تغير المناخ أدى لنزوح ملايين الأشخاص حول العالم وفقا لتقرير أممي    انخفاض طلبات الإذن بزواج القاصر خلال سنة 2024 وفقا لتقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية    مباحثات تجمع العلمي ونياغ في الرباط    أخنوش: تنمية الصحراء المغربية تجسد السيادة وترسخ الإنصاف المجالي    "أسود الأطلس" يتمرنون في المعمورة    الأحزاب السياسية تشيد بالمقاربة التشاركية للملك محمد السادس من أجل تفصيل وتحيين مبادرة الحكم الذاتي    رفض البوليساريو الانخراط بالمسار السياسي يعمق عزلة الطرح الانفصالي    تنصيب عمر حنيش عميداً جديدا لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بالرباط    الرايس حسن أرسموك يشارك أفراد الجالية أفراح الاحتفال بالذكرى 50 للمسيرة الخضراء    أخنوش يستعرض أمام البرلمان الطفرة المهمة في البنية التحتية الجامعية في الصحراء المغربية    أخنوش: الحكومة تواصل تنزيل المشروع الاستراتيجي ميناء الداخلة الأطلسي حيث بلغت نسبة تقدم الأشغال به 42 في المائة    إطلاق سراح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وإخضاعه للمراقبة القضائية    تداولات بورصة البيضاء تنتهي "سلبية"    المعارضة تقدم عشرات التعديلات على مشروع قانون المالية والأغلبية تكتفي ب23 تعديلا    رسميا.. منتخب المغرب للناشئين يبلغ دور ال32 من كأس العالم    ندوة حول «التراث المادي واللامادي المغربي الأندلسي في تطوان»    مصرع شخص جراء حادثة سير بين طنجة وتطوان    أمن طنجة يُحقق في قضية دفن رضيع قرب مجمع سكني    نادية فتاح العلوي وزيرة الاقتصاد والمالية تترأس تنصيب عامل إقليم الجديدة    كرة أمم إفريقيا 2025.. لمسة مغربية خالصة    "حماية المستهلك" تطالب بضمان حقوق المرضى وشفافية سوق الأدوية    المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يضمن التأهل إلى الدور الموالي بالمونديال    انطلاق عملية بيع تذاكر مباراة المنتخب الوطني أمام أوغندا بملعب طنجة الكبير    المجلس الأعلى للسلطة القضائية اتخذ سنة 2024 إجراءات مؤسسية هامة لتعزيز قدرته على تتبع الأداء (تقرير)    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    تدهور خطير يهدد التعليم الجامعي بورزازات والجمعية المغربية لحقوق الإنسان تدق ناقوس الخطر    تلاميذ ثانوية الرواضي يحتجون ضد تدهور الأوضاع داخل المؤسسة والداخلية    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    قتيل بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان    200 قتيل بمواجهات دامية في نيجيريا    رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مؤلف يرصد علاقة "المهاجرين السوسيين الأوائل" في مدن المملكة
نشر في هسبريس يوم 06 - 07 - 2020

صدر عن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية كتاب جديد بعنوان "الهجرة إلى الشمال.. سيرة تاجر أمازيغي"، ويتعلق الأمر بترجمة لكتاب جون واتربوري "North for the Trade : The Life and Times of a Berber Merchant" الصادر سنة 1972، حيث قام بترجمته عبد المجيد العزوزي الذي سبق له أن ساهم في ترجمة مونوغرافية أيث ورياغر لكاتبها دايفيد هارت من الإنجليزية إلى العربية.
ويتناول الكتاب سياق استقرار أمازيغ جنوب المغرب (إسوسييْنْ) في الأوساط الحضرية، خاصة منها الدار البيضاء. ويُعنى الكتاب كذلك بتحليل التغيرات السوسيوسياسية لمغرب القرن العشرين، وعلاقة المهاجرين السوسيين الأوائل بالوسط الحضري، فضلا عن التطرق إلى التحديات الثقافية التي يواجهونها من أجل الحفاظ على هويتهم الثقافية والتعبير عنها.
