إن المتمعن في تاريخ الدولة بالمغرب لا بد أن يلاحظ أن تجربة "التعالي الأنطولوجي عن القبيلة" وإيجاد مرجعية قدسية للسلطة السياسية ظهرت منذ الإرهاصات الأولى لنشأة الدولة بالمغرب. فالملوك المغاربة حاولوا، مقلدين في ذلك بعض الأباطرة الرومان، وضع شجرة إلهية لهم، مما يفسر بالطبع عبادة المغاربة لملوكهم الأولين. كما أن تجربة المولى إدريس الأول وتتويجه ملكا استنادا إلى انحداره من البيت النبوي أو بحكم انتمائه إلى آل البيت، ومحاولة المهدي بن تومرت الاستناد إلى العصمة وتلقبه بالإمام المعصوم، وكذا مختلف الألقاب التي كان يطلقها الأمراء الموحدون على أنفسهم... لم تكن فقط محاولة منهم لإضفاء الشرعية على سلطتهم السياسية، بل كانت إرهاصات أولى لخلق جوهر متعالي للدولة. وقد سمحت الظروف السياسية والدينية التي عرفها المغرب منذ منتصف القرن 15 الميلادي ببلورة هذا "الجوهر المتعالي" للدولة، وذلك بفعل عوامل عدة من أهمها: أولا: انتشار التصوف في مختلف أنحاء المغرب ثانيا: الرجة النفسية التي أعقبت الاحتلال البرتغالي لسواحل المغرب ثالثا: فقدان السلطة المرينية-الوطاسية للشرعية السياسية إن هذه العوامل مجتمعة ساهمت بلا شك في خلق المناخ الفكري والسياسي لتصور جديد للسلطة السياسية في المغرب. فانتشار التصوف كان يؤشر على انتشار منظور جديد للكون الذي أصبح "كونا مليئا بالمعجزات والكرامات" حيث أصبحت النظرة القدسية للأشياء والأشخاص هي السائدة. أما الاحتلال البرتغالي فقد أحدث رجة نفسية كبيرة في نفوس المغاربة الذين فوجئوا لأول مرة، وذلك بعد أزيد من أربعة قرون، بمحتل مسيحي كافر يغزوهم في عقر دارهم ويفرض عليهم إتاوات كانوا في الماضي يفرضونها على المسيحيين في شبه الجزيرة الإيبيرية. لذا، فإن هذه "الرجة" لا بد وأن تكون قد غيرت وأثرت بشكل كبير في المخيال السياسي للمغاربة، حيث دفعهم ذلك إلى التفكير ليس فقط في "منقذ سياسي" يكون من طبيعة مختلفة، تحقق القطيعة مع السلطة المرينية-الوطاسية ذات الطابع القبلي التي أثبتت فشلها في الحفاظ على ممتلكات الإمبراطورية المغربية، والدفاع عن حوزة البلاد، والحفاظ على وحدتها السياسية، بل أيضا في شكل جديد للسلطة. كما ساهمت السياسة المتبعة من طرف النظام القائم، وخاصة من طرف السلاطين المرينيين، لمواجهة الظاهرة "الشرفاوية" واحتوائها، في استشراء هذه الظاهرة وانتظامها. ومن أهم إجراءات هذه السياسة اهتمام السلطة المرينية بالاحتفال بعيد المولد النبوي، وتشجيع الأشراف على تكوين نقابات. الاحتفال بعيد المولد النبوي سمح بعض السلاطين المرينيين، محاولة منهم لاحتواء بعض الممارسات الاحتفالية في بعض أقاليم المغرب، بالاحتفال بعيد المولد النبوي رسميا. فكان السلطان يعقوب بن عبد الحق أول من احتفل بعيد المولد النبوي بفاس، ثم عممه ابنه يوسف على جهات المغرب المريني. كما أحاطت السلطات المرينية هذا العيد بكل مظاهر