هذه توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    لا تيتي لا حب لملوك: اتحاد العاصمة دارو ريوسهم فالكابرانات وتقصاو حتى من كأس الجزائر    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    مكافأة مليون سنتيم لمن يعثر عليه.. هذه معطيات جديدة عن حيوان غريب ظهر في غابة    سانشيز: أفكر في إمكانية تقديم الاستقالة بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجتي بتهمة استغلال النفوذ والفساد    هادي خبار زينة.. أسماء المدير مخرجة "كذب أبيض" فلجنة تحكيم مهرجان كان العالمي    قميصُ بركان    طقس الخميس.. أجواء حارة وقطرات مطرية بهذه المناطق    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    اللجنة الجهوية للتنمية البشرية بالشمال تصادق على برنامج عمل يضم 394 مشروعا برسم سنة 2024    تسريب فيديوهات لتصفية حسابات بين بارونات بتطوان    الجزائر تتوصل رسميا بقرار خسارة مباراة بركان و"الكاف" يهدد بعقوبات إضافية    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    أخنوش مقدما الحصيلة المرحلية: إجراءات الحكومة هدفها مناعة الأسرة التي هي "النواة الصلبة لكل التدخلات"    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بنعيسى : النموذج الحضاري الذي ساد في الأندلس خلال الوجود العربي استثنائي بكل المقاييس
نشر في زابريس يوم 01 - 11 - 2009

زابريس_لندن/خاص
ألقى محمد بنعيسى وزير الخارجية المغربي السابق وأمين عام مؤسسة منتدى أصيلة محاضرة، بدعوة من النادي العربي في بريطانيا عنوانها "التفاعل الحضاري بين المغرب والأندلس أصيلة قاسماً مشتركاً"
ألقى محمد بنعيسى وزير الخارجية المغربي السابق وأمين عام مؤسسة منتدى أصيلة محاضرة، بدعوة من النادي العربي في بريطانيا عنوانها "التفاعل الحضاري بين المغرب والأندلس أصيلة قاسماً مشتركاً"
أود بداية أن أعرب عن غبطتي بالمشاركة في هذه التظاهرة الثقافية المتنوعة، التي يرعاها وينظمها اتحاد المدارس العربية في بريطانيا، ذو الجهود التربوية المشكورة والموصولة في سبيل النهوض بالناشئة والشباب العرب المستقرين في بريطانيا.
أعرب كذلك عن شكري الخالص، للقائمين على المؤسسة، راعية التظاهرة، الذين تلطفوا بدعوتي للمشاركة في برنامج فعالياتها. وقد اقترحوا علي الحديث في موضوع، أفترض أنه يندرج ضمن صميم اهتمامات اتحاد المدارس العربية، وينسجم مع توجهاته. ويبدو لي أن الاتحاد يهتدي في أنشطته الثقافية والتربوية بنبراس الفترات المضيئة، وما أكثرها، في التاريخ العربي الإسلامي، إذا ما أحسننا استثمارها وقراءتها والبناء عليها.
ولعل من بين أزهى العهود وأغناها، بإجماع كثير من الدارسين والمؤرخين الموضوعيين، فترة الوجود العربي في الأندلس. حضور امتد طيلة ما يقرب من ثمانية قرون، بحساب الزمن العادي، بما يرمز إليه من تفاعل وتداخل وتمازج حضاري، وأخذ وعطاء متبادلين بين الثقافات الوافدة من الشرق العربي بمكوناتها وخصوصياتها، وتلك التي وجدها الفاتحون العرب، ليس فوق الرقعة الأندلسية وحدها، بل المنتشرة أيضا في أطراف شبه الجزيرة الأيبيرية المستظلة آنذاك بلواء الحضارة اللاتينية.
لا أصنف نفسي ضمن خانة المؤرخين، ما يوجب علي لفتَ الانتباه، منذ البداية، إلى أن مساهمتي في هذا المحفل الثقافي البهيج، لا تنتسب إلى المعالجة التاريخية الأكاديمية، كما يمارسها المختصون، إلا من باب الإشارات الموضحة وإيراد الأمثلة الدالة والشواهد المؤيدة للفكرة التي سأحاول بسطها أمامكم. وفي نظري، فإن النموذج الحضاري الذي تكوَّن وساد في الأندلس خلال الوجود العربي بها، استثنائي بكل المقاييس التاريخية، قلما يوجد له نظير إلا فيما نَدر، في تاريخ المجتمعات الأخرى، بما فيها الإسلامية؛ إنْ في مداه الزمني، أو في الأثر العميق الذي أحدثه ذلك النموذج في المنظومات الحضارية القائمة آنذاك، سواء المعاصرةِ للأندلس الإسلامية أو المجاورةِ لها، وكذلك المنظومات اللاحقة التي نهضت، فيما بعد ، في أجزاء من أوروبا ذاتها.
