منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، صيف 1999 ، دخل المغرب بداية " العهد الجديد" محملا بتراكمات الماضي و مستشرفا لمستقبل يتصالح فيه الأبناء بالوطن، و محملا بانتظارات و آمال بمغرب أكثر انفتاح انطلق بإطلاق عدد كبير من المعتقلين السياسيين،و بتشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة،ثم عودة عدد من المنفيين السياسيين. وبذلك عرف المشهد الحقوقي مسارا جديدا تعزز بإقرار الحريات و حقوق الإنسان في الوثيقة الدستورية لسنة 2011 و تكريس استقلالية المؤسسات، في تفاعل مع حراك الشارع المغربي بقيادة حركة 20 فبراير. على مدى 16 من الحكم، حقوقيون يقدمون وفق أرائهم و تجاربهم حصيلة ما تحقق من مكاسب حقوقية وما تم" الارتداد عنه" 16سنة انجز فيها الملك محمد السادس تركته في انتهاكات حقوق الإنسان أكدت خديجة الرياضي في حديثها مع " لكم " على أن الدولة المغربية و بعد كل هاته السنوات لم تتغير سلوكاتها تجاه ملف الحريات و قضايا الإنسان و ظلت نوايا القطع مع انتهاكات الماضي حبيسة النوايا، مع انفراج طفيف لا تلبث أن تتراجع عنه و الارتداد حتى على المكاسب السابقة و المحققة في فترة حكم الحسن الثاني، حسب السياقات والتي يمكن حصرها في ثلاث مراحل. مرحلة أولى انطلقت بتشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة بعد تنظيم المناظرة الوطنية لانتهاكات حقوق الإنسان من طرف الحركة الحقوقية، التي ظلت تتعامل الدولة مع نتائجها بمنطق القديم الجديد و توظيفها للدعاية لدى الرأي العام الدولي حتى قبل التعريف بها لدى الرأي العام الوطني. وبعد مرور سنوات دون تنفيذ تلك التوصيات اتضح للجميع غياب الإرادة السياسية لدى الدولة المغربية للإيفاء بوعودها رغم أن تلك التوصيات هي نتاج، بالأساس، لمقاربتها الخاصة. وهو ما تم التعرض له في تقرير منظمة العفو الدولية الحامل لعنوان الوعد الضائع الصادر سنة 2010 و كل هذا يعكس حدود التوظيف الذي راهنت عليه الدولة القائم على رسم صورة مغلوطة لربح العلاقات مع الغرب بدل توطيد العلاقات الداخلية. غياب الإرادة الحقة لتجاوز انتهاكات الماضي عززه التقرير النهائي للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان حول متابعة تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة الذي صدرسنة 2008 مسجلا تراجعا واضحا عن التوصيات نفسها ومؤكدا تخلي الدولة بشكل رسمي عن تفعيل تلك التوصيات بعد 4 سنوات من التماطل والتعتيم. ال10 سنوات الأولى لحكم محمد السادس ردة حقوقية أسوء من ال10 سنوات الأخيرة لحكم الحسن الثاني ومن ضمن التوصيات التي لم يتم الشروع في إعمالها تلك المتعلقة بوضع استراتيجية لعدم الإفلات من العقاب بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مما شجع على استمرار تلك الانتهاكات و تناميها خاصة بعد أحداث 2003 و هي المرحلة الثانية حيث اصطدمت النوايا و المكاسب الجزئية و الهشة التي تحققت بأول امتحان لها وهو ما عرف بمحاربة الإرهاب ،حيث تم ملء السجون بالمعتقلين، وتم الرجوع لممارسات الماضي ولانتهاكات جسيمة شبيهة بسنوات الرصاص، وتلا ذلك قمع الصحافيين والحقوقيين الذين فضحوا تلك التراجعات و عودة لعب القضاء نفس الدور كآلية للقمع والاستبداد و تبييض انتهاكات الدولة في مجالات حقوق الإنسان حيث تم الرجوع لممارسات الماضي ولانتهاكات جسيمة شبيهة بسنوات الرصاص، و بروز دور المخزن بشكل اكبر و أصبحنا أمام ما سمي آنذاك ب "تونسة المغرب" كإشارة للنظام البوليسي بتونس،بذريعة