في ضوء التصعيد العسكري الأخير بين إسرائيل وإيران، تتكشف مرة أخرى معالم مشهد دولي بات رهينًا لسياسات الأمر الواقع، بعيدا عن منطق القانون الدولي وأحكامه الملزمة. فالعمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل داخل أراضي دول ذات سيادة، لا يمكن قراءتها في معزل عن الهيمنة الأمريكية على القرار الدولي، والتحالفات المصلحية التي تجعل من إسرائيل أداة وظيفية تخدم أجندات جيوسياسية تمتد من واشنطن إلى الخليج. أولًا: غياب الشرعية الدولية للضربات العسكرية وفقًا لميثاق الأممالمتحدة، وتحديدًا في المادة (2/4)، يُحظر على الدول استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية، باستثناء حالتي الدفاع الشرعي المنصوص عليه في المادة 51، أو بترخيص صريح من مجلس الأمن. وبالرجوع إلى الوقائع، فإن الهجمات الإسرائيلية على مواقع داخل إيران أو على مصالح إيرانية خارج أراضيها، تتم دون تفويض أممي، ودون توافر شروط "الدفاع الشرعي الآني"، مما يجعلها، قانونًا، أعمال عدوان تستوجب المساءلة. ثانيًا: الدور الأمريكي كشريك لا كمجرد حليف من الناحية العملية، يستحيل تصور تنفيذ إسرائيل لأي عملية عسكرية كبرى ضد أهداف إيرانية دون وجود غرفة عمليات مشتركة مع الولاياتالمتحدة. فالدعم العسكري واللوجستي والتمويلي الذي تتلقاه إسرائيل من واشنطن يتجاوز حدود الشراكة الاستراتيجية إلى ما يشبه التبعية الوظيفية المتبادلة. فإسرائيل تمثل، في الشرق الأوسط، الذراع العسكرية الأكثر فاعلية لحماية المصالح الأمريكية، وتنفيذ ما لا تستطيع الولاياتالمتحدة القيام به مباشرة. ولعل التزامن بين جولة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى الخليج، وصفقات التسلح الضخمة التي عقدت مع الأنظمة الخليجية، ثم اندلاع الضربات الإسرائيلية، يكشف عن هندسة أمريكية دقيقة للمشهد الإقليمي. ثالثًا: استغلال الهواجس الخليجية من إيران تُوظف الولاياتالمتحدة وإسرائيل المخاوف الخليجية من المشروع النووي الإيراني ومن النفوذ الإيراني في كل من اليمن ولبنان والعراق، لتبرير تسليح المنطقة وتحويلها إلى سوق مفتوحة للسلاح الأمريكي. إن هذه المخاوف المشروعة لا يجب أن تكون غطاءً لشرعنة انتهاك القانون الدولي، ولا ذريعة لتصفية حسابات استراتيجية على حساب شعوب المنطقة واستقرارها. رابعًا: ازدواجية المعايير وتواطؤ الحلفاء الأوروبيين إن مواقف فرنسا وبريطانيا – بوصفهما حليفين أطلسيين – في دعم إسرائيل وإدانة إيران، تُظهر بجلاء مدى ازدواجية المعايير في تطبيق القانون الدولي. فبينما تُتهم إيران بالعدوان والخطر النووي، لا تُوجَّه أي مساءلة لإسرائيل، رغم سجلها الحافل بانتهاك القرارات الأممية، وامتلاكها لترسانة نووية غير خاضعة لأي رقابة دولية. خامسًا: تصدير الأزمات الداخلية عبر الحروب الخارجية لا يمكن إغفال أن بعض الضربات العسكرية الإسرائيلية تتزامن مع أزمات داخلية خطيرة في الولاياتالمتحدة، لاسيما التوترات الاجتماعية والعرقية، والاحتقان السياسي. وهو ما يطرح فرضية تصدير الأزمات عبر خلق بؤر توتر في الخارج، حيث تُستخدم إيران كعدو وظيفي، وتُوظف إسرائيل كأداة عسكرية، لتوجيه الرأي العام الأميركي بعيدا عن الداخل المأزوم. ما نشهده اليوم من عسكرة مفرطة في المنطقة، وتآكل مستمر لمبادئ السيادة وعدم التدخل، ليس سوى تجلٍ خطير لانهيار منظومة القانون الدولي أمام منطق القوة والمصلحة. إن إسرائيل، بدعم مطلق من الولاياتالمتحدة وبعض الحلفاء العرب والغربيين، تمارس سياسة فرض الوقائع على الأرض، متجاوزة بذلك كل المعايير القانونية والإنسانية. وأمام هذا "التوحش الدولي" المُقنن، لا بد من استعادة صوت القانون، وتفعيل آليات المحاسبة الدولية، حفاظًا على الحد الأدنى من النظام العالمي القائم على الشرعية، لا على الفوضى الموجهة.