وما تجدر الإشارة إليه في هذا الباب، أن تطور المعارف البشرية، ووفرة الأبحاث الأساسية المتخصصة في تاريخ الحضارات، المنجزة في العقود الأخيرة، والتي تناولت "حالة الأندلس" أكدت في مجملها فَرادة ذلك النموذج الحضاري في عصره ومحيطه؛ وبالتالي فإنه ما زال قادرا على مدنا، في أيامنا هذه، بما أسميه "عناصر القوة الرمزية الموحية" التي يمكن أن توجهنا، إذا ما شئنا، إلى العودة إلى الأصول والمنطلقات المؤسسة، بغاية النهْل منها واستلهامها في أفق صياغة معالم نموذج حضاري بديل، وللإجابة في نفس الوقت، على بعض الإشكالات الراهنة والتحديات التي نتواجه معها، كمجموعات عربية وإسلامية تسعى لأن يكون لها موقع وازن في عالم متغير.
شخصيا لا أدعو إلى استنساخ الماضي بحذافيره، لأنه ولى. وإنما الإفادةَ من دروسه ونتائجه، باعتباره ممتدا في الحاضر، بشكل من الأشكال.
ما يشغلنا في تاريخ الأندلس يجب أن يظل منحصرا، من وجهة نظري، في العبرة التاريخية المستخلصة. تلك أرض مثيرة حقا للإعجاب، استوعبت وتمثلت وآوت مختلف المكونات والعناصر الحضارية الوافدة والمحلية. انصهرت وتلاقحت فيما بينها، دون أن تطمسَ الواحدةُ الأخرى، بل شكلت جميعها سلسلة تآلفت وتنافست عناصرها فتولدت عنها بنيات حضارية، مطبوعة بسمات الوحدة والتنوع والتفاعل والاستمرارية وإسعاد المستظلين بظلالها؛ ما ساعد تلك الحضارة، على الهجرة إلى بيئات ومجتمعات أخرى، استوطنتها وساهمت، كليا أو جزئيا، في دورتها الحضارية.
ومن هذا المنطلق، فإنه يجب التذكير، أنه لا يليق بأهل أية حضارة أصيلة حقا، أو جنس، الادعاءَ أنهم وحدهم، صانعو ومنظمو الدورة الحضارية المستمرة بدوام الكائن البشري. وهذا مبدأ ينسحب على حضارة الأندلس ذاتها.
إننا نتساءل باستمرار عن الشيء الذي شد انتباه الدارسين الموضوعيين للحضارة الأندلسية وأثار إعجابهم بها حتى الآن؟ المؤكد أنهم عثروا، وهم ينقبون في تلابيب ماضي الربوع الأندلسية، على ما يمكن تسميته "المنجم الحضاري" المحتوي على المعادن الثمينة التي ندعوها بلغتنا المعاصرة "منظومة القيم الإنسانية"، أو لنقل إنهم وجدوا هناك إرهاصات ومؤشرات قوية وبذورا مُخْصِبة لتلك المبادئ، سيتم إثراؤها وتطويرها لاحقا، على يد مفكري وفلاسفة النهضة الأوروبية. ليصبح ذلك التراث المشترك المتعدد عماد الحضارة الغربية، بمنجزاتها المبهرة التي توالت مع مرور الزمن، متجلية في تحولات مادية وفكرية عميقة أصابت المجتمعات الأوروبية، مهدت بدورها لظهور فكر سياسي واجتماعي، وضع الإنسان وسعادته في صميم انشغالاته الرئيسة.
وسيتجلى ذلك الأثر أيضا في انتشار تدريجي لمبادئ الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والعدالة والتسامح الديني وثقافة التعدد اللغوي والإثني. وهي ذات القيم التي يمكن القول إننا عثرنا على تباشيرها ومقدماتها، خلال بعض فترات الوجود العربي بالأندلس، وإن في صيغها الأولى.
وسواء كانت المبادئ الحضارية الأندلسية مدونة في نصوص، تقيد بها من عاشوا وتعايشوا فوق ثرى تلك البلاد طيلة قرون، أو جرى التوافق العرفي عليها بشكل تلقائي بينهم، فالثابت أنهم مارسوها وتشبعوا بها ردحا من الزمن. احتكموا إليها في تنظيم حياتهم بشكل سلمي. فضوا بواسطتها منازعاتهم وخلافاتهم المستعصية، مثلما ساهمت تلك "القيم" في حفز المجموعات المتعايشة على التنافس في الابتكار والاختراع والإبداع، في شتى مناط الحياة المادية والمعنوية، بغاية إثبات الذات وتحقيق التميز، وترك الأثر النافع.
