تراجع عجز السيولة البنكية إلى 142,1 مليار درهم    اتحاد طنجة يفوز على ضيفه نهضة بركان (1-0)    تتويج المغربي بنعيسى اليحياوي بجائزة في زيورخ تقديرا لالتزامه بتعزيز الحوار بين الثقافات    "أسود الفوتسال" بنهائي ألعاب التضامن    بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    حماس تدعو الوسطاء لإيجاد حل لمقاتليها العالقين في رفح وتؤكد أنهم "لن يستسلموا لإسرائيل"    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا يتحدث الإسبانية.. إذن لا يعرف الكلام..؟
أزمة القيادة في المجتمعات الإسلامية الحديثة (4)
نشر في العلم يوم 10 - 12 - 2010

منذ أربعين سنة كتبت عدة مقالات بهذا العنوان في جريدة «العلم» مارس 1970 وما بعد، وبلادنا آنذاك تعيش تحت نير حالة الاستثناء وتعطيل الحياة الدستورية وتكميم الأفواه ومصادرة الصحف بل وتكسير المطابع إذا لم تنفع المصادرة كما حصل لمطبعة «الرسالة» حيث تطبع صحيفتا «العلم» و «الرأي» وليس الأمر عند غيرنا ممن يعيشون تحت النظام الشمولي والحزب الوحيد بأحسن مما عندنا.
واليوم ونحن نراقب ما يجري في ديار العروبة والإسلام من فوضى وقلاقل وقمع للحريات وفرض الأحكام العرفية والاستئثار بالأمر و بالتوجيه في أغلب البلاد الإسلامية رغم وجود الدساتير والقوانين وحتى البلاد التي بدأت بوادر تعافيها من التدخل في الانتخابات وفي الاختيار الحر للأمة تلوح الآن في الأفق ارهاصات ان أمر النزاهة ربما كان برقا خلبا أو سرابا حسبه عشاق الديمقراطية والشورى بارقة تغيير في أفق تحقيق الديمقراطية، ولكن ما جرى وما يجري في بلاد الإسلام شرقا وغربا ينبئ أن هناك نية مبينة لدى البعض للسعي للرجوع عن بعض المكاسب التي تحققت، هنا وهناك وربما كان كشف القناع عن تصرفات الدول الكبرى التي كانت ولا تزال تلوح بورقة الديمقراطية وحقوق الإنسان وقتل الأبرياء بمآت الألوف واعتقال الآخرين وقتلهم صبرا وبدون محاكمات لعل كل ذلك قد انعكس على ما يجري من لدن بعض الحكومات والمسؤولين في ديار العروبة والإسلام، ونعيد اليوم نشر تلك المقالات للذكرى والتذكير وليس لتبرئة الذمة من واجب مواصلة العمل مع العاملين من أجل مجتمعات مسلمة شورية ديمقراطية متقدمة ومزدهرة.
ونواصل اليوم إعادة نشر تلك المقالات مع التحيين الضروري نظرا لتطور الأحوال والظروف، وإن كان روح تلك المقالات يبقى هو هو مع الحفاظ على النص الأصلي في الغالب.
ونحن بصدد مراجعة هذه المقالات وتحيينها طفى على السطح ما سمي بفضيحة (ويكلكس) التي نال منها القيادات الإسلامية أوفى نصيب..