محاربة الإسلاميين، كما أن تدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين وانتهاك حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية أدى إلى تنامي الحركات الاحتجاجية فووجهت بالقمع والعنف بدورها مما جعلنا نعيش خلال ال10 سنوات الأولى لحكم محمد السادس ردة حقوقية أسوء من ال10 سنوات الأخيرة لحكم الحسن الثاني. و بذلك يكون حكم محمد السادسبدل العمل على تصفية تركة والده بدأ في إنجاز تركته في انتهاكات حقوق الإنسان. استمر هذا المنحى التراجعي عن الإنجازات التي تم تحقيقها إلى غاية سنة 2011 و هي المرحلة الثالثة التي ستعود فيها الدولة إلى نهج سياسة الانفتاح و الحريات متأثرة بالحراك الشعبي المغربي الذي قادته حركة 20 فبراير والتي رفعت شعارات سياسية و حقوقية في مختلف أقاليم المغرب أسفر عنه التعديل الدستوري الذي سبق أن وعدت به هيئة الإنصاف و المصالحة سنوات قبل ذلك ولم ينجز، و حقق الحراك تغييرا في نظرة المواطن للسياسة و للمجتمع نفسه، و أصبح أكثر وعيا وإدراكا لحقوقه، كما تم تأسيس تنظيمات و حركات سياسية جديدة بعد 20 فبراير وهم ما كان يبشر بتوسيع هامش الحريات و النهوض بحقوق الإنسان بشكل كلي خاصة بعد دسترتها و هو مطلب حقوقي لطالما طالبت به الحركة الحقوقية ، غير أن الأمل ما لبث أن تراجع توهجه بعد اتضاح أن الوثيقة الدستور لم تكن إلا وسيلة للتفاوض و مناورة سياسية للالتفاف على مطالب الحركة و ربح الوقت و ليست إرادة صادقة لنقل المغرب إلى مستوى احترام و عوده و التزاماته، كما تبين أن الوثيقة الدستورية في الحقيقة ليست إلا وعود دستور لأنها تتضكم العديد من مشاريع قوانين تنظيمية يتم التراجع عن مضامينها الجيدة كلما تقدم الزمن عن فبراير 2011.كما استغلت الدولة السياق الإقليمي المتسم بالعنف و التراجع عن مطالب الثورة لتخويف الشعب المغربي و التراجع عن مكاسبه تراجع أذكاه تصريح وزير الداخلية بقبة البرلمان يوم 15 يوليوز 2014، التي هاجم فيها جمعيات حقوقية اتهمها ب "العمالة و خدمة أجندات خارجية وبالإضرار بالمصالح الوطنية للبلد و أنها تعرقل جهود أجهزة الأمن بعملها في مكافحة الإرهاب". هذا التصريح الذي تواترت بعده مضايقات في حق نشطاء المجتمع المدني و خاصة الحقوقيين،و اللجوء لأساليب لم تستخدم حتى في عهد الحسن الثاني كاقتحام مقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان،و تسجيل تراجعات كبيرة طالت جميع مجالات الحرية العامة التي ينص عليها الدستور وتضمنها المواثيق الدولية مثل حق التنظيم وحق الاجتماع في الأماكن العمومية والخاصة. ممارسات يتم التغطية عليها باعتماد سياسة الكيل بمكيالين، إذ عملت الدولة على خلق تعددية شكلية مغلوطة في عهد محمد السادس تعكس نفس الصوت، و انفتاح مزيف، لكن ما إن تعرض الحقائق و تجهر الأصوات المناقضة للدولة حتى تتعرض للقمع باستعمال أساليب جديدة للقمع يعتقد النظام أنهاغير مكلفة سياسيا، مثل الحصار و التشويه الإعلامي،واستعمال البلطجة والبلطجية وتعداد المنابر الإعلامية وفق سياسة ممنهجة قائمة على قمع الإعلام الحر بواسطة الإعلام، أو توجيه تهم الحق العام في حق النشطاء. ثم التضييق على جمعيات المجتمع المدني ومنعها من تنظيم أنشطتها و مصادرة حقها في التجمع و التنظيم. وفي ظل ضعف المقاومة وتشتت الحركة التقدمية يكون النظام الآن في غنى عن أساليب و أجهزة نظام الحسن الثاني، لكن لا يعني ذلك أنه لا يمكن أن يستخدمها،بل قد يلجأ إليها إذا ما أصبحت مصالحه مهددة كما وقع فترة