من المعروف أن المجتمع الإسرائيلي يتكون من مجموعات عرقية وإثنية ودينية مختلفة، نظرا لأنه تكوّن بفعل قرار سياسي تمثل في وعد بلفور عام 1917 بإقامة دولة لليهود في فلسطين، ولم يتكون نتيجة تطورات اجتماعية وتاريخية، لذلك فقد نشأ مشوّها وغير متجانس ومتنافرا، فالنسيج الاجتماعي الإسرائيلي يتشكل من مكونات مختلفة، تضم السكان الشرعيين من بقية الشعب الفلسطيني في أراضي 1948م، الذين يطلق عليهم "عرب إسرائيل"، وأخلاطًا متنافرة من المستوطنين الذين هاجروا إلى فلسطين من مختلف أنحاء العالم. يهود المغرب.. أية إشكالية داخل المجتمع الإسرائيلي؟ يعد يهود المغرب إحدى أهم شرائح هذا المجتمع، فقد جاء أبناء هذه الطائفة إلى إسرائيل وهم يحملون مفاهيم اجتماعية مختلفة ومكونات ثقافية محلية، علاوة على معتقدات دينية مغايرة لما هو سائد في إسرائيل، كما أنهم مثلهم مثل كثير من طوائف اليهود (السفاراد) "يهود الشرق"، التي تعاني من التمييز الطائفي القائم على أسس إثنية وعرقية داخل إسرائيل، مما يؤكد وجود هوة واسعة بين اليهود السفاراد واليهود الإشكناز (يهود الغرب)، وهذه الهوة -لاشك- توضح لنا مظهرا من مظاهر التناقض العديدة داخل المجتمع الإسرائيلي، فقد عمدت المؤسسات الإسرائيلية التي تكونت بالأساس من الإشكناز منذ تدفق هجرة يهود السفاراد عامة ويهود المغرب خاصة إلى إسرائيل، إلى تتبع عملية التذويب القهري والإجبار الثقافي في محاولة جادة لنزعهم عن هويتهم الشرقية وسلخهم عن ماضيهم، وبذلك تكون قد حكمت بالموت على الهوية اليهودية الشرقية، في محاولة منها لإحلال الهوية الإسرائيلية الجديدة ذات الطابع العلماني-الغربي. والكتاب الماثل للعرض -"يهود المغرب.. تاريخهم وعلاقتهم بالحركة الصهيونية" لمؤلفه د.أحمد الشحات هيكل- يوضح للقارئ العربي الكثير من الجوانب المتعلقة بيهود المغرب من حيث تاريخهم وبدايات تواجدهم بشمال أفريقيا عامة وفي بلاد المغرب خاصة، ولا سيما خلال القرن العشرين، والمحاولات الصهيونية الدءوبة لإقناعهم بالفكر الصهيوني ومن ثمّ تهجيرهم إلى إسرائيل، وأخيرا أوضاعهم سواء الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية في داخل إسرائيل. التواجد اليهودي في المغرب العربي يستعرض مؤلف الكتاب الآراء المختلفة حول بدايات التواجد اليهودي في شمال أفريقيا، محاولا الفصل بين الرواية التاريخية (الموضوعية) والروايات الشعبية الشفهية (الأسطورية)، وذلك بهدف الوصول إلى دعم الروايات التاريخية ورفض غيرها من الروايات، مشيرا إلى تزايد التواجد اليهودي في منطقة شمال أفريقيا كلما تزايدت موجات الاضطرابات والأزمات التي كانت تجتاح فلسطين خاصة أيام الحكم اليوناني، وما أعقب ذلك من دمار للهيكل اليهودي الثاني عام 70 على أيدي "تيتوس" الروماني، حيث جاءت موجة من المهاجرين اليهود بشمال أفريقيا، وفي العقد الثاني من القرن ال2 الميلادي، وقع تمرد شمل أجزاء كبيرة من الإمبراطورية الرومانية اشترك اليهود به، إلا أن الرومان نجحوا في نهاية الأمر في قمع هذا التمرد بلا هوادة، ومنذ ذلك الحين انتقل مركز التواجد اليهودي إلى الجزء الغربي من منطقة شمال أفريقيا. أما التواجد اليهودي في المغرب تحديدا ولاسيما خلال القرن ال20 فيشير المؤلف إلى وجود تنوع إثني وثقافي بين يهود المغرب أنفسهم، فهناك يهود الداخل وجبال الأطلسي الذين عاشوا في كنف القبائل الأمازيغية، بل إن بعض المصادر ترجع أصولهم إلى قبائل أمازيغية متهودة، وهناك يهود