قيادة بلباس أهلي..؟
نواصل اليوم الحديث في موضوع أزمة القيادة في المجتمعات الإسلامية، وقد تحدثنا في الحلقة الأخيرة عن العلاقات بين المجتمعات الإسلامية والغرب وذلك لبيان التأثير السيئ الذي لعبه الاستعمار في صنع هذه القيادات وتوجيهها توجيها غير منسجم مع الشعوب التي تحس بالانفصال بينها وبين هذه القيادة، وعندما نتحدث عن القيادة فلا نعني فقط من يتولون مسؤولية إدارة دفة شؤون المجتمعات وإنما نعني النخب ونعني المثقفين والمتعلمين ذلك ان هذه النخب وما هي عليه هي التي يخرج من بين صفوفها من يسيرون أمور هذه المجتمعات، ولذلك فإن الهدف الأساس الذي كان لدى المستعمر هو أن الإنسان المستعمَر يجب ان يكون عندما يتحمل المسؤولية هو نفس المستعمِر بالكسر، باسم «أهلي» وربما حتى بلباس «أهلي» هذه هي الغاية التي كان الاستعمار يسعى لها وقد وضع لذلك منهجا يفضي إلى نفس النتيجة والغاية مهما كانت الظروف ومهما تغيرت الأحوال..
سارتر وأكاذيب حية
ومما تحدثنا عنه في مقال سابق أساليب الاستعمار في القهر والإذلال للمحافظة على هيبته وانتهيتا مع الاستدلال بقول ماركس الذي أكد فيه أن الاستعمار الغربي يسعى إلى تشكيل المستعمَر على صورته.
وهذه المقولة هي التي صاغها أديب ومفكر آخر غربي »جان بول سارتر« في تقديمه لكتاب (معذبو الأرض لفرانز فانون) وذلك عندما يقول:
»... وكان على السكان الأصليين في البلاد المستعمرة ان يحبوا هذه العواصم، كما يحبون أمهاتهم إن صح التعبير. وشرعت الصفوة الأوروبية تصنع صفوة من السكان الأصليين. أخذت تصطفي فتيانا مراهقين وترسم على جباههم بالحديد الأحمر مبادئ الثقافة الأوروبية، وتحشو أفواههم بأشياء رنانة، بكلمات كبيرة لزجة تلتصق بالأسنان، ثم تردهم إلى ديارهم بعد إقامة قصيرة في العاصمة وقد تزيفوا. ان هؤلاء الأفراد الذين هم أكاذيب حية تسعى، قد أصبحوا لا يملكون ما يقولونه لأخوتهم، لأنهم لا يزيدون على ان يرجعوا ما يسمعون؛ فمن باريز ولندن وأمستردام كنا نحن نهتف قائلين: »بارتينون، اخوّة « فإذا بشفاه تنفرج في مكان من الأمكنة بأفريقيا أو آسيا، لتقول: »بتينون!... خوّة !...« وكان ذلك هو العهد الذهبي«.
الاستعمار والاستقلال الصوري
هذا ما يقوله سارتر الوجودي الذي لا علاقة له بالإسلام لا الإسلام السياسي ولا الطرقي وما قاله قبله ماركتر المادي الجدلي والتاريخي وسنواصل الاستيعاد لما يقوله مثل هولاي وذلك حتى لا نكون متشددين بذوي العواطف الإسلامية.
والواقع أن الغاية عند الاستعمار كما أشرت كانت هي المحافظة على وجوده مهما كانت الظروف، ومهما تضطره ملابسات السياسية المحلية أو الدولية لإعطاء هذه الشعوب استقلالا زائفا.
وإذا كانت الشعوب الإسلامية من بين الشعوب التي أسقطها سوء الطالع تحت نير الاستعمار وذلك شعبا بعد شعب طيلة القرن التاسع عشر واغلب عقود القرن العشرين وحتى في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين إذ كما هو معروف غزا الاستعمار الفرنسي مصر في بداية القرن التاسع عشر والجزائر 1830 والهند استسلمت وانتهى الحكم الإسلامي فيها عام 1857 واستعمرت تونس ومصر في بداية العقد الثامن في نفس القرن والمغرب في بداية العقد الثاني من القرن العشرين وتم إنهاء الدولة العثمانية في البلقان وأوروبا الشرقية واقتسمت أقطار الشرق العربي بين نفوذ انجلترا ونفوذ فرنسا واغتصبت فلسطين كما تم احتلال قبل ذلك الدول الإسلامية في الشرق الأقصى والشعوب الإسلامية في مختلف الأقطار الإفريقية لم يكن وضعها أفضل من غيرها.