الحراك المغربي. وبعد التراجعات الأخيرة التي عرفتها الحقوق والحريات رجعت التقارير السوداء عن وضعية حقوق الإنسان بالمغرب والرسائل الشديدة اللهجة الموجهة للملك والحكومة لم نشهدها منذ عهد الحسن الثاني كالتي صدرت عن الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان والتقرير حول التعذيب الصادر عن منظمة العفو الدولية وتقرير الشبكة الأورمتوسطية لحقوق الإنسان ورسالة بعض المثقفين والشخصيات العالمية في قضية علي المرابط... وغيرها لذلك فإن النظام المغربي في عهد محمد السادس استمرار لنظام الحسن الثاني، و إن اختلفت الأساليب، و ما زال واقع الحريات و الحقوق متدبدبا بين انفراج و تضييق خاضعا للسياقات و الظروف الوطنية و الدولية، ومنتعشا من الشتات الذي تعرفه الحركة الديمقراطية و عدم وضوحها في مواجهة المخزن إذ لا ديمقراطية بوجوده. تغيير من داخل نسق السلطة من جهته، اعتبر أحمد الهايج رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ، أنه خلال 16 سنة من حكم الملك محمد السادس، لم يتحقق، من حيث الجوهر، الشيء الكثير، إذا ما قورن بحجم الانتظارات ومقدار التطلعات والرهانات، التي حفلت بها العشريتين الأولى والثانية من الألفية الثالثة، لأن المغرب أخفق لأكثر من مرة في انجاز متطلبات الانتقال الديمقراطي الحقيقي، ووضع الأسس الفعلية الضرورية لبناء دولة الحق والقانون. المغرب أخفق لأكثر من مرة في انجاز متطلبات الانتقال الديمقراطي الحقيقي فعلى الرغم من المكتسبات الجزئية العديدة التي تم الحصول عليها؛من جهة، بفعل طبيعة الظرفية المحيطة بالمرحلة، الموسومة بانتقال الحكم، وما يقتضيه ذلك من تأمين شروط الاستقرار وبعث للآمال في النفوس ببزوغ عهد جديد؛ ومن جهة أخرى، نتيجة دينامية الحركة الحقوقية والديمقراطية؛فإن المغرب سرعان ما سقط في انتظارية قاتلة، خصوصا عقب انتهاء عمل "هيئة الإنصاف والمصالحة"، دون أن تتحقق العدالة الانتقالية المنشودة؛لم ينتشله منها سوى انبثاق حركة 20 فبراير، المدفوعة بزخم ما أطلق عليه اسم "الربيع الديمقراطي"، وما أملاه انطلاق هذه الحركة من تغييرات دستورية ومؤسساتية،فتحت الباب أمام المغرب للخروج من انسداد آفاق لم تعد واعدة. ليعود المغرب ويغرق من جديد، نهاية 2013، في مرحلة من الجزر، عنوانها العريض العودة الواضحة لمنطق السلطوية والتحكم، خارج قواعد القانون والمشروعية، وبالاعتماد على الآليات التقليدية للمخزن، التي لا تخضع لأية مراقبة أو محاسبة. وأردف الهايج أنه لا يمكن الحديث عن معنى "للانتقال داخل الاستمرارية"، إلا إذا فهمنا أن الاستمرارية هي الغاية والمبدأ الذي يحمل عليه كل انتقال؛ وهو أمر متناقض يمكن تفسيره بأن أي تغيير ينبغي ألا يقود إلى المس بالنسق العام للسلطة وبكيفية ممارستها واحتكارها، لا توزيعها كما هو معمول به في الأنظمة الديمقراطية، حيث توجد سلط تراقب بعضها البعض، وحيث ترتبط المسؤولية بالمراقبة والمساءلة. لذا، فإن مطالب التغيير التي رفعتها حركة 20 فبراير مثلا، تم الالتفاف عليها وإفراغها من محتواها الحقيقي؛ فجاءت المقتضيات الدستورية فضفاضة وملغومة، وظلت المؤسسات التشريعية والتنفيذية مشلولة، لا يسمع لها صوت، حينما يتعلق الأمر بالقرارات المصيرية وبالاختيارات الكبرى، وعندما تنتهك السلطات حقوق وحريات الأفراد والجماعات؛ فيما يجري التضييق على القضاء، الساعي إلى انتزاع استقلاليته، ويستمر استغلاله في الانتقام والاقتصاص من المخالفين، والمعارضين ومختلف النشطاء؛ بينما تحولت المؤسسات