الساحل وهم اليهود الإسبان الذين توافدوا على المغرب بعد سقوط دولة الأندلس وطرد المسلمين واليهود منها على حد سواء، وقد استقر هؤلاء في البداية بالمدن الساحلية مثل الرباط والصويرة والعرائش والقنيطرة وطنجة وتطوان وغيرها، ثم بدءوا التنقل إلى مدن داخلية مثل فاس ومراكش ومكناس. أما عن التعداد السكاني ليهود المغرب فيورد المؤلف العديد من الآراء والإحصاءات المختلفة حول هذا الموضوع، إلا أن أحدثها وأكثرها دقة هو الإحصاء السكاني المغربي الذي أجري في يوليو 2001 والذي جاء فيه أن نسب التقسيمات العرقية للسكان، هي على النحو التالي: - العرب- البربر 99.1% - اليهود 0,2 % - العرقيات الأخرى 0,7 %. في حين أن هناك إحصائيات نشرتها صحف مغربية في الآونة الأخيرة تفيد أن عدد اليهود الموجودين في المغرب حاليا لا يتجاوز 4000 نسمة. كما كان لليهود العديد من الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية في المغرب، فاجتماعيا كان لليهود مدارسهم الخاصة بهم، والتي تنقسم إلى مدارس يهودية تقليدية تدرس بها علوم ومبادئ الديانة اليهودية واللغة العبرية، وانتشرت هذه المدارس بالمناطق ذات الكثافة اليهودية العالية، وكذلك المدارس الفرنسية-اليهودية والتي تنقسم هي الأخرى إلى مدارس حكومية تخضع لإشراف سلطات الحامية الفرنسية ومدارس خاصة تتولى الإشراف عليها هيئة فرنسية خاصة، والتي مزجت بين التعليم اليهودي التقليدي وبين تدريس العلوم العلمانية، وكان غرضها الأساسي هو نشر الثقافة واللغة العبرية في أوساط الجالية اليهودية في المغرب، وكانت تتلقى الدعم المالي والفني من منظمات يهودية أجنبية. أما اقتصاديا فقد كان تواجد يهود المغرب واضحًا في مجال التجارة الخاصة، ولاسيما يهود المدن الساحلية وذلك بفضل علاقتهم الوطيدة بيهود جنوب وغرب أوروبا، إضافة إلى إتقانهم العديد من اللغات، وفوق ذلك علاقتهم الحميمة بالبلاط الملكي المغربي وبمراكز النشاط السياسي بالمغرب، كما كان ليهود المغرب باع طويل في الحرف المختلفة وكانوا يتوارثون هذه الحرف عن آبائهم وأجدادهم ويحتفظون بأسرارها لأنفسهم. وبالنسبة لأوضاع يهود المغرب السياسية، فقد تمتعوا بقدر كبير من الحرية السياسية وأتيحت لهم حرية الحركة والتعبير عن الرأي وكان أكبر دليل على ذلك هو السماح لهم بإصدار العديد من الصحف اليهودية ذات الاتجاهات المختلفة ومنها الصهيونية، وكان من أبرز تلك الصحف صحيفة "الحرية" وصحيفة "أخبار إخواننا في إسرائيل وفي الشتات" وصحيفة "المقتطف" كما كان ليهود المغرب دور كبير في الحركة الوطنية المغربية، إذ أبدى بعض الشباب اليهودي المستنير تأييده للحركات القومية في المغرب، لكن أنشطتهم اقتصرت على المجالين الأدبي والاجتماعي، وانضمت قلة قليلة منهم إلى قيادات الحركات القومية العربية أو إلى أتباع هذه الحركات، كما كان ليهود دول الشمال الأفريقي دور بارز في نشر الفكر الشيوعي في أوساط هذه البلدان. وفيما يتعلق بالأوضاع الثقافية فقد كان للثقافة المغربية على مر العصور تأثير مباشر على اليهود، فنجد أنهم امتلكوا تراثا ثقافيا ثريا وغنيا بعناصره الفلكلورية مشبعا بالبيئة المغربية ذات الثقافة العربية الإسلامية، واحتفلوا بأعيادهم المختلفة بشكل علني وبحرية مطلقة، وكانت أغلبية عاداتهم وسلوكياتهم الثقافية تعبر عن الرغبة في الاندماج في المجتمع المغربي والتواصل مع سائر السكان المسلمين، ويبرز ذلك بشكل واضح في الاحتفال بعيد "الميمونة" الذي يعد عيدًا