مراحل الغضب
وهذا في الواقع إنما هو تصفية حسابات مع الإسلام ومع الدولة الإسلامية فهذا كله من ثمرات الغزوات الصليبية ونتيجتها لمراحل الغضب وفي هذا المعنى يقول المرحوم محمود محمد شاكر في كتاب (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص:46-47) محددا المراحل التي أغضبت الغرب كما يلي:
المرحلة الأولى:
صراع الغضب للهزيمة المسيحية في ارض الشام ودخول أهلها في الإسلام، فبالغضب أمَّلت اختراقَ دار الإسلام لتسترد ما ضاع، تدفعها بغضاء حية متسامحة، لم تمنع ملكا ولا أميرا ولا راهبا أن ُيمدَّ المسلمين بما يطلبونه من كتب » علوم الأوائل«، (الإغريق، التي كانت تحت يد المسيحية يعلوها التراب. وظل الصراع قائما لم يفتُر، أكثر من أربعة قرون.
المرحلة الثانية:
صراع الغضب المتفجر المتدفق من قلب أوربة، مشحونا ببغضاء جاهلة عاتية عنيفة مكتسحة مدمرة سفَّاحة للدماء، سفحت أول ما سفحت دماءَ أهل دينها من رعايا البيزنطية، جاءت تريد هي الأخرى، اختراق دار الإسلام، وذلك عهد الحروب الصليبية الذي بقي في الشام قرنين، ثم ارتد خائبا إلى مواطنه في قلب أوربة.
المرحلة الثالثة:
صراع الغضب المكظوم الذي أورثه اندحار الكتائب الصليبية، من تحته بغضاء متوهجة عنيفة، ولكنها مترددة يكبحها اليأس من اختراق دار الإسلام مرة ثالثة بالسلاح وبالحرب، فارتدعَتْ لكي تبدأ في إصلاح خلل الحياة المسيحية، بالاتكاء الشديد الكامل على علوم دار الإسلام، ولكي تستعد لإخراج المسيحية من مأزِقٍ ضنْكٍ مُؤْنِسٍ، وظلت على ذلك قرنا ونصف قرن.
وهذه المراحل الثلاث، كانت ترسفُ في أغلال » القرون الوسطى«، أغلال الجهل والضياع. ولم تصنع هذه المراحل شيئا ذا بال.
المرحلة الرابعة:
صراع الغضب المشتعل بعد فتح القسطنطينية، يزيده اشتعالا وتوهجا وَقُودٌ من لهيب البغضاء والحقد الغائر في العظام على »التُّرك«، (أي المسلمين)، وهم شبح مخيف مندفع في قلب أوربة، يُلقِْي ظله على كل شيء، ويفزِّعُ كل كائن حي أو غير حي بالليل وبالنهار. وإذا كانت المراحل الثلاث الأول لم تصنع للمسيحية شيئا ذا بال، فصراع الغضب المشتعل بلهيب البغضاء والحقد هو وحده الذي صنع لأوربة كل شيء إلى يومنا هذا.
اليقظة وتحديد الأهداف
صَنع كُلَّ شيء، لأنه هو الذي أدَّى بهم إلى يقظة شاملة قامت على الإصرار، وعلى المجاهدة المُثَابِرَةِ على تحصيل العلم وعلى إصلاح خلل الحياة المسيحية، ولكن لم يكن لها يومئذ من سبيل ولا مدد، إلا المدد الكائن في دار الإسلام، من العلم الحي عند علماء المسلمين، أو العلم المسطر في كتب أهل الإسلام. فلم يترددوا، وبالجهاد الخارق، وبالحماسة المتوقدة، وبالصبر الطويل، انفكت أغلال »القرون الوسطى« بغتة عن قلب أوربة، وانبعثت نهضة »العصور الحديثة« مستمرة إلى هذا اليوم.