ورغم ما أنجز من دراسات عن الأندلس، وتأسيس مراكز بحث متخصصة فيها، فإنه يصح القول إن درايتنا ليست كاملة ودقيقة بتاريخها العام والخاص. فجل ما دونه أغلب المؤرخين، رغم قيمته، يندرج إجمالا ضمن خانة التاريخ العام الذي اهتم بأطوار الصراع على الحكم وآليات تداول السلطة بين الذين توالَوْا على حكم الأندلس، فيما ظل غائبا أو مغيبا، الجانب الخفي في الهرم المجتمعي، أي منظومة العلاقات التحتية بين الناس. تلك مهمات علمية جديدة، تحاول النهوض بها حاليا بعض الجامعات الإسبانية، بتوجيه وإشراف جيل جديد من المستعربين اكتشفوا أهمية المكون الحضاري الأندلسي في تشكيل هوياتهم القومية، مستعينين في أبحاثهم المتواصلة بالمناهج والأدوات الحديثة التي يَسَّرها تطور وتداخل العلوم الإنسانية.
ومن هنا، لا يزال كثير من المختصين بتاريخ الحضارات يدعون إلى مضاعفة جهود بحثية، لاستحضار أجزاء من صورة وطبيعة العلاقات الاجتماعية والمعاملات وأشكال المخالطة التي سادت بين الناس في أنحاء الأندلس. ومن شأن تلك الدراسات أن تضع اليد، نسبيا، على الخصوصيات والآليات التي جعلت التعايش ممكنا بين الأديان والأعراق والمذاهب والفلسفات والملل والنحل، بذلك الشكل المدهش، طوال أغلب فترات الوجود الإسلامي بالأندلس؛ لا سيما وأن الطرف القشتالي على الجانب الآخر من الحدود، ظل متربصا دائما بالفاتحين، فارضا عليهم حالة تهديد دائمة، يشن عليهم الغارات تلو الأخرى، إلى أن تمكن من الانتصار في "حرب الاسترداد".
إنها لمفارقة تاريخية وفكرية حقا : ازدهار حضاري في الأندلس وإحساس سكانها بالاطمئنان والسكينة في ظل أوضاع معادية قريبة منهم تتربص بهم في أية لحظة، شكلت ما نسميه بلغتنا المعاصرة "الخطر الخارجي".
لقد أثمرت الأوضاع، التي شاركت في صنعها مختلف الأعراق بالأندلس، ازدهارا ثقافيا وتنوعا حضاريا، بمعايير ذلك العصر. تجاورت في إرجاء البلاد دور العبادة والشعائر المنتمية إلى الديانات التوحيدية؛ إلى جانب حلقات الدرس الفلسفي ومراكز الاجتهاد والجدل الفقهي، ومعاهد الفنون والموسيقى والطرب والصنائع. وفي نفس البيئة وجد الشعراء في بيئتها ما استهواهم، فأنجزوا ثورتهم الشعرية وأبدعوا نصوصا أغنت المَتْن الشعري
العربي، وأرهفت أذواق متلقيه. عكست إبداعاتُهم راحة البال وصفاء الخيال ورغَد العيش، ودلت تلك الأجواء على استمتاعهم بمباهج الحياة التي وفرتها الحضارة الأندلسية، ما ساعد المبدعين قاطبة على الارتقاء بأساليب تعبيرهم الفني والسمو بها إلى مستويات عالية.
لقد أبدعوا أشكالا أدبية مبتكرة في النثر والشعر، مثل الموشحات والقصائد العامية (الزجل) لضرورات الغناء والتواصل، إلى غير ذلك من فنون القول الأخرى. برع شعراءٌ كبار، ضاهوا المشارقة أو تفوقوا عليهم مثل ابن زيدون، في التغني بالطبيعة وبالمشاعر الذاتية، فخلف ابن زيدون وحده، في هذا الباب تراثا شعريا ممتعا ورقيقا، خاصة غزلياته الشهيرة في حبيبته "ولادة بنت المستكفي".
امتزجت تلك التعبيرات الأدبية المستحدثة، المشبعة بمباهج الحضارة الجديدة في الأندلس وتفاعلت مع الموجات الفنية، فتولد ذلك المزيج الرائع "الموسيقى الأندلسية" التي لم تصلنا، لسوء الحظ، كل "نوباتها " ومقاماتها وألحانها، وألوانِ الطرب المصاحبة التي أبدعها الموسيقيون، وشدا بها المغنون في قصور الخاصة وحدائق الأندلس ومنتزهاتها، حيث الماء والظل والأشجار، ما جعل شاعرها المغرم بالطبيعة، ابن خفاجة، يشبه الأندلس بجنة الخلد، لدرجة أن قال : إنه لو خير بينهما، لاختار الأولى. تلك قطعا مبالغة شعرية، لكنها تشير بنفس الوقت إلى مفاتن تلك الربوع الفردوسية في شبه الجزيرة الأيبيرية. ليست الطبيعة وحدها التي أسِرت قلب الشاعر وملكت وجدانه، وإنما ما شاهده فوق الأرض من رقي حضاري وتقدم اجتماعي.