الدستورية والوسيطة، إلى مجرد إطارات فارغة، تقدم خدمات للدولة على حساب المواطنين والمواطنات، وغير قادرة على لعب الأدوار المنوطة بها في مجال حماية الحقوق والحريات الأساسية. مما يجعلنا أمام انفتاح صوري، انفتاح مفروض على المغرب بسبب وضعه الجغرافي والتاريخي والحضاري، إلا أن الاختيارات السياسية للحاكمين فيه، جعلت من هذا الانفتاح وسيلة وأداة للاستبداد بالسلطة والثروة والاستئثار بهما، مع إشراك النخب في تقاسم بعض أشكال ممارستها. لذلك فإنه مادام مجال السلطة والثروة مغلقا أمام مراقبة وتدخل الإرادة العامة للمواطنين والمواطنات، فإنه لا ينتظر أن يحصل أي تحول جوهري، من جهة الجهة المحتكرة للسلطة، بينما يظل الرهان قائما على دينامية الحركة الديمقراطية وقدراتها على الفعل والتأثير. والحصيلة من الناحية الواقعية محبطة ومثيرة للقلق؛ نظرا للارتدادات والتراجعات، التي ما فتئت تعرفها الحقوق والحريات؛ إذ أصبحنا نشهد انتهاكا متزايدا لسيادة القانون من قبل السلطات، واعتداء متواصلا على الحق في التنظيم والتجمع، وعلى حرية الرأي والتعبير والصحافة وباقي الحريات الأخرى. هذا في الوقت الذي لم يتوقف فيه مسلسل الزحف على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولم تحرز فيه الحقوق الثقافية وحقوق المرأة والطفل وذوي الإعاقة والمهاجرين تحسنا ملحوظا، بل انتكاسا تغذيه الاختيارات الكارثية المنتهجة من طرف الحكومة الحالية، وتعكسه المؤشرات المتدنية التي تحملها التقارير الوطنية والدولية. مصطفى المانوزي: ازدواجية المعايير داخل الدولة رئيس منتدى الحقيقة و الإنصاف اعتبر في تقييمه لواقع الحقوق و الحريات خلال الستة عشر سنة من حكم الملك محمد السادس، أن المفهوم الجديد للسلطة لا زال يتعثر بحكم ازدواجية المعايير داخل الدولة، فالملكية التنفيذية تتكرس يوما عن يوم في ظل عدم تحمل رئيس الحكومة لمسؤولياته كاملة في العلاقة مع ملفات حقوق الإنسان والحريات، وعدم انخراطه، هو وحلفاؤه في التكتل الأغلبي، ضمن الصيرورة الحقوقية العالمية سواء في المواثيق أو الممارسة الاتفاقية الدولية العملية ، مما يطرح سؤال القيمة المضافة في وجود سلطة تنفيذية برأسين الأولى حقيقية تمارس صلاحيتها الدستورية، وكذا تلك التي تنازل عنها رئيس الحكومة صراحة وضمنا، بالقول بأن الملك هو الذي يحكم فعليا، رغم أن التعويل كان على هذه الرأس الثانية التي خول لها الدستور بعض الصلاحيات لم تكن في ظل دستور 1962 / 1996 كتمرين وتجريب في اتجاه اختبار نواة الملكية فالملكية التنفيذية تتكرس يوما عن يوم الدستورية، مما يقتضي معه الأمر التفكير في ضرورة ربط الإصلاح المؤسساتي والتشريعي والسياسي بمفهوم جديد للعدل، خاصة في ظل غياب ضمانات حقيقية لعدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فرغم المجهود المبذول على مستوى إعلان النوايا وتقليص تدخل الدولة في العلاقة مع منهجية الانتهاكات خاصة في مجال الحراسة النظرية والاعتقال التعسفي والتعذيب، فإن عدم مساءلة الموظفين المكلفين بتنفيذ القانون، ولو من باب تحميلهم المسؤولية الشخصية، يؤشر لاحتمال العودة القهقرى إلى الماضي الأسود. فصحيح أنه لم تسجل حالات الاختفاء القسري والإعدام خارج نطاق القانون، لكن عدم التجريم الفعلي لحالات الإعتقال التعسفي والتعذيب وسوء المعاملة والتعنيف داخل مخافر الأمن ، وبانعدام وسائل الحماية والوقاية والرقابة ، يطرح افتراض وجود هاته الانتهاكات أمام وجود مسؤولية مفترضة ، لذلك حان الوقت لكي تجهز