تبعا لذلك، أورد محمد أوبنعل، باحث في علم الاجتماع بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ضمن مقالة بعثها لهسبريس، أن "جون واتربوري يفسر في كتابه نشأة الظاهرة السوسية بتوسع الأحياء الأوروبية، خلال فترة الحماية، بكل من طنجة والدار البيضاء، ثم تزايد المستهلكين المأجورين بما في ذلك المغاربة في الأحياء القديمة والجديدة. كما أنهم أنشؤوا علاقات في البداية مع تجار الجملة اليهود، ليضمن هؤلاء توزيع منتوجاتهم بفضل تجار التقسيط السوسيين؛ بل إن بعضا من كبار التجار السوسيين أصبحوا تجار جملة، ليهيمنوا بذلك على جزء من توزيع المواد الغذائية".
وإليكم المقالة:
تضم عبارة "غْلينْ إبودْرارْنْ سْ لْغْرْبْ ⵖⵍⵉⵏ ⵉⴱⵓⴷⵔⴰⵔⵏ ⵙ ⵍⵖⵔⴱ" مصطلحات أمازيغية أو مستمزغة تعبر عن ظاهرة هجرة التجار السوسيين إلى المدن الكبرى والتي يتناولها جون واتربوري في كتابه "الهجرة إلى الشمال. سيرة تاجر أمازيغي". فمصطلح إبودْرارْنْ ⵉⴱⵓⴷⵔⴰⵔⵏ يعني قاطني أدرارⴰⴷⵔⴰⵔ أي الجبل إلا أنه يشير، في الوسط التجاري الأمازيغي بمدينة كالدار البيضاء، إلى السوسيين المنحدرين من المنطقة الجبلية للأطلس الصغير ومن جبل لْكْسّْتْ ⵍⴽⵙⵙⵜ على وجه الخصوص. أما المصطلح الثاني لْغْرْبْ ⵍⵖⵔⴱ فهو تمزيغ للكلمة العربية التي تدل على الجهة الغربية؛ ولكن المقصود بها عند السوسيين ليس هي منطقة الغرب نواحي سيدي قاسم بل مدن الشمال التي يهاجرون إليها لمزاولة تَسْبّابْتْ ⵜⴰⵙⴱⴱⴰⴱⵜ أي التجارة.
ويستعمل السوسيون فعل إغْلِي ⵉⵖⵍⵉ أي "صَعَدَ" أكثر من إدّا ⵉⴷⴷⴰ "ذَهَبَ" أو إمُّودّا ⵉⵎⵎⵓⴷⴷⴰ "سَافَرَ" للحديث عن هجرتهم إلى مدن الشمال. وقد يكون ذلك راجعا إلى أن إغْلِي ⵉⵖⵍⵉ يعبر عن رغبة في الصعود الاجتماعي المرافق للهجرة من جبل لْكْسّْتْ ⵍⴽⵙⵙⵜ بالأطلس الصغير إلى مدينة في نمو سريع كالدار البيضاء. وقد نجد في الشعر الأمازيغي بعض الإشارات إلى النجاح الاجتماعي عندما يصبح السوسي تاجرا في مدن الشمال كما في هذا المقطع الذي اختار فيه شاعر أحواش، المرحوم يحيى بوقدير، فعل إزْرِي ⵉⵣⵔⵉ أي المرور للدلالة على الانتقال إلى حالة مادية جديدة:
إلّا كرا إزري س لغرب إعّمر ڭيس ⵉⵍⵍⴰ ⴽⵔⴰ ⵉⵣⵔⵉ ⵏⵉⵜ ⵙ ⵍⵖⵔⴱ ⵉⵄⵎⵎⵕ ⴳⵉⵙ
تيلي تّيليفون غ مناد ن إمزّوغ نس ⵜⵉⵍⵉ ⵜⵜⵉⵍⵉⴼⵓⵏ ⵖ ⵎⵏⴰⴷ ⵏ ⵉⵎⵥⵥⵓⵖ ⵏⵙ
إنّا غ إيلّا لبيعوشّرا إلكمد ⵉⵏⵏⴰ ⵖ ⵉⵍⵍⴰ ⵍⴱⵉⵄⵓⵛⵛⵔⴰ ⵉⵍⴽⵎⴷ
وقد تم تمزيغ مصطلحات عربية أخرى لتدل على وظائف وسط فضاء عمل التجار السوسيين. فمصطلح توشّْرْكا ⵜⵓⵛⵛⵔⴽⴰ يدل على الشراكة بين التجار بينما أڭْلّاسْ ⴰⴳⵍⵍⴰⵙ هو المسير الذي يقوم بتدبير الحانوت من دون أن يكون شريكا في رأس المال.
