كشفت دراسة ميدانية حديثة عن مؤشرات مثيرة للقلق بشأن جودة المياه الجوفية في سهل أنكاد، الواقع في الجهة الشرقية للمغرب ويشمل مدينة وجدة وضواحيها، بعد تحليل شامل لعينة من 90 بئرا خلال موسمي الرطوبة والجفاف لسنة 2023. استنادا إلى الدراسة العلمية المنشورة في مجلة "ساينتيفيك ريبورتس" التابعة لمجموعة "نيتشر" بتاريخ 16 يوليوز 2025، والتي قادها فريق بحثي من جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب بالتعاون مع مؤسسات بحثية في أيرلندا، السعودية، والسودان، يتضح أن جودة المياه الجوفية في منطقة أنكاد الواقعة في جهة الشرق، تعاني من تحديات كبيرة على المستويين الكيميائي والميكروبيولوجي، وهي منطقة شبه قاحلة ذات مناخ متوسطي جاف، وتشكل المياه الجوفية فيها المصدر الرئيسي للمياه، خاصة لسكان القرى غير المرتبطين بشبكات توزيع الماء.
وشملت في هذه الدراسة حملتان لجمع العينات؛ الأولى في ماي (الموسم الرطب) والثانية في أكتوبر (الموسم الجاف)، حيث تم جمع 45 عينة في كل حملة من آبار منتشرة عبر السهل، الذي تبلغ مساحته نحو 460 كيلومترا مربعا ويقطنه أكثر من 550 ألف نسمة. وأظهرت التحاليل الفيزيائية والكيميائية أن معظم الأيونات المدروسة تجاوزت الحدود الموصى بها من قبل منظمة الصحة العالمية، بما في ذلك تركيزات عالية من المواد الصلبة الذائبة الكلية والصوديوم والكلوريدات، خصوصا في شمال شرق المنطقة، إضافة إلى مستويات مرتفعة من النترات في مناطق جنوبية وحول مدينة وجدة. وعلى الصعيد الميكروبيولوجي، كشفت التحاليل، التي شملت 28 عينة، عن تلوث بكتيري واسع، إذ احتوت غالبية العينات على القولونيات الكلية والبرازية والبكتيريا المعوية العقدية، مع نسب أعلى خلال موسم الجفاف، ما يجعل معظم المياه الجوفية غير صالحة للاستهلاك البشري وفق المعايير الوطنية والدولية. كما ظهرت بكتيريا الكبريتات المختزلة في بعض العينات. ويرجع الباحثون هذه النتائج إلى غياب شبكات الصرف الصحي في بعض المناطق، وتسرب مياه الحفر الامتصاصية، إلى جانب النشاط المكثف لتربية الماشية. خلصت التحاليل الفيزيائية والكيميائية إلى أن أغلب الأيونات المقاسة تتجاوز الحدود الموصى بها من طرف منظمة الصحة العالمية، إذ تجاوزت نسبة المواد الصلبة الذائبة الكلية 1000 ملغ/لتر في أكثر من 86 بالمائة من العينات، ما يشير إلى ملوحة مرتفعة وتعدين قوي للمياه. كما رصدت تركيزات عالية للصوديوم والكلوريد والبكربونات، خاصة في شمال وشرق المنطقة، فيما سجلت مستويات مرتفعة من النترات في نحو نصف العينات، خصوصا في الجنوب وحول مدينة وجدة، وهو ما يربطه الباحثون بالاستخدام المكثف للأسمدة الزراعية وتسرب مياه الصرف الصحي. وأظهرت خريطة توزيع المؤشر العالمي لتلوث المياه الجوفية أن أكثر من 80 بالمائة من الآبار تقع في فئة التلوث الطفيف أو المنعدم، لكن مناطق محدودة في الشمال الشرقي شهدت تلوثا متوسطا إلى مرتفع، مع ارتفاع طفيف في القيم خلال موسم الجفاف. وأبرزت النتائج أن أيوني الصوديوم والكلوريد هما العاملان الأكثر مساهمة في رفع المؤشر، ما يعكس دور إذابة الصخور التبخيرية والتأثيرات البشرية في تغير كيمياء المياه. وكشف التحليل الميكروبيولوجي عن تلوث بكتيري واسع النطاق، حيث تجاوزت غالبية العينات الحدود الصحية لكل من القولونيات الكلية والبرازية والمعويات المعوية، بنسبة وصلت إلى 96 بالمائة في موسم الجفاف و93 بالمائة في الموسم الرطب بالنسبة للقولونيات الكلية. بينما لم يتم رصد بكتيريا الإشريكية القولونية في جميع العينات، سجلت المعويات المعوية في أكثر من نصف الآبار، وأحيانا بتركيزات تصل إلى 21 وحدة تكوين مستعمرة/100 مل. وأشار الباحثون إلى أن هذا التلوث يعكس تسرب الفضلات الحيوانية ومياه الصرف غير المعالجة إلى طبقات المياه الجوفية، خاصة مع غياب شبكات الصرف الصحي في بعض المناطق الريفية. كما لوحظ أن مستويات التلوث البكتيري تزداد في موسم الجفاف بسبب قلة الموارد المائية وانخفاض قدرة التخفيف الطبيعي، وهي ظاهرة تم تسجيلها أيضا في مناطق شبه جافة أخرى. وتقارن الدراسة نتائج سهل أنكاد بمناطق مشابهة في الهند والمغرب، حيث أظهرت القيم القصوى للمؤشر تقاربا مع مناطق مثل حوض الغانج وسهل الغرب، لكنها أقل بكثير من مناطق تعاني تلوثا حادا مثل جبال بوكويا أو مدينة سيدي سليمان. بالتالي، يوحي هذا التشابه بأن الضغوط البيئية المسببة للتلوث في أنكاد هي نموذج لما يحدث في أنظمة مياه جوفية شبه قاحلة أخرى، خاصة في ظل الأنشطة الزراعية المكثفة والتوسع العمراني والصناعي. وتحذر الدراسة من أن استمرار هذه المؤشرات من دون تدخل قد يفاقم أزمة المياه في المنطقة، خاصة أن سهل أنكاد يشكل مصدرا أساسيا لتزويد مدينة وجدة بالمياه، ويعتمد عليه سكان القرى غير المرتبطة بالشبكة العامة بشكل كامل. ولهذا أوصى الباحثون بضرورة معالجة المياه قبل استخدامها للشرب، وتبني ممارسات زراعية أكثر استدامة تقلل من الاعتماد على الأسمدة الكيماوية، وتحسين البنية التحتية للصرف الصحي، إضافة إلى اعتماد أنظمة مراقبة دورية لمستويات الملوحة والتلوث البكتيري. كما شددوا على أهمية توعية الفلاحين ومديري الموارد المائية بخطورة الوضع، وتشجيع اعتماد تقنيات ري حديثة تحد من استنزاف وتلوث المياه الجوفية. وتخلص الدراسة إلى أن البيانات التي وفرتها تشكل أداة حيوية لصناع القرار والسلطات المحلية لتحديد مصادر المياه الآمنة ووضع خطط طويلة المدى للحفاظ على استدامة الموارد المائية في سهل أنكاد، خاصة في ظل الضغوط البيئية والمناخية التي تهدد مستقبل الأمن المائي في المنطقة.