المخافر بوسائل الرقابة ، اخراج الآلية المستقلة للوقاية من التعذيب للوجود ، وتجريم محاكمة سلوكات « الجلادين المفترضين » الذين يحرجون الدولة ويورطونها في إطار المسؤولية السياسية حول الشرعنة الضمنية لهذه الجرائم ويضربون عرض الحائط كل النوايا ولو كانت حسنة ، و بنفس القدر على الدولة أن تلتزم بتنفيذ كافة تعهداتها سواء تلك المتعلقة بتوصيات هيأة الإنصاف والمصالحة أو تلك الواردة حرفيا في صك الحقوق والحريات موضوع الباب الثاني من الدستور ، فلا حكامة أمنية بدون إقرار فعلي للأمن القضائي المؤسس على ضرورة تحلي منظومة العدالة بالاستقلالية عن السلطة التنفيذية وباقي السلط وعلى الخصوص سلطة المال ، بغض النظر عن تمثل القضاء لصفة وسمة السلطة . حان الوقت لكي تجهز المخافر بوسائل الرقابة هذا التماهي في تحمل المسؤوليات، يجعل القرار الأمني والقرار السياسي المرتكز إليه لا يعرف مصدره،و هنا لا ينبغي أن نلوم « الدولة العميقة » بل علينا أن نحاكم الأحزاب السياسية التي تعتبر أن الأمن ينبغي أن يظل فوق السياسي وداخل المجال المحفوظ للملك، والحال أن الحكومة بتنازلاتها تخلت عن المسؤولية الاجتماعية للدولة وتخلت عن البعد الحقوقي والاجتماعي في السياسات العمومية ، ليطرح السؤال حول جدوى الحكومة وبالأحرى انتخابها، خاصة هذه الأخيرة التي تم تعيينها لامتصاص النقمة والالتفاف على الحراك الاجتماعي والمطلبي. لذاك أصبح لزاما، إجبار الدولة وحكومتها على الانفتاح وتنفيذ الالتزامات الصادرة عنهما، كل من موقعه الدستوري، أو على الأقل النضال من أجل تحصين المكتسبات والحيلولة دون الإجهاز عليها، خاصة في ظل سياق دولي وإقليمي يتسم بتصاعد المد المحافظ وتدهور وهشاشة بنيات المقاومة والمعارضة المؤسساتية حتى، لذلك فالدور دور الأحزاب السياسية ذات الصلة بصناعة القرار الأمني والسياسي، وهذا لن يتأتي دون رد الاعتبار لمطلب استكمال التحرر الاقتصادي والثقافي، مع استحضار سؤال مهم جدا حول جدوى الديمقراطية التمثيلية في ظل وطن لازال الوزراء وحتى بعض القضاة يعتبرون أنفسهم مجرد موظفين لدى الدولة، وحول أهلية قوى المجتمع المدني لتحقيق « أحلام » الديمقراطية التشاركية. لم يتم القطع بشكل نهائي مع ممارسات الماضي و بخصوص واقع الحريات و الحقوق بعد دستور 2011 ، لا يتفق مصطفى المانوزي مع الحكم القائل بتراجعها،لأن التراجع بالنسبة له يعني أن الحقوق والحريات كانت في مستوى معين وتراجعت، و هو ما لم يكن، لذلك يفضل القول بأن الحكامة والعقلانية لم تنضج بالقدر الكافي وبأنه لم يتم القطع بشكل نهائي مع ممارسات الماضي، وان كانت الانتهاكات لم تعد بنفس الخطورة والجسامة كما كانت في العهد ما قبل الحالي، وما يؤرق أكثر كون حقوق الإنسان في وضع متردي جدا خاصة على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والتي في تماس مباشر مع الكرامة والحق في الأمن والحياة ، وهو مجال لا تهتم به الهيئات الحقوقية بنفس القدر الذي تهتم فيه بالحقوق السياسية والمدنية، بصرف النظر عن عدم فسخ النقابات لعقد السلم الاجتماعي، وما يعوزنا ليس الحق في التعبير ولكن الحق في التقدير والتقرير، تقدير المطالب بكرامة وتقرير المصير، فقمع كل ما هو تفكير متنور وكل تعبير سلمي لدليل واضح ينذر بعواقب وخيمة، فالعنف لم يعد رمزيا بل ماديا يستهدف قيم التقدم ومشروع الديمقراطية الذي تمنى الجميع في بداية هذا العهد على أنه خيار لا رجعة فيه، وهنا أعيد ما قلت سالفا بأننا لم نحقق القطيعة وما بالك أن نحقق التغيير.