لست أدري لماذا سمي بهذا الاسم، ولا من هو ذاك الكلب المحظوظ الذي توفي وأعطى اسمه لهذا السوق الغريب العجيب، الذي تجتمع فيه جميع متناقضات الدنيا. يقال إن اسمه الحقيقي هو سوق الصالحين، غير أنك إذا دخلته فاحذر أن تغتر بظاهر الصلاح في اسمه، وتعتقد أنك في أحد أسواق المدينةالمنورة. عليك أن تضع حافظة نقودك وهاتفك النقال وكل ما هو نفيس لديك في سيارتك أو في منزلك، ولا تقصده إلا بما عليك من ثياب وما تتمسك به من وريقات مالية قليلة تضعها في يدك وتضغط عليها جيدا، من جهة، خوفا من "صالح" قد يعالج جيبك بشفرة حلاقة، ومن جهة أخرى تحسبا لشيء قد تصادفه فيروق لك أن تشتريه. في يومي السبت والأحد على الخصوص، تباع هنالك كل الأشياء التي تعرفها والتي لا تعرفها. ابتداء من الثياب والأحذية، ومرورا بالأدوات المنزلية والفلاحية، وانتهاء بأشياء لا تخطر على بال أحد، كالأدوية النباتية التي يزعم بائعوها أنها تداوي جميع الأمراض المستعصية، والأدوية التي انقضت صلاحيتها، والصور الشمسية للأقفاص الصدرية، والهواتف النقالة المغشوشة، والحواسيب المعطلة، وجبال من المسامير والبراغي والكلاليب وهلم جرا... غير أن الذي لا أفهمه، هو أن يبيع بعض البؤساء متلاشيات هي أقرب إلى القمامة التي لا ينبغي أن يكون مكانها إلا في مطرح من مطارح الأزبال. عالم غريب عجيب يكثر فيه الهرج والمرج من شدة صراخ الباعة على تجارتهم، ومن كثرة تبادل بعض المتنازعين آخر صيحات السباب المغربي الأصيل، كما تتزاحم فيه المناكب والأكتاف، وتتصاعد منه أدخنة المأكولات الرخيصة التي لا تطيقها سوى الأمعاء الصلبة المتعودة على قهر الجراثيم والمكروبات... الكل يبيع على الله، والكل يشتري على الله، بحيث أن المشتري إذا ما سأل البائع عن مدى صلاحية شيء أجابه هذا على الفور: كل شيء على الله... والبعض ممن له ثقة زائدة في نفسه يجيب: "بيع ومقال". غير أن المؤكد هو أن هنالك قسطا كبيرا من الباعة من يسرب سلعته بالأيمان المغلظة وبإعطاء العهود والمواثيق الكاذبة. أنا شخصيا كلما دخلت ذاك السوق واشتريت منه شيئا غير الكتب إلا ومنيت بغبن شديد يجعلني أعقد العزم على عدم الرجوع إليه أبدا. لكن ما أن يحل يوم السبت والأحد حتى تراني أقصده وكأن فيه مغناطيسا يجرني إليه. والسبب في ذلك راجع ربما إلى أنني أمني نفسي كل مرة بتكرار صفقة كنت أنا فيها الرابح الأكبر، بعدما باع لي شيخ كتبا جديدة بثمن بخس يستحيل على المرء تصديقه. ديوان المتنبي مفسرا، دواوين لنزار قباني وديوان أزهار الشر لبودلير، ومجموعة من كتب الجيب فيها روايات من روائع الأدب العالمي وغير ذلك... هنا أدركت سر جاذبية سوق الكلب، وعرفت أن تنوع معروضاته هي السر في تنوع زبنائه، إذ الكل يجد فيه ضالته المنشودة. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت أقصده وهاجسي الأكبر هو البحث عن الكتب مع احتمال مصادفة شيء عارض نفيس أقتنيه. وفطنت أخيرا إلى أن البحث عن هذا الشيء المبهم العارض النفيس هو الهاجس الحقيقي الذي يسكن جميع الزبناء والنشالين على السواء. وبمناسبة تعرضنا للحديث عن النشالين، فقد حدث ذات مرة أن ضبط نشال ضخم الجثة متلبسا، فأخذ الناس بتلابيبه وكالوا له من الضرب ما لا يأكله إلا الطبل في أيام الأفراح، زاعمين أنهم كانوا ضحاياه جميعا، غير أن أحد الباعة علق على الحدث قائلا: "للمرة الرابعة على التوالي يُضبط هذا "المسخوط"، وللمرة الرابعة يؤدي الفاتورة على جميع رفاقه، ولو كان على شيء قليل من الذكاء لتبين له أنه غير موهوب في هذه الحرفة، ولكن عناده أودى به إلى التهلكة..." في سوق الكلب، غالبا ما ألتقي ببعض المعارف من الموظفين السامين والأطر العليا وهم يجوبون المكان طولا وعرضا، متنكرين في قبعات كبيرة ونظارات شمسية داكنة، وحين يتعرف أحدنا على الآخر، نتبادل التحية والابتسام، وعادة ما أُبادر بالسؤال: ماذا تفعل أنت هنا؟ فأجيب على الفور: سوق الكلب هو معرض الكتاب الحقيقي بالنسبة إلي، وهو يدخل في الحوزة الترابية للحي الذي أقطن فيه، قل أنت، من أتى بك من حي الرياض إلى هنا؟