وانطلاقا من مقولة "سفر الحضارات" نفترض أن التراث الموسيقي الأندلسي انتقل مثل الفنون الأخرى إلى أوروبا. ومن المؤكد أن ذلك الأثر تبلور بأشكال مختلفة، في الإبداعات الفنية الوليدة، نتيجة امتزاج الوافد بالفولكلور المحلي والأهازيج الشعبية وما كان يرافقها من رقص وغناء وتعبيرات بالجسد في المناسبات المختلفة.
ويبدو لي، وهذا مجرد استنتاج شخصي، أننا إذا ما أصغينا جيدا إلى الموسيقى الأندلسية والكلاسيكية، وعقدنا مقارنة بين حركاتهما ومقاماتهما، فلا بد أن نجد شبها ما، يستطيع أن يثبته أو ينفيه علماء الموسيقى ودارسو الإيقاعات.
وعودة إلى المجال الفكري والثقافي، فالثابت أنه شهد في الأندلس صحوة غير مسبوقة، ما كانت لتتحقق لولا أجواءُ الحرية والتسامح الديني ونهضة التعليم، التي سادت زمنا ليس بالقصير، بدليل الوثبة النوعية التي حققتها العلوم الطبيعية والمعارف الفلسفية واللغوية والتاريخية فضلا عن الآداب، على يد أعلام الأندلس الكبار مثل ابن طفيل، وابن باجة، وابن حزم، وابن خلدون، وابن عبد ربه، وابن بسام، وابن حيان، والمعلم أبي الوليد ابن رشد، الذي شرح وعرَّب وأدمج التراث الفلسفي اليوناني الأرسطي، ضمن المنظومة الفلسفية العربية، فبرز إسهامه النوعي في إرساء أسس العقلانية . هكذا أصبحت "النزعة الرُّشدية" في الفلسفة، مضاهية في قيمتها لما سيدعى لاحقا "الثورة الديكارتية" على يد الفيلسوف الفرنسي "رونيه ديكارت" أب الفلسفة الحديثة.
يجدر التنويه في هذا المقام إلى أن ابن رشد، معاصر الفيلسوف اليهودي موسى ابن ميمون، هو من وجَّه هذا الأخير نحو الانكباب على التراث الأرسطي، لما آنس فيه من تفوق ونبوغ، ما يدل على أن مجتمع العلماء والفلاسفة في الأندلس، تسامى فوق الأديان والمعتقدات المذهبية وتجاوز الحدود القائمة بينها.
وغني عن القول إن العقلانية هي ذلك التيار الفلسفي المؤثر بامتياز في بناء الحضارة الغربية التي تستمد ينابيعها، بدون شك، من النهضة الأوروبية. هذه الأخيرة لم يكن لها أن تتحقق لولا "المعبر الأندلسي"، إذ منه مرت الفلسفة والعلوم اليونانية والعربية والإسلامية نحو أوروبا، عن طريق الترجمة التي ازدهرت في حواضر أندلسية أشهرها قرطبة. وبفضل الترجمة ونقل المعارف سيتاح لأوروبا التخلصُ من ظلام الجهل الدامس الذي غمرها في العصور الوسطى.
لقد شكلت قرطبة، إلى جانب فاس في المغرب وأشبيلية وغرناطة في الأندلس، "حواضر العلم والفكر". بل يمكن اعتبار تلك المدن عواصم ثقافية، تنافست فيما بينها لتصبح ملاذا فكريا آمنا. فقد تردد عليها أدباء وفلاسفة وأطباء ومؤرخون من العدوتين، بحثا عن هواء فكري نقي، أو طلبا لحظوة لدى حكام متنورين توالوا على حكم المدن المذكورة، اشتهروا بعطفهم على العلماء وحمايتهم لهم من "شطط" الدهماء ، التي حركتها في بعض الفترات التاريخية أهواء ومطامع وصراعات غامضة، أو أعماها الجهل. تنقَّل بين الأندلس والمغرب، مبتكر علم التاريخ عبد الرحمن ابن خلدون والوزير لسان الدين بن الخطيب وغيرهما من مشاهير ذلك الزمان.
وبهذا الاعتبار، فإننا لا نبالغ، والحالة كما وصفناها، إن قلنا إن الأندلس عرفت من جهتها "عصر أنوارها" أو على الأقل، مهدت فيما بعد، لانبثاق حركة بنفس الاسم في أوروبا، اتخذت أبعادا جديدة، مستفيدة من الروافد الأخرى للفكر الإنساني وإنجازاته المتتالية.