من يومئذٍ، عند أول بَدْءِ اليقظة، تحددت أهدافُ المسيحية الشمالية، وتحددت وسائلها. لم يَغِبْ عن أحد منهم قطُّ أنهم في سبيل إعداد أنفسهم لحرب صليبية رابعة، لأنهم كانوا يومئذ يعيشون في ظل شبح مخيف متوغل في أرض أوربة المقدسة ببأس شديدة وقوة لا تُرْدَع، بل هو شبح متجَوِّل يطوف أنحاء القارة كُلِّها ، لا يَطْرِفُ فيها جفنُ حتى يراهُ ماثلا في عينه آناءَ الليل وأطراف النهار، » التُّرك التُّركَ« !!.
اليقظة والمسار الخطأ
وقد انتقم الغرب بالفعل من الترك بإسقاط الدولة العثمانية وفرض التوجه العلماني على تركيا وجعلها خارج المجال الإسلامي.
وعندما استيقظت هذه الشعوب بدل الاستعمار الجهود ليحول بينها وبين الاستقلال الحقيقي بفرض القيادات التي أنشأها على طريقته ورباها التربية التي يريد وان شئت قلت جعلها على صورته كما أسلفنا بل ربما كانت أجرا منه ونفذت ما عجز عن تنفيذه.
وكان المعمل الذي هيأ فيه هذه القيادات هو المدرسة لان المدرسة وحدها هي الكفيلة بانجاز مخططه وتحقيق ما يريد ولذلك فاني سأحاول إعطاء صورة مختصرة عما كان الاستعمار يريد الوصول إليه عن طريق المدرسة ومناهجها.
إن الأوروبيين منذ ما أسموه بالكشوف الجغرافية يرون كل من لا يتحدث لغة من لغات الغرب لا يعرف الكلام ومن ثم فان واجبهم ان يعلموه الكلام، يقول (كلومبوس) مكتشف أمريكا في مذكراته وهو يتحدث عن الهنود الحمر يبدو لي انه من الممكن ان نجعلهم مسيحيين بسرعة اذ أنهم لا يدينون بداية ما وسوف اتى بستة منهم ان شاء الرب حتى يتعلموا الكلام « ويعلق (كي دوبوشير) عن هذه العبارة فيقول: (أنهم لا يتحدثون الاسبانية معنى ذلك أنهم لا يعرفون الكلام إطلاقا وإذن فقد حان الوقت حتى تخلع عليهم أوربا نعمة الكلام) (تشريح جثة الاستعمار ص 146 وما بعدها).
التنصير ولغة المستعمِر
ان هذه الفقرة من كلام المكتشف الأوروبي تضع الإطار العام لغايات الاستعمار الأوروبي كله في جميع مراحل تاريخه انه يستهدف ان يجعل المستعمَرين مسيحيين وأن يجعلهم يتعلمون الكلام الذي هو لغة المستعمِر اما لغاتهم الأصلية وديانتهم الأصلية فلا يمكن اعتبارها في عرف الاستعمار ديانة او لغة فلا نستغرب إذا وجدنا جهود الاستعمار تتصرف في البلاد الإسلامية إلى نشر لغته وديانته والاستعانة بهذه على تلك، ولا يأخذنا العجب إذا وجدنا إرساليات التبشير تعقد المؤتمرات تلو المؤتمرات لتبادل الخبرة والمعلومات والاستعانة بحكومات الاستعمار ورجاله لنشر المسيحية بين المواطنين المسلمين فالتبشير والاستعمار يتمم بعضها البعض وينبه احدهما الأخر إلى ما يجب فعله، وما يتحتم انجازه فلا غرابة إذن أن يتحدث مفكرو الاستعمار ومهندسو خططه عنا في المغرب بالأسلوب الذي تحدث به كلوميوس عن الهنود الحمر ومن شك في ذلك فيقرأ هذه الفقرة التي سأنقلها بنصها رغم طولها وهي من إنشاء احد المفكرين الفرنسيين يقول:
»إن البربر كان منهم مجوس ووثنيون ويهود وفي صدر النصرانية قبلوا الدين المسيحي إلا أنهم نسوه عندما تمكنوا من الاستقلال ثم دانوا بالإسلام الذي ببساطة قواعده يستميل العقل ويرسخ في جميع الأمم التي تدين به«.