الاحتفاء والتكريم. وهكذا يصف ابن مرزوق هذه المظاهر كما يلي: "دأب السلطان أن يقيم ليلة المولد حضرا وسفرا، ويستعد لها بألوان المطاعم والحلويات وأنواع الطيب والبخور مع إظهار الزينة والتأنق في إعداد المجالس، حتى إذا جلت الليلة وأدى السلطان صلاة المغرب ونافلتها، قصد إلى مجلسه في مكان الاحتفال، حيث يستدعي الناس للجلوس حسب مراتبهم ويأخذون المجالس على طبقاتهم، فينتظمون في أحسن زي وأجمل شارة، ثم يقدم الطعام على ترتيب مخصوص يتلوه من الفواكه الطرية ما يوجد في إبانه... فإذا استوت المجالس وساد الصمت، قام قارئ العشر فرتل حصة القرآن الكريم، ويتلو عميد المنشدين فيؤدي بعض نوبته، ثم يأتي دور قصائد المديح والتهاني بليلة المولد الكريم من نظم شعراء المملكة والزائرين... وبعد هذا تسرد المعجزات النبوية، وتكثر الصلاة على الرسول سيدنا محمد (ص)... فإذا قضيت صلاة الصبح تقدم ألوان الطعام المختصة بهذا الوقت وجميع ما يفصل من بخور وشموع ويقتسمه الفقراء على قدر استحقاقهم، فيجتمع لهم من ذلك العدد الكثير...". كما أشرفت السلطة المرينية على تنظيم الاحتفال بهذه الذكرى؛ ففي "ليلة العيد يأمر والي المدينة أصحاب الصناعات بالاستعداد لذلك، فيتزينون، ومع كل طائفة من الصناع عملهم ورمز صنعتهم، ويبيت الناس خارج المدينة، فإذا ركب السلطان لصلاة العيد في الصباح الباكر اصطف الناس صفوفا يستعرضها السلطان وهي تمشي أمامه، ثم يركب السلطان ويركب العسكر معه ميمنة وميسرة، ومن خلفه الخدم والأعلام منشورة والطبول خلف الموكب تدق حتى يصلي السلطان ويعود، فينصرف أصحاب الأسواق والمهن إلى بيوتهم ويحضر طعام السلطان خواصه وأشياخ الدولة. وقد أدى هذا الاحتفال الرسمي بهذه الذكرى إلى أن تصبح عيدا شعبيا ومناسبة للأفراح وإدخال الأطفال للكتاتيب، ومناسبة لختان الأطفال...". كما شجعت السلطة المرينية الشعراء والمادحين على تخليد هذه الذكرى، مما أدى إلى انتشار "قصائد التهاني المولدية التي كانت تفتتح بالحنين إلى البقاع المقدسة، ومدح النبي وذكر معجزاته، ثم تخلص إلى مدح السلطان مقيم الاحتفال مع التعرض لبعض الأحداث السلطانية القريبة العهد. بالإضافة إلى ذلك، كان الاحتفال رسميا بهذه الذكرى مناسبة لإظهار سخاء السلطة وتقديمها للأعطيات. ففي "صباح يوم سابع المولد يجلس الكتاب لتوزيع العطاء على الأشراف وأعيان الفقهاء والأئمة والخطباء والقضاة الواردين، فيعطى كل على قدره كسوة تخصه وإحسانا للبعض". ورغم استغلال السلطة لهذه المناسبة ومجاراة النزوع العام للاحتفال بالمولد النبوي وتقديسه، فإن الهدف الرئيسي كان يتركز حول استمالة الأشراف الذين أصبحوا يشكلون قوة دينية وسياسية صاعدة، الشيء الذي ظهر على الخصوص من خلال انتظامهم في نقابات. انتظام الأشراف في نقابات إن المكانة الاجتماعية والسياسية التي أصبح يتمتع بها الأشراف داخل المجتمع المغربي جعلت السلطة المرينية تفكر جديا