وبطبيعة الحال، فإننا مدركون أن هذه الصورة الإيجابية بل المثالية التي نرسمها للأندلس وحضارتها، لا تنسينا في الجوانب الأخرى المعْتِمة التي طبعت أغلب المجتمعات خلال مسار تطورها. إن تحقيق الازدهار وإرساء دعامات التقدم وتنظيم العيش وضمان استقرار النظام السياسي وتوفير الأمن، هي أهداف لا يمكن أن تتم مجتمعة دون خسائر. فعن الصراع والتطاحن يتولد الوفاق، ومن ويلات الحروب والدمار تنهض الأمم الموحدة . بعبارة مختصرة ينطبق على المجتمع الأندلسي نفس القانون الذي يسري على أي مجتمع حيوي، متعدد الأعراق والمعتقدات والثقافات، خاصة إذا وضعته الجغرافيا في موقع مضطرب.
عرفت الأندلس حكاما متنورين، تركوا صفحات ناصعة في تاريخها، وآخرين متهورين لا يذكرون إلا بسوء أفعالهم. غير أن المخلفات الحضارية الأندلسية المادية والرمزية، التي أنتجها المجتمع، تظل شاهدة وشامخة إلى أيامنا هذه، مؤشرة على ماض تعددت مظاهر ازدهاره.
يمكن القول إن المجتمع الأندلسي، وهذا دليل حيويته، لم يقنع بما حققه من اكتفاء ذاتي، بل حركته نوازع التفوق والمنافسة على المشرق والمغرب، ليس في مجالات الآداب والفنون وحدها، بل في كثير من مناحي الحياة. إنها غريزة حب البقاء أو استشعار المخاطر المحدقة التي تُولَّد نزعة المقاومة.
وإذا كان الأندلسيون، على سبيل المثال، قد ابتدعوا نظاما متطورا للري، حمله المستكشفون الإسبان معهم إلى قارة أميركا الجنوبية، فإنهم جربوا ما هو أصعب أي مغامرةَ التحليق في الفضاء بالطيران، بواسطة نموذج الطائرة الذاتية التي صممها وصنعها عباس بن فرناس. إن مجرد التفكير في إمكانية الارتفاع إلى عنان السماء، يدل بوضوح على المستوى الذي وصلته العلوم والصناعات الدقيقة في الأندلس وما كان يدور بخيال علمائها.
اقترح علي الصديق الأستاذ ضياء الفلكي، رئيس النادي العربي في المملكة المتحدة، مدير المنتدى التعليمي الثقافي العربي، في دعوته الكريمة، أن أتطرق في مداخلتي، لأوجه التفاعل الحضاري بين المغرب والأندلس، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وتسليطَ بعض الضوء على الدور الذي يضطلع به موسم أصيلة الثقافي الدولي، في حوار الحضارات.
وإذ أجدد له الشكر على التفاتته اللطيفة، نحو مدينتي أصيلة، ومواسمها الثقافية والفنية السنوية، أبادر إلى القول إن الأنشطة الفكرية المقامة، صيف كل عام تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، تنتظم في ظل جامعة صيفية، تحمل اسم "المعتمد ابن عباد" الشاعر الأندلسي الرقيق، الذي لم يستطع التوفيق بين ما تقتضيه السلطة والحكم، في ظروف صعبة، من دهاء ومكر، اصطدمت بروح الفنان المتأصلة فيه، فأخفق الشاعر في مسعاه السياسي، لينتهي به المطاف أسيرا في بلدة "أغمات" بضواحي مدينة مراكش.
عندما أطلقنا في أصيلة اسم الشاعر المعتمد ابن عباد على الجامعة، كان حاضرا في ذهننا البعدُ الأندلسي، معتبرين ابن عباد، رمزا ثقافيا يتقاسمه البلدان، بصرف النظر عن الملابسات المأساوية التي أحاطت أطوار حياته في الوطن والمنفى. عانى ابن عباد من عواقب تراجيديا صراع مرير على السلطة ، بين الإمارات المتناحرة (ملوك الطوائف) في عهده، تَمثَّل في تمزقٍ سياسي واضطراب داخلي وعَقْد الولاءات والتحالفات المشبوهة. كل ذلك أصاب وحدة وقوة الأندلس في الصميم، فأنذر بأفول شمس العرب فيها.
ما يسترعي الانتباه في سيرة ومسار المعتمد ابن عباد، أكثرَ من غيره من الحكام، انتسابُه إلى قبيلة الشعراءِ، أي أنه بتعبير زماننا، واحدا من النخبة المثقفة القلقة في ظرفٍ آذَنَ بحلول الكارثة.
