قبعات كبيرة ونظارات شمسية داكنة، وحين يتعرف أحدهم على الآخر يتسارع إلى طرف الألسن ذلك السؤال الذي يحملُ في طيّاته بعض الاستنكار: "ماذا تفعلُ هنا؟". وإذا كانَ "سوق الكلب" معروفا فإنَّ الفضاء الذي ينعقدُ فيه كلَّ سبت وأحد يبعث على الاشمئزاز، ففي وسطه أخاديدُ تستوطنها مياهٌ سوداءُ آسنة تنبع من دور الصفيح المجاورة للمكان، وتنبعث منها روائح كريهة؛ وعلى جنبات السوق أكوام أقربُ ما تكون إلى تِلال من الأزبال والنفايات. وإنْ كانتْ أمَارات الإهمال بادية على السوق، فإنّ عيون "المخزن" لا تتركُ صغيرةً ولا كبيرة إلا وتُحصيها. يقول أحدُ الباعة إنَّ عوْن سلطة طلبَ منْه سحْب لوحةً كبيرةً للمعارض الاتحادي السابق المهدي بنبركة كانَ يعْرضها. "قْلتْ لو راني ماكنديرش السياسة، كانقلّب غي على طرف الخبز، ومشا فحالو"، يقول البائع وشفتاهُ تنشقّان عن ابتسامة كما لو أنه حقق نصرا على عوْن السلطة.