ولقد بذلنا مجهودا في إعادة نشر الترجمة العربية لهذا الكتاب، بعد قرابة نصف قرن على نشره باللغة الإنجليزية، لأسباب عديدة؛ منها، من جهة، إتاحة الفرصة للجيلين الثالث والرابع من حفدة إبودْرارْنْ ⵉⴱⵓⴷⵔⴰⵔⵏ لمعرفة التحولات الاجتماعية التي انخرط فيها أجدادهم، ومن جهة أخرى، تفسير الظاهرة السوسية لإخراجها من الأفكار العفوية والمسبقة لدراستها بشكل ممنهج.
أهمية هذا الكتاب تكمن كذلك في منهجيته المنفردة؛ فعوض الارتكاز، مثل العديد من الأبحاث الأكاديمية، على الإحصائيات والاستمارات وتعدد الاستجوابات ارتأى الكاتب استعمال سيرة ذاتية لتاجر واحد استطاع أن يعطي بها صورة عن الظاهرة السوسية. وقد مكنه ذلك، حسب ما دونه في مقدمة الطبعة الإنجليزية، من أن لا يطمس "الصعود المشوِّق" للسوسيين بالدار البيضاء بمنهجية عقلانية كانت ستبقى حبيسة التقنية.
يفسر جون واتربوري في كتابه نشأة الظاهرة السوسية بتوسع الأحياء الأوروبية، خلال فترة الحماية، بكل من طنجة والدار البيضاء، ثم تزايد المستهلكين المأجورين بما في ذلك المغاربة في الأحياء القديمة والجديدة. كما أنهم أنشؤوا علاقات في البداية مع تجار الجملة اليهود، ليضمن هؤلاء توزيع منتوجاتهم بفضل تجار التقسيط السوسيين؛ بل إن بعضا من كبار التجار السوسيين أصبحوا تجار جملة، ليهيمنوا بذلك على جزء من توزيع المواد الغذائية.
وقد أبرز الكاتب التوازن الحاصل بين التنافس الشديد بين السوسيين الذي لا يخرج إلى العلن والضغوطات للحفاظ على توازن المجموعة، بالإضافة إلى قدرة السوسيين على التأقلم مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المغرب في القرن العشرين. فيما يخص نقطة التماسك الاجتماعي للمجموعة، فقد أورد الكتاب معطيات قيمة لمحاولة تفسيرها في الوسط الحضري؛ فقد لعبت القروض الخارجة عن النطاق البنكي دورا في تدعيم العلاقات بين تجار الجملة والتقسيط وخلق نظام الراعي والزبناء (Système de patron-clients) بين السوسيين. فالسلف يمنحه التاجر السوسي الكبير للمقترِض لأنه يعلم أن هذا الأخير سيعمل على مضاعفة الأرباح. أما إن لم يُرجع الدَّيْن الذي عليه فالعقوبة قد تؤدي إلى الإقصاء من المجموعة السوسية في كل المدن التي تتواجد فيها، وتتم هذه العمليات دون اللجوء إلى عقود مكتوبة أو إلى المحاكم.
وقد دعَّم بعض إبودْرارْنْ ⵉⴱⵓⴷⵔⴰⵔⵏ تجارتهم بشكل كبير من خلال الحصول على بونات خلال فترة الندرة في أربعينيات القرن الماضي أو رخص تجارة الجملة في الشاي والسكر أو القدرة على شراء بقع أرضية في فترة كانت فيها الأثمان منخفضة. وقد استطاع بعض من التجار الخروج من البيع بالتقسيط إلى الاستثمار على المدى الطويل وتكوين مجموعات كبرى قد نجدها في الصناعة والعقار والفلاحة والمواد الغذائية. وقد حفظت لنا الذاكرة الشعبية الأمازيغية تلك النجاحات مثل هذه المقاطع لأغنية تتحدث عن التاجر الحاج حسن الراجي المعروف ب"بُوَاتايْ":
أوفيغ يان التّاجر إيلّا غ الدار البيضاء ⵓⴼⵉⵖ ⵢⴰⵏ ⵜⵜⴰⵊⵔ ⵉⵍⵍⴰ ⵖ ⴹⴹⴰⵕ ⵍⴱⵉⴹⴰ
حسن ڭو وامّلن لّان س لموجود ⵃⴰⵙⴰⵏ ⴳⵓ ⵡⴰⵎⵎⵍⵏ ⵍⵍⴰⵏ ⵙ ⵍⵎⵓⵊⵓⴷ