أما الاعتبار الثاني لاصطفائنا للاسم، فيتمثل في كون الشاعر الأسير، يرمز إلى تلك الوشائج القوية التي جمعت المغرب بشبه الجزيرة الأيبيرية، في شتى مناحي الحياة ، ما أعطى للمغرب ما أسميه "حق الحضور الطبيعي" في شؤون الأندلس ، من باب حمايتها والحرص على استقرارها. لكن حينما قدرت السلطة في المغرب أن الأمور تسير في غير وجهتها الطبيعية، تصرفت بصورة حاسمة مع المعتمد وغيره.
ربما يُخفي اختيارنا لاسم المعتمد ابن عباد تعاطفا معه في محنته ونهايته المأساوية، إذ لا ننسى أنه ولد في مدينة "باجا" بالبرتغال وعرف المجد في "اشبيلية" بالأندلس والغربة والوفاة في "أغمات" بالمغرب.
وعلى كل، فإنه يصح القول إن الأندلس، شكلت امتدادا جغرافيا وحضاريا وبشريا للمغرب. فقد كان المغرب عمقها الاستراتيجي، على الصعيد العسكري، استنجد به حكامها خلال الفترات الحرجة حينما تعرضوا لمحاولات الغزو المضاد وهجمات الاسترداد من قبل الممالك الإسبانية.
وعلى المستوى الاقتصادي، ظل المغرب المزود والممون بالمواد والمستهلكُ للمنتجات الآتية من الأندلس. تبادلٌ تجاري ومعاملات شاملة وتدفُّق في التواصل بين السكان، ساهم القرب الجغرافي في تقوية كل تلك الصلات بين العدوتين.
وفي هذا السياق، يبدو من المناسب الوقوف عند حقيقة تاريخية لافتة للنظر. فإذا كان المغرب قد شكل سندا طبيعيا للأندلس، مثلما كانت هي خطَّ دفاعه الأول في مواجهة العدو الخارجي، فإنه تحالفٌ فرضته ضرورات الجغرافيا والتاريخ والاعتبارات الدينية والثقافية والعرقية. ومع ذلك يمكن الجزم أن المغرب الرسمي والشعبي آنذاك، شجع قيام النموذج الأندلسي المستقل، سواء في نمط الحكم أو تنظيم الاقتصاد والمعاملات، وكذلك انتعاش حرية الفكر وتشجيع الاجتهاد، ما ساهم في بروز خصائص حضارية انفردت بها الأندلس بل تميزت بها عن المغرب.
تأسست "الوحدة" بين العدوتين انطلاقا من المصالح الحيوية المشتركة. وحين وهَنت الروابط بينهما، نتيجة ملابسات وتفاعلات تاريخية في البلدين، ما أدى إلى ضعف التنسيق الوحدوي بينهما، سهل الانقضاض على ممالك الأندلس التي تفرقت في طوائف، تساقطت الواحدة تلو الأخرى، كما اتخذت الأوضاع في المغرب منحى آخر. إنها دروس من الماضي، ينبغي التمعن فيها في حاضرنا.
كان النموذج الحضاري المزدهر في الأندلس، في جانب منه، خلاصة تمازج وتجاوب وترابط ومصاهرة مع سكان المغرب عرب وأمازيغ. شمل التمازجُ سائر مكونات المجتمع الأندلسي . لم تتحكم فيه اعتبارات العقيدة الدينية وحدها، بل المنافعُ المتبادلة. ولذلك لا غرابة أن يلوذ سكان الأندلس من المسلمين واليهود، بعد سقوطها وانتصار النصارى في حرب الاسترداد، إلى المغرب. سيتخذ الاحتكاك الحضاري المباشر أشكالا أخرى، زادته الحضارة المغربية غنى وخصوبة وبهاء، بفضل العائدين من الأندلس، وضمنهم عائلات إسبانية اعتنقت الديانة الإسلامية عن طيب خاطر، أو رغبة منها في الاندماج الكلي في المجتمع الجديد.
وجد المرحلون من الأندلس إلى المغرب نمط عيش لم يكن غريبا عنهم، على اعتبار أن الروابط، بين البلدين، لم تنقطع عبر قرون أحياها وجددها الخلف بعد السلف. أغنى الأندلسيون، مسلمين ويهوداً، المنظومة الحضارية القائمة في المغرب، بما جلبوه معهم من عادات وتقاليد وفنون ومهارات، إلى مدن فاس وتطوان والرباط وسلا. وهي الحواضر التي صدَّرت وأشاعت النموذج الحضاري الوافد عليها في مناطق أخرى في المغرب، ليتكرر انصهار حضاري من نوع آخر. ومن المؤكد أن ذلك "التعاضد" بين المطرودين من الأندلس، خفف كثيرا من وطأة الإحساس بقساوة " الاقتلاع" من الجذور وجنَّبهم ما يدعى في قاموسنا المعاصر "صدمة الحضارة".