في ضبطهم والعمل على مراقبتهم. لكن بالإضافة إلى هذا المعطى، فقد كانت هناك عوامل أخرى دفعت بالمرينيين إلى اتخاذ هذا الإجراء، من أهمها: - مواجهة بعض التنظيمات الفرعية للشرفاء - تدعيم شرعية السلطة المرينية - مواجهة المد الصوفي أما عملية ضبط الشرفاء فقد تمثلت في إجراءين رئيسين: إحصاء الشرفاء تمت أول عملية إحصاء من هذا النوع في عهد السلطان أبي الربيع في سنة 1310، حيث شمل هذا الإحصاء كل الأشراف الأدارسة. وقد أسفر هذا الإحصاء، كما هو مثبت في وثيقة مؤرخة بجمادى الثانية 709 نونبر 1310، على حصر الأدارسة الموجودين بالمغرب في فرعين كبيرين: فرع فاس (الجوطيون) وفرع غمارة (العلميون). أما عملية الإحصاء الثانية، فقد أجريت في عهد السلطان أبي الحسن المريني، حيث شملت مختلف فروع الشرفاء المتواجدين بالمغرب. إنشاء النقابات إن إحساس الشرفاء بنفوذهم قد جعلهم يفكرون في تنظيم أنفسهم، وخاصة الشرفاء الأدارسة. لكن السلطات المرينية، مسايرة منها لهذا التطور ومحاولة منها للتحكم فيه، سعت إلى توفير المناخ الملائم لتكوين هذه النقابات ومنحتها امتيازات عدة. فانتظام الشرفاء في نقابات لا بد وأنه كان يخدم السلطة المرينية، نظرا لأنه كان يشكل قوة دينية وسياسية حضرية موالية للحكم في مواجهة الحركة الصوفية ذات الجذور القروية المعارضة للسلطة. كما أن انتظام الشرفاء في نقابات كان يسهل على السلطة مراقبتهم وضبطهم. لذا فقد تكونت نقابات عدة في مدن مغربية عديدة، فالشرفاء الصقليون بسبتة كونوا نقابة خاصة بهم ورأسوا عليهم الشريف أبو العباس أحمد بن الشريف الحسيني الذي كانت له سلطة نافذة داخل هذه النقابة، وكان يتمتع بمكانة كبيرة من طرف السلطة المرينية. كما أصبح هؤلاء الشرفاء الصقليون يتمتعون بامتيازات ضخمة، نظرا لقوة إطارهم التنظيمي المتمثل في رئاسة الشرفاء. وقد انعكس ذلك من خلال مظاهر الحفاوة الكبيرة التي استقبل بها الشريف أبو العباس أحمد بن الشريف الحسيني، رئيس نقابة الشرفاء الصقليين، من طرف أحد السلاطين المرينيين. كما أنشأ الشرفاء الأدارسة نقابة خاصة بهم يترأسها نقيب كانت له صلاحيات عدة، من أهمها: - حماية النسب الإدريسي، وذلك من خلال التأكد من شجرة أي شريف إدريسي. - تنظيم أمور الشرفاء وشؤونهم. - الفصل في النزاعات - الدفاع عن مصالحهم أمام السلطة. ونظرا لهذه الصلاحيات، فقد أصبح للنقيب نفوذ واسع ومكانة سياسية تتمثل خاصة في تزكيته لبيعة السلاطين. كما أبرزت مرتبته في بعض الأحيان تلك المكانة التي كان يحظى بها نقيب الشرفاء الصقليين بسبتة. ويمكن أن نرجع ذلك إلى الأسباب التالية: - السبب الأول يكمن في الرصيد التاريخي الذي يتمتع به الشرفاء الأدارسة لمنحدرهم الرفيع من جهة، ولكونهم حفدة مجد تليد، فجدهم إدريس الأول وأبناؤه وحفدته مارسوا الحكم وتقلدوا السلطة. - السبب الثاني يعود إلى تواجد الشرفاء الأدارسة بالعاصمة السياسية وقربهم من البلاط المريني. - السبب الثالث يعود إلى انتشار الشرفاء الأدارسة في مختلف أنحاء المغرب. وبهذا يتراءى لنا أن السياسة الدينية المرينية قد ساهمت بشكل كبير في خلق الأجواء المناسبة لتوظيف الشرف لإضفاء الشرعية على الحكم ومواجهة الخصوم السياسيين، سواء كانوا في داخل البلاد أو خارجه. لكن هذه السياسة، إن كانت خدمت مصالح السلطة المرينية مؤقتا، فإنها قد شكلت على المدى الطويل خطرا بالنسبة لها. وقد تمثل ذلك على الخصوص في المناحي التالية: أولا: خلق "فجوة بين سكان الجبال والأرياف بقيادة التيار الصوفي، وبين فئات الشرفاء المندمجين في سلك الدولة". ثانيا: عدم قدرة النظام المريني على الاستمرار في "توفير الامتيازات المادية للشرفاء". ثالثا: إحداث قطيعة بين الصوفية والحكم المريني، الشيء الذي تمثل في لجوء صوفية سوس إلى الشرفاء السعديين بدرعة. غير أن الخطر الأكبر الذي أفرزته هذه السياسة هو تشجيع الشرفاء، وخاصة الأدارسة، على التفكير في الوصول إلى السلطة. وقد تجلى ذلك على الخصوص من خلال الدعاية السياسية التي أقيمت حول اكتشاف قبر المولى إدريس بفاس، وتولي أحد الأدارسة للحكم بعد مقتل السلطان عبد الحق. وقد كان تولي أحد الشرفاء الأدارسة للحكم بفاس منعطفا تاريخيا في تطور السلطة من سلطة قبلية إلى سلطة تقوم على أساس شريفي. لذا فإن الفترة الوطاسية، رغم إجهاضها لهذه التجربة، لم تكن إلا فترة انتقالية كانت تتهيأ فيها قوى شرفاوية أخرى للوصول إلى السلطة. وهكذا استغل الشرفاء السعديون ضعف السلطة المركزية وعجزها عن طرد المحتل الإيبيري، بل وتحالفها معه في بعض الأحيان، للتحالف مع زعماء الطرق الذين تزعموا حركة الجهاد ضد البرتغال. وفي هذا إشارة إبراهيم شحاته إلى أن: "الإمارة السعدية قد نشأت من التنظيم الديني للطرق الصوفية التي سادت أقاليم المغرب الفاسي-المراكشي في أخريات الدولة المرينية والعهد الوطاسي. وانتظمت مجتمعات هذا التنظيم في الطريقتين الكبيرتين: القادرية والشاذلية. وقد انتمت الأسرة السعدية إلى البيت الشاذلي بعد هجرتها إلى سوس، وأهلتها دعوى الانتساب للأشراف للتطور بالتنظيم الديني الجزولي إلى الدور السياسي في قيادة النزاع الأسري، القبلي والطائفي بين جموع المغاربة وأحداث القتال ضد البرتغاليين والعثمانيين في أطراف البلاد والاتجاه بالوحدة السياسية للمغرب الفاسي المراكشي إلى سابق مركزيتها القوية واتساعها التاريخي". كما أن التشرذم السياسي الذي عرفته البلاد بعد وفاة المنصور السعدي ساعد على حلول الشرفاء العلويين محل السعديين، الشيء يؤكد أن الشرف قد تكرس كأساس ليس فقط للسلطة بل كأساس للدولة بشكل عام. فإذا كان الشرف قد ساهم في إضفاء الشرعية على السلطة القائمة، فإنه قد منحها أيضا وسائل عدة للتعالي السياسي، من أهمها: أولا: اعتماد السلطة على أساس غير قبلي ثانيا: اعتماد السلطة على مرجعية إلهية ثالثا: تقديس شخص السلطان