دارس أغ إيلّا واتاي العرش د لعنبر ⴷⴰⵔⵙ ⴰⵖ ⵉⵍⵍⴰ ⵡⴰⵜⴰⵢ ⵍⵄⵔⵛ ⴷ ⵍⵄⵏⴱⵔ
كولّ ماتّ ايسّان أور سار إيژري لعيوب ⴽⵓⵍⵍ ⵎⴰⵜⵜ ⵉⵙⵙⴰⵏ ⵓⵔ ⵙⴰⵔ ⵉⵥⵕⵉ ⵍⵄⵢⵓⴱ
ويزعم الكاتب، من خلال تحليله للاقتصاد المغربي، أن الوسطاء، الذي يوجد من بينهم تجار سوسيون، عددهم كبير إن نحن أخذنا بعين الاعتبار مسألة الفعالية الاقتصادية بمعناها الضيق؛ لكن واتربوري ينظر إلى هؤلاء الوسطاء "الزائدين عن اللزوم" كنوع من إعادة التوزيع في ظل انعدام فرص أكبر للشغل وهم يقدمون كذلك خدمات هامشية. غير أن للحاج براهيم، صاحب السيرة في هذا الكتاب، نظرة استشرافية يرى فيها الظهور التدريجي للمتاجر الكبرى كتهديد لهؤلاء الوسطاء.
وقد استطاع الكاتب في الفصل الخاص ب"لْبوليتيكْ" ⵍⴱⵓⵍⵉⵜⵉⴽ أن يرصد التحولات التي عرفتها علاقة التجار السوسيين بالسياسة؛ فقد ابتدأ ذلك بالنضال المسلح القَبَلي ضد احتلال الأطلس الصغير من طرف الفرنسيين وقد ساهموا بعد ذلك في الحركة الوطنية الحضرية، حيث تحمل عدد منهم عبئا كبيرا داخل الحركة إلا أن قيادة حزب الاستقلال ظلت مكونة أساسا من نخبة متعلمة سمحت لها ظروفها المادية بالسفر إلى الخارج وتحديد إستراتيجية الحركة الوطنية.
وقد فضّل السوسيون، حسب الحاج براهيم، عدم ضرب وحدة الحركة خدمة للقضية الوطنية معتقدين أن استقلال البلاد سيعطي وزنا أكبر للسوسيين وباقي القوى بالمغرب؛ إلا أن الأمور، حسب الحاج براهيم، لم تسر في هذا المنحى، فاتضح للتجار الصغار السوسيين ولباقي القوى التي ناضلت من أجل إنهاء الاستعمار أن المتعلمين الميسورين المنبثقين من بورجوازية حزب الاستقلال استحوذوا على المناصب المهمة في الحكومة والإدارة المغربية.
ويُقِرّ الحاج براهيم بأن جزءًا من السوسيين المقاومين للاستعمار لم يُسْتَثْنوا من الرخص بعد 1956 إلا أن "الغنائم" كانت كبيرة بالنسبة لبورجوازية حزب الاستقلال مقابل البسطاء من المقاومين. فجاء انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال سنة 1959، لينضم فيه التجار السوسيون بشكل شبه جماعي إلى المثقفين اليساريين بزعامة المهدي بن بركة. وقد تقاطع السوسيون مع هذا الخط اليساري، حسب واتربوري، لأنهم أرادوا إنهاء هيمنة البورجوازية الفاسية. بينما بَقِي التجار السوسيون الكبار، أمثال الحاج عابد، بعيدين عن السياسة خلال هاته الفترة الحرجة من تاريخ المغرب.
وقد حقق السوسيون بالفعل انتصارهم على بورجوازية حزب الاستقلال عندما تصدروا، عبر لائحة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، نتائج انتخابات سنة 1960 لغرفة التجارة والصناعة بمدينة الدار البيضاء. لتظهر كذلك بوادر الاختلافات داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بين الخط اليساري الذي يضم مثقفي قيادة الحزب التي حاولت فرض بعض الأمور من الأعلى، والخط الشعبي الذي يوجد به التجار السوسيين. وقد تلت ذلك فترة من القمع والاعتقالات وحالة الاستثناء في سنة 1965، ليبتعد جزء من التجار الصغار السوسيين عن العمل السياسي المباشر ويُضطر عدد منهم إلى التأقلم مع هيمنة السلطة المركزية من خلال تأسيس جمعيات مهنية مستقلة للدفاع عن مصالحهم.