إني أتساءل أحيانا لما ذا يتهرب المؤرخون اليهود، باستثناء فئة قليلة منهم، من الإقرار بحقيقة وجود "حلف تلقائي" بين المسلمين واليهود في الأندلس، جرى تفعيله أثناء الظروف الحرجة التي واجهها الطرفان.
فبفضل ذلك التضامن، أمكن لليهود المتحدثين باللسان العربي طوعا، النازحين، مثل المسلمين، إلى المغرب، استئناف حياتهم بسهولة، في موطنهم الجديد، في أمان واطمئنان. لو مكثوا في الأندلس بعد انتصار الإسبان في حرب الاسترداد، لاضطربت أحوالهم وساء مصيرهم. إن حفظ جزء كبير من التراث العبراني، يعود فيه الفضل إلى الأندلس والمغرب.
لم آت على ذكر هذه الواقعة بغرض المفاخرة، وإنما للتذكير بحقيقة تاريخية يصعب إنكارها.
يَغِيب الدرس الحضاري والتاريخي، المستفاد من تجربة الأندلس، عن ذهن النخب الأوروبية المثقفة حين تناقش المسألة الدينية وإشكالية الصراع بين الشرق والغرب من زوايا ضيقة، مع أنه بإمكاننا جميعا تشييد معالمِ حاضر مغاير، يقتبس من اللحظات المضيئة في ماضينا المشترك، ما يساعدنا حتما على تجاوز الأزمات الناتجة عن سوء الفهم المتبادل.
في سياق التوجه المستشرف لمستقبل يستفيد من مرجعيات الماضي، اخترنا في "مؤسسة منتدى أصيلة"، راعية مواسمها الثقافية، أن تكون "جامعة المعتمد بن عباد الصيفية"، منذ بداياتها، فضاء للنقاش الحر الهادئ والراقي أيضا، بين النخب المغربية والإسبانية بمختلف مشاربها الفكرية؛ ليس بنية تصفية الحسابات العالقة، وإنما للتأمل في صفحات تاريخ مشترك، لا يحق لأي طرف التنصلُ منه، ذلك أن ما يقربنا من بعضنا أكثر مما يباعد بين البلدين.
وفي مدينة أصيلة راجت لأول مرة منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي مفردات لم تكن مألوفة على نطاق واسع، من قبيل صراع الحضارات وحوار الثقافات والشرق والغرب والشمال والجنوب والجنوب-جنوب.
ويطيب لي أن أؤكد لكم في هذا المقام ، أن الحوار الذي ظل باستمرار غايتنا المنشودة، متصل ومتواصل طوال ثلاثة عقود حتى آخر دورة من مواسم أصيلة وفيما سيأتي بعدها ن شاء الله.
وكم يسرني بهذه المناسبة السعيدة أن أتلو على مسامعكم فقرة دالة وشهادة على هذا التوجه، أَقتَبِسُها من الرسالة الملكية السامية التي وجهها إلى
المشاركين في الدورة الحادية والثلاثين لموسم أصيلة، عاهل بلادي جلالة الملك محمد السادس. قال جلالته "إن اعتزازنا بالرصيد المشرف لتظاهرات أصيلة ، وما كرسته من ترسيخ صورة مغرب يخوض مسارا ديمقراطيا وتنمويا رائدا، في جو من الحرية والمسؤولية والانفتاح الحضاري على الآخر، لا يعادله إلا حرصنا على أن يواصل هذا المنتدى النهوض بدوره الريادي في إرساء حوار فكري وسياسي خلاق ومستنير ، حول قضايا وانشغالات العصر".
أستحضر في ذات الوقت، المشاركة الممَّيزة، في نفس الدورة في أصيلة لشيخ المستعربين الإسبان، البروفيسور بيدرو مونتافث، الذي قال في مداخلة له "إن الأندلس يجب أن تظل فضاء التفكير والحوار المشترك بين المغاربة والإسبان وبين هؤلاء والعرب، ليتداولوا بشأن سائر الالتباسات العالقة". ولا شك أن المستعرب والأكاديمي الإسباني المرموق ، استرجع في ذهنه صور ذلك التعايش الحضاري في بلاد الأندلس التي ينتمي هو شخصيا إلى ترابها الإقليمي.
هذه الإشارة، تقتضي مني تذكيرا آخر، وأنا أتحدث عن تجربة جامعة المعتمد ابن عباد الصيفية، حيث نتعامل مع الحضارات والثقافات على أنها إرث إنساني مشترك بين البشر، رغم تباين أقدار مساهمتهم فيها. لا ننظر إليها البتة على أساس دوائر جغرافية مغلقة أو متنائية.
