شهدت الشوارع المغربية على مر عقود مسيرات مليونية متضامنة مع القضية الفلسطينية، وعرفت المملكة تضامنا نوعيا مع فلسطين فنيا، وأدبيا، وثقافيا، وعن طريق المقاطعة، وجمع التبرعات... وعزّز هذا الدعمَ الشعبيَّ، المعنويَّ والمادي المؤمنَ بعدالة القضية، وضعيةُ المغرب الذي هجَرَهُ جلُّ مواطنيه اليهود آخذين معهم جزءا من ذاكرته، وتفرّده، وإمكانات مستقبله. وعرف النضال المغربيُّ المساندُ للقضية الفلسطينية نضجا نوعيا؛ بفعل انخراط مجموعة من مواطنيه اليهود المغاربة في معارضة سياسات الاستيطان والتهجير والتقتيل، وكان من أبرز وجوه هذا النضال الإنساني الراحلون إدموند عمران المالح، الروائي الناقد الفاعل السياسي، وشمعون ليفي، الأكاديمي الفاعل السياسي، وأبراهام السرفاتي، المهندس المناضل السياسي. جريدة هسبريس الإلكترونية حاورت سيون أسيدون، الناشط الحقوقي المناهض للتطبيع، وهو من بين المواطنين المغاربة اليهود الذين يرونَ في القضية الفلسطينية قضيَّتَهُم التي تعنيهم، وترتبط بوطنهم، وتمسّ إنسانيتهم. هل قل الاهتمام الشعبي المغربي بالقضية الفلسطينية؟ لا أظن أن الاهتمام الشعبي قد قلّ، وأكبر دليل على ذلك هو أنه عندما تقع صدمة كبيرة أو هجمة شرسة ضد الشعب الفلسطيني فالشارع المغربي يعبر عن تضامنه. والمشكل من جهة هو وضع الفلسطينيين أنفسهم بسبب تفرقهم بين القوى السياسية المتناقضة، ومن جهة أخرى هو عدم وضوح المسار بعد ما وقع في أوسلو وما تبع ذلك. وأكيد أن هذا لا يساعد الجمهور على مناصرة القضية الفلسطينية، ويدفع عددا من الناس إلى طرح سؤال "ما الذي تعنيه مناصرة القضية الفلسطينية حاليا؟"، أي بعد أوسلو ونتائجها الكارثية، وفي ظل غياب إعادة بناء قوة فلسطينية موحدة. كيف ترى تعبير بعض التوجهات بالمغرب عن أن القضايا الداخلية مقدّمة على القضية الفلسطينية، علما أن هذا هو عكس ما كان يتمّ التعبير عنه في وقت سابق؟ يعرَفُ هذا بمقولة "تازة قبل غزة"؛ وأرى أن هذا طرح مغلوط كلية؛ لأن غزة هي تازة، وتازة هي غزة، وكلتاهما تستحقان الاهتمام والوقوف والتعبئة. ولا أظن أن هناك تنافسا بين القضايا العادلة؛ لأننا نستعد للوقوف إلى جانب جميع القضايا العادلة، سواء كانت داخل البلد أو خارجه. وقضية فلسطين، طبعا، من القضايا البارزة؛ لأن نتائج ما يجري في فلسطين تنعكس على مسارنا نحن كمغاربة؛ فالأوضاع المغربية حاليا مرتبطة بشكل وثيق مع ما يجري بفلسطين. هل ترون أن تجريم التطبيع حل واقعي، خصوصا في الحالة المغربية التي تعرف زيارة الجالية اليهودية لبلدها بشكل منتظم؟ علينا أن نفصل بين التطبيع كجريمة ومشروع القانون الذي له نفس الاسم؛ والتطبيع بالضرورة جريمة يجب أن نواجهها لأنه يوما بعد يوم تحاول إسرائيل أن تبني نوعا من "الشرعية" عندما تربط علاقات مع دول الخليج، وتريد أن تبني على هذا شرعية احتلال فلسطين؛ وهو ما لا يمكن أن نقبله، وعلينا أن نقف ضد ما يجري من تطبيع بالمغرب. وبالتالي، فإن مناصري القضية الفلسطينية بالضرورة يواجِهون بالاستنكار والمعارضة أي ظاهرة للتطبيع. التطبيع جريمة، لكن القول إن التطبيع جريمة شيء، وطلب محاكمة مرتكبي أعمال تطبيعية بقوانين شيء آخر؛ لأن المشكل هو في "من يحاكم من ؟"... على الرغم من أنني كنت أظن قبل سنوات أن قانونا ضد التطبيع يمكنه أن يقدم خدمة للقضية الفلسطينية، ولو كنّا بالفعل في دولة لا تمارس رسميا كل أنواع التطبيع، مثل الكويت مثلا، وهذا ليس هو الحال بالنسبة إلى المغرب. ومن ثم، يتساءل المرء لماذا دخلت أطراف سياسية في المطالبة بسن قانون يجرم التطبيع؟ حاليا من اقترحوا قانونا حول تجريم التطبيع هم أغلبية في البرلمان، ولو أرادوا تمرير هذا القانون لكانوا قد استعملوا قوتهم القانونية المقرّرة؛ لأنه كيف يعقل أن يمارس حزب بل أحزاب مسؤوليات تنفيذية في دولة تمارس التطبيع على مستويات مختلفة اقتصادية، وثقافية، وعسكرية، ومخابراتية، وسياحية، وبحرية، وتقول بتجريم التطبيع وتقترح قانونا في الموضوع... وبالنسبة إلى موضوع وجود مغاربة يهود في فلسطين هاجروا أو هجِّروا، وأصبحوا يمارسون أعمالا وأفعالا منافية للقانون الدولي؛ مثل الاستعمار، والاحتلال، والاستيطان، فكلهم يتنافَون مع القانون؛ فنحن أمام مجرمي حرب، أو مجرمين ضد الإنسانية، وصفتهم كمغاربة لا يمكن أن تعفيهم من الإدانة كمجرمين، لأن الجنسية المغربية لا تحمي المجرم من عواقب جريمته. ألا ترى أن المقاطعة الثقافية للكيان تطرح تساؤلات حول علاقة العمل على تطوير الميدان الثقافي بالمقاطعة؟ لنكن واضحين، لا توجد جامعة أو معهد من مؤسسات الكيان الصهيوني لا تشارك بشكل من الأشكال في العمل مع الجيش، بدون استثناء؛ بما في ذلك تخصّصات مثل: علم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم "الصلبة" المتعلّقة بالتقنيات إلى آخره... ولا توجد بدون استثناء أي جامعة في الكيان لا تخدم مصالح الجيش بشكل مباشر أو غير مباشر. وزد على هذا أن السياسة التعليمية للكيان الصهيوني كلّها تنفي حقوق الفلسطينيين في التعليم، إضافة إلى ما يمارس من اضطهاد على الجامعات الفلسطينية في الأراضي المحتلة، أو تدمير المعاهد والجامعات عبر القَنْبَلة؛ إذن المقاطعة الأكاديمية شيء مهم جدا، وتطوّر خلال هذه السنوات الأخيرة عبر العالم، ويشعر به الكيان الصهيوني بشكل كبير. إن مواجهة المقاطعة بجميع أشكالها، بما في ذلك المقاطعة الأكاديمية والثقافية والاقتصادية، قد أصبحت من اختصاص وزارة الشؤون الإستراتيجية؛ لأن الكيان الصهيوني أصبح يعتبر أن حركة (BDS) بالخصوص تشكّل خطرا من نفس حجم السلاح النووي الإيراني الذي تتكلّف به نفس الوزارة. وبالفعل، موضوع المقاطعة موضوع جد مهم في الضغط على الكيان الصهيوني، والمقاطعة الثقافية ضرورية لتكذيب الصورة المفتعلة حول أن المحتلين هم أُنَاس لديهم ثقافة واعتبارات إنسانية ويحبّون الجمال؛ لأن ما يجري في الضفة الغربية وفي غزة، وأيضا في أراضي 48، يبيّن أن تنظيم مهرجانات "دولية" وتوجيه دعوات إلى فنانين من العالم هو فقط محاولة لتجميل الصورة، ولكن حملات المقاطعة الثقافية تعمل من أجل تكذيب هذه المحاولات. في هذا السياق الذي تعرف فيه فلسطين صعوبات كبيرة داخليا، وخارجيا، مثل تبعات ما سمي ب"صفقة القرن"، والفُرقَة بين الممثلين السياسيين للفلسطينيين على سبيل المثال لا الحصر، كيف يمكن أن يسهم المغاربة في دعم القضية الفلسطينية؟ هناك جمعيات تجمع الأموال من أجل أن يكمل الطلبة الفلسطينيون دراستهم، وهناك جمعيات تجمع الأموال من أجل تجهيز المستشفيات الفلسطينية، مثل جمعية التضامن المغربي الفلسطيني التي عملت من أجل تجهيز المستشفيات، ويمكن للمواطن الامتناع عن استهلاك المواد والمنتجات التي تصنّع بالكيان الصهيوني وفي هذا ضغط مهم عليه، مثل: حملة مقاطعة التمور الإسرائيلية، والحملة على شركة الإنتاج الصيدلي "تيفا" التي هي من أكبر المنتجين العالميين للأدوية، وقد انطلقت حملة من أجل تنوير الرأي العام حول هذه الأدوية التي تُنتج بالكيان الصهيوني؛ لأنه لا يعقل أن ينصح الأطباء بها دونَ إخبار المواطنين بأنهم سوف يساهمون في دفع أموال للكيان الصهيوني، والطّامة الكبرى هي أن الميزانية العامة للدولة المتعلّقة بالمستشفيات تصرف أموالا من أجل شراء هذه الأدوية.. ويمكن للمواطنين مقاطعة تمور الاحتلال وأدويته، مع استبدالها بأدوية لها نفس المفعول لكن من مصادر أخرى، وهذه طريقة فعالة من أجل دعم القضية الفلسطينية في هذه الظروف.