محليًا خاصًا بيهود المغرب دون سواهم، وزيارة يهود المغرب للأضرحة المنتشرة في مختلف ربوع المغرب. النشاط الصهيوني في المغرب يرصد مؤلف الكتاب أنشطة الحركة الصهيونية في أوساط يهود المغرب في الفترة المنحصرة منذ بدايات ظهور الحركة الصهيونية إلى ما بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، وهي الفترة الممتدة ما بين عامي 1900 وحتى عام 1964 والتي انقسمت إلى مرحلتين، وهما: أ- النشاط الصهيوني في المغرب 1900-1947؛ حيث أشارت العديد من الإحصاءات أنه خلال الفترة الممتدة ما بين 1919-1947 هاجر حوالي 1000 يهودي مغربي فقط إلى فلسطين، وهي الفترة التي شهدت ظهور بعض المنظمات اليهودية-الصهيونية المغربية مثل رابطة "شعاري تسيون" أي أبواب صهيون، ورابطة "شيفات تسيون" أي العودة إلى صهيون، ورابطة "أهفات تسيون" أي حب تسيون، ورابطة "حيبت تسيون" أي محبة صهيون، وكانت معظم هذه الروابط والمنظمات تعمل على استكمال دور الحركة الصهيونية التي فشلت في التغلغل بصورة فعالة في أوساط يهود المغرب ولا سيما الطبقة المثقفة منهم. وبالنسبة للنشاط الصهيوني في المغرب خلال الفترة المحصورة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية 1918-1939 فقد حاولت الحركة الصهيونية خلال هذه الفترة توسيع حجم نشاطاتها في المغرب مستخدمة في ذلك عدة أساليب من أبرزها إيفاد مبعوثين تابعين للصناديق القومية الصهيونية للمغرب كوسيلة اتصال مباشرة مع يهود المغرب بالإضافة إلى استمرار تبادل الرسائل مع الروابط الصهيونية بالمغرب، كما استخدمت الحركة الصهيونية وسائل إعلامية ومن أبرزها الصحف وذلك للترويج للنشاط الصهيوني في المغرب، فصدرت أول صحيفة صهيونية في المغرب عام 1926 في الدارالبيضاء وهي صحيفة Lavenir Illustre (المستقبل المصور). أما في الفترة الممتدة ما بين 1943-1947 فقد ساعدت مجموعة الأحداث سواء قبل نشوب الحرب العالمية الثانية أو خلالها على ازدياد التعاون مع النشاط الصهيوني وعلى اجتذاب مختلف الشرائح اليهودية للعمل الصهيوني رغم اختلاف توجهاتها وكان من أبرز تلك الأحداث فشل سلطات الحماية الفرنسية في سنّ قوانين تفصل اليهود تمام عن الحكم المغربي، ونشوب الثورات الفلسطينية ما بين عامي 1936-1939. ب- عمليات تهجير يهود المغرب إلى فلسطين في الفترة ما بين عامي 1947-1964، حيث يشير مؤلف الكتاب إلى أن عملية تهجير يهود المغرب إلى فلسطين استغرقت فترة زمنية طويلة نسبيا ففي البداية حظيت بزخم خلال الفترة 1947-1948 تحت تأثير الدافع العاطفي بقرب إعلان قيام دولة إسرائيل، ثم حدث انخفاض ملحوظ خلال العام 1953 بسبب الأزمة الاقتصادية التي عانت منها إسرائيل في تلك الفترة، لكن خلال عام 1956 وهو عام حصول المغرب على استقلالها حققت الهجرة أرقاما قياسية، ثم حدث انخفاض آخر خلال الفترة 1958-1960 بسبب رفض الحكومة المغربية السماح لليهود بالمغادرة، الأمر الذي دفع آلاف اليهود إلى اتباع أساليب سرية في الهجرة، وخلال أعوام 1961-1962 حقق معدل الهجرة ازديادا ملحوظا. يهود المغرب في إسرائيل كان وقع الصدمة على يهود المغرب حينما هاجروا لإسرائيل كبيرا للغاية، إذ إنهم يختلفون عن غيرهم من طوائف يهود الشرق التي هاجرت لإسرائيل في أنهم كانوا يتمتعون بأوضاع اقتصادية واجتماعية وثقافية جيدة للغاية في وطنهم الأم "المغرب". ومؤلف الكتاب تناول الأبعاد المختلفة لواقع يهود المغرب في إسرائيل سواء اجتماعيا أو سياسيا أو حتى