وانطلاقا من تلك الرؤية، طورنا، على مدى أكثر من ربع قرن، أساليب الاشتغال الفكري في جامعة المعتمد الصيفية. وسَّعنا دائرة برامج مناظراتها وندواتها، وتخطينا الدائرة التقليدية الثنائية المحصورة في نطاق إسبانيا والمغرب، لتشمل أوروبا وأميركا الجنوبية التي سافرت إليها حضارة الأندلس فتجلت في المعمار والموسيقى والأزياء والصنائع، أو من خلال تنظيم أساليب العيش وتقاليد الفروسية واللهو والمطبخ .
والحقيقة أننا وجدنا تجاوبا عميقا وترحيبا بمبادرتنا في عدد من دول أمريكا الجنوبية، على الصعيد الحكومي والأكاديمي وهيئات المجتمع المدني. أقبلت وفود على أصيلة ، معتزين بماضي بلدانهم الذي اصطبغ جزئيا بألوان حضارة الأندلس والمغرب المشبعة بالمؤثرات العربية الإسلامية واليونانية والفارسية والهندية التي حملها معهم المكتشفون الإسبان في القرن الخامس عشر، فتفرعت أغصان تلك الشجرة الحضارية ذات الجذور الضاربة في التربة العربية الإفريقية.
وعلى صعيد آخر، شجعتنا تجربة جامعة المعتمد على توسيع دائرة الحوار، واستكشاف إمكانيات التواصل واللقاء بين الشمال والجنوب والشرق والغرب وتوطيد دعائم الشراكة بين جنوب-جنوب. نجحنا في مسعانا ونوقشت في كثير من الندوات قضايا الراهن وآفاق المستقبل والدعوة إلى تحالف الحضارات.
وبخصوص العلاقات بين المغرب وإسبانيا التي استردت الأندلس، فإننا نسجل أن "الحكماء" في البلدين، من رجالات السياسة والفكر والفن والاقتصاد والأعمال، يؤمنون بحتمية انتصار مقولة التعاون الذي لا مفر منه، لمواجهة إكراه الحاضر وتحديات المستقبل، ما يحملنا على التفاؤل بتجاوز المشاكل العالقة الموروثة عن الماضي الاستعماري ، آجلا أو عاجلا.
ما يُحير المغاربة حقا، أن بعض العقليات في إسبانيا، لم تتحرر من الإرث التاريخي السلبي. ما زالت تعتقد أن المغرب هو سبب ضياع الأندلس منها طيلة ثمانية قرون، ناسية أمرين : المخلفات الحضارية التي ساهمت في نهضة إسبانيا نفسها فيما بعد، فأصبحت دولة قوية عسكريا، موحدة الممالك. الأمر الثاني أن تلك الذهنيات الضيقة، تقفز على الحقائق الإستراتيجية والحتمية التاريخية لذلك الزمان. لا يكلف هؤلاء أنفسهم مشقة وضع سؤال عن المحفزات والدواعي التي جعلت طلائع العرب يغادرون أوطانهم، نحو شبه الجزيرة الأيبيرية، ليشيدوا بشراكة مع المغاربة، تجربة حضارية غنية في بقاع الأندلس البعيدة عنهم .
إنها مغامرة إنسانية وسياسية جديرة بالتأمل، بصرف النظر عن الاعتبارات الدينية، خاصة وأن الذين أقاموها حرصوا على الاحتفاظ بالعلاقات الوثيقة بين أوطانهم الأصلية في المشرق العربي وفي المغرب، ومستقرهم الجديد في أوروبا.هل كان الفاتحون العرب والأمازيغ مجرد مبشرين بالعقيدة الجديدة، أم مغامرين مستكشفين، أم أصحاب مشروع سياسي؟
ظلت الأندلس خلال مجدها ، جسرا بين الشرق والغرب، على الصعيد التجاري والثقافي وحتى العسكري. وحري بالأطراف المعنية أن تعود إليها لتكون مجدَّداً نقطة الالتقاء الحضاري والفكري والإنساني.
لا أحسب أني ألقيت على مسامعكم عرضا تاريخيا شافيا، بالنظر إلى شساعة الموضوع وتداخل عناصره. حاولت أن أقف عند سلبيات النظرة الأحادية للتاريخ وما ينتج عنها في الغالب من إحياء الضغائن وتأجيج الأحقاد، وإيقاظ الذكريات الأليمة. لذلك يجب أن نستبدل تلك النظرة بأخرى شمولية ومنفتحة، تتعامل مع الأحداث الكبرى والصغرى، والفترات الناصعة والمظلمة، انطلاقا من مقولة إن ما وقع قد وقع، وإنه بالإمكان تجاوز آثاره نحو واقع أكثر إسعادا للبشرية.قد أبدو مفرطا في التفاؤل. والأمر كذلك حقا. إنه الشعور الذي حملني على القدوم إليكم، واللقاء بكم والتحاور معكم والاستفادة من ملاحظاتكم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.