قد نتساءل اليوم، بعد نصف قرن تقريبا عن البحث الذي أجراه واتربوري، عن علاقة التجار السوسيين بالنضال السياسي. هل ترتبط بعض من جمعيات تجار التقسيط بالدار البيضاء بالاحتجاجات المرتبطة بالأرض؟ وماذا عن كبار التجار السوسيين؟ ماذا عن ارتباط حفدة الفاعلين الاقتصاديين الأوائل بمسألة الهوية والثقافة والتمسك باللغة الأمازيغية في ظل التحولات والمستجدات التي تعرفها البلاد؟
استطاع واتربوري، عند دراسته لتَدَيُّن الحاج براهيم، تِبيان وجود خط "سلفي إصلاحي" لدى بعض السوسيين يهدفون من خلاله إلى إظهار تشبثهم بالاستقامة في تطبيق مبادئ الإسلام ومنافستهم للفاسيين في بعض مظاهر التشبث بالثقافة الإسلامية المشرقية. هل لا يزال اليوم هذا التيار قويا لدى التجار السوسيين كما كان الأمر ابتداء من السبعينيات عندما قام، أمثال الحاج عابد، بمحاربة التدين الصوفي المرتبط بالمواسم الدينية الشعبية والأولياء و إنْموڭّارْنْ ⵉⵏⵎⵓⴳⴳⴰⵔⵏو لْمْعاريفْ ⵍⵎⵄⴰⵔⵉⴼ؟
لقد جاءت الدراسة التي قام بها واتربوري مختلفة عن تلك التي أنجزها الباحثون الفرنسيون، المنخرطون في المشروع الاستعماري، أمثال روبير مونطاني الذي عند اهتمامه بنشأة البروليتاريا المغربية، خصص حيزا للتجار السوسيين، وأندري أدام الذي أولى أهمية للسوسيين في التحولات التي عرفتها مدينة الدار البيضاء بالإضافة إلى تقارير ضباط الشؤون الأهلية حول قبيلة أمّلن أو إيضاوڭنيضيف وهجرة التجار السوسيون إلى مدن الشمال. وهو يختلف كذلك عن الدراسات الحديثة التي أنجزها كل من عبد الله كيكر عن أولحاج أخنوش والسيرة الذاتية لمولاي مسعود أڭّوزال وكتاب عمر أمرير "العصاميون السوسيون بالدار البيضاء" الذي يعطي بورتريهات عن سوسيين لعبوا أدوارا رائدة في مختلف المجالات (المقاومة، التجارة، الموسيقى، الرياضة، إلخ).
إن كتاب جون واتربوري، بالإضافة إلى سرد قصة نجاح الحاج براهيم ومعه بزوغ الظاهرة السوسية، ينخرط في نقاش، ضم مجموعة من الباحثين يهتمون بمدى مساهمة المجموعات الثقافية والإثنية (السوسيون بالمغرب، المزاب بالجزائر والدجربيون بتونس) في تطور الرأسمالية بشمال إفريقيا، على غرار الدور الذي لعبته الأخلاق البروتيستانتية في نشأة الرأسمالية حسب ماكس فيبير؛ إلا أن الكاتب يرفض هذا الطرح ويَزعم أن الدولة، في حالة المغرب التي درسها، يجب أن يكون لها دور تنموي مهم. وقد نتساءل اليوم إن كانت الدولة، في صيغتها المركزية، الوحيدة القادرة على الدفع بعجلة التنمية أم أن المستويات المحلية الأخرى، بما في ذلك الجهات، قد تلعب دورا مهما في ذلك؟
فعلى الرغم من أن الكاتب تطرق، في بعض من فقراته، إلى وصف المؤسسات الجماعية الحية فإنه، وبحكم موضوعه الأساسي ومنهجيته، لا يطرح سبل الاعتماد على حيوية المؤسسات المحلية ك لْجْماعْتْ ⵍⵊⵎⴰⵄⵜ و تيويزي ⵜⵉⵡⵉⵣⵉ و إنموڭّارن ⵉⵏⵎⵓⴳⴳⴰⵔⵏ لمحاولة بناء تنمية تنطلق من الأسفل إلى الأعلى عوض الخضوع لتصورات مركزية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.