ثقافيا. اجتماعيًا: وفقا لما ورد في الكتاب السنوي للجهاز المركزي للإحصاء في إسرائيل للعام 2006، فقد بلغ تعداد يهود المغرب في إسرائيل 493000 نسمة، إلا أن هذه الطائفة ذات الثقل العددي كانت لها تجربة مريرة مع المجتمع الإسرائيلي، فقد لاقت هذه الطائفة منذ البداية الكثير من الصعوبات في عملية استيعابها داخل المجتمع الإسرائيلي فقد كان الانتقال من الحلم "المسيحاني (التوارتي)" إلى الواقع الإسرائيلي أمرًا صعبًا للغاية بالنسبة لهم، حيث ترافق وصول مجموعات كبيرة من هذه الطائفة مع تطبيق الحكومة الإسرائيلية لسياسات "من السفينة إلى المستوطنة" الأمر الذي زاد من معاناة أفراد الطائفة وتسبب في كثير من المشاكل بالنسبة لهم، إضافة إلى تكاتف العديد من الأسباب التي أدت لمعاناتهم من مزيد من التمييز داخل إسرائيل ومنها أن هجرتهم كانت دون الصفوة السياسية أو الاقتصادية الأمر الذي أدى إلى ضعف أوضاعهم بشكل عام في داخل إسرائيل. سياسيا: لم يختلف الواقع السياسي ليهود المغرب داخل إسرائيل عن أقرانهم من بقية أبناء الطوائف السفارادية لكن ما ميز يهود المغرب في هذا الصدد هو الآراء المسبقة والتحايل الواضح الذي تم التعبير عنه بشكل قوي داخل المجتمع الإسرائيلي بأشكال متعددة، ومن أبرزها آراء زعماء سياسيين مثل "بن جوريون" وبعض الصحافيين الإسرائيليين مثل "آرييه جلبلوم"، إضافة إلى تزايد مظاهر احتجاج يهود المغرب والتي كان من أبرزها أحداث "وادي الصليب" في حيفا التي شهدت مظاهرات حاشدة لهم في مدينة حيفا يوم 8/7/1959 بعد أن أطلقت الشرطة الإسرائيلية النار على يهودي مغربي. وفي مقابل ذلك، تمكن يهود المغرب مع الوقت من فرض أنفسهم على الساحة الحزبية الإسرائيلية، وذلك عن طريق الأحزاب السفارادية والدينية والتي كان من أبرزها حزب "شاس" إضافة أيضا إلى الأحزاب العلمانية الكبرى فعلى سبيل المثال كان تمكّنُ "عمير بيرتس" اليهودي المغربي من الفوز بانتخابات حزب العمل على رئيسه غير المنتخب شمعون بيريز في نوفمبر 2005 بمثابة انقلاب، ليس في داخل الحزب الذي سيطر عليه الإشكناز منذ تأسيسه عام 1930 فقط، ولكن في الخريطة الحزبية الإسرائيلية ككل. ثقافيا: عانى يهود المغرب من محاولات اليهود الإشكناز فرض ثقافتهم وعاداتهم وموروثاتهم الحضارية، حيث استخدمت المؤسسة الإشكنازية الحاكمة العديد من الوسائل القمعية لسلخ يهود المغرب عن تراثهم وعالمهم الخاص بهم، وإجبارهم على تبني أنماط ثقافية غربية، حيث حاولت تزييف تاريخ يهود المغرب وقطعهم عن أصولهم السفادرية وانتهاج سياسات تمييز طائفي ضدهم، وإنكار أن يهود المغرب لديهم عناصر ثقافية أصيلة، إضافة إلى محاولة تحطيم الأطر الجماعية والأسرية التي تجمع يهود المغرب وهي الدعامة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع اليهودي المغربي. وقد قابل يهود المغرب هذا القمع الثقافي بمحاولات التأكيد على هويتهم الثقافية والعرقية ومحاولتهم الحفاظ على علاقات حميمة ببلد المنشأ "المغرب" ومحاولة الحفاظ على بعض العادات والسلوكيات المميزة للطائفة اليهودية المغربية وحرصهم الدءوب على اصطحاب الكثير من الأنماط الحياتية اليهودية المغربية معهم إلى إسرائيل. أحمد صلاح البهنسي باحث ومترجم عبري، متخصص في الشؤون الإسرائيلية الكتاب بعنوان: يهود المغرب، تاريخهم وعلاقتهم بالحركة الصهيونية، ومؤلّفه: د. أحمد الشحات هيكل، صدر 2007م في القاهرة عن مركز الدراسات الشرقية-جامعة القاهرة، ويضم 185 صفحة.