ثم يقول: إن البربر اسلموا إسلاما لا يزال مشوبا بأحوال وأوضاع خاصة بهم.
الحلم بمغرب فرنسي
ثم يقول: انه شعب يظهر عليه الميل من نفسه إلى المدنية الفرنسية لذلك يجب ان يحصل البربري على الثقافة أكثر مما هو ولأجل بلوغ هذه الغاية يجب أن يحصل البربر على الثقافة الفرنساوية وان يتكلموا بالفرنساوي قبل وصول الثقافة العربية واللسان العربي إليهم وعلى هذا الشكل يتحقق بل ريب أكثر مما هو مظنون خيالنا العظيم بمغرب فرنسا ثم يقول :
»إن قسما عظيما من أهل الغرب الأقصى لا يعرفون العربية أو يتكلمون باللغتين البربرية والعربية وليس لنا أدنى مصلحة أن ننشر بينهم اللغة العربية لغة الجامعة الإسلامية بل بالعكس« (انتهى من حاضر العالم الإسلامي باختصار ص 87)
عملية التحويل
ولا شك ان الغاية من كلام الموجه الاستعماري هي تحويل المغاربة عن دينهم ولغتهم التي لا مصلحة للاستعماريين في تعليمها ونشرها وتعميمها لأن في تعميمها عرقلة لمخططاتهم في جعل المغرب مغربا فرنسيا إذا حيل بينهم وبين انجاز رغبتهم حتى الآن فأنهم لا يزالون يواصلون العمل ويبدلون الجهود وقد ينتصرون في مثل الظروف التي نعيشها لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه يوم كانوا يحكموننا حكما مباشرا، لأن الاستعمار الآن غير واضح على مسرح المعركة كما كان واضحا قبل هذا الوقت، كما ان مخططات الاستعمار السابقة أعطت ثمارها فوجد من بيننا من يدافع عن مناهجه وأساليبه وتعميم لغته، ولا شك ان تعميم اللغة يحقق هدفا مزدوجا إذ هو بجانب تحقيقه للاستعمار اللغوي يزيغ بالناشئة من عقائدها ودينها ويجعلها ان لم تنتصر معطلة متشككة لا هي بالمسلمة ولا بالمسيحية ولكنها طاقة معطلة لا تعرف إلا الهدم وتحقيق المزيد من المتع الخسيسة والسير وراء سراب المدنية الزائفة.
النموذج المطلوب للمستعمَر
وهذا النموذج الذي تحدثنا عنه ونحن نتحدث عن التفكير الاستعماري في تكوين أجيال مغاربة بعيدين عن الإسلام وعن اللغة العربية هل له حظ في غير المغرب من بلاد الإسلام؟ إن هذا هو ما يتحدث عنه مسيو شانليه وهو يحدد السياسة الاستعمارية:
وما دمنا بصدد الحديث عن السياسة الفرنسية في مجال التعليم أيام احتلالها لجزء مهم من بلاد الإسلام فلا مانع من الاستشهاد بفقرة من كلام مسيو شاتليه يقول: وهو يحدد إطار العمال الحكومي لمساعدة إرساليات التبشير لتحقيق غاياتها.
ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنيا قبل كل شيء على قواعد التربية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت من فائدته.
وبعد ان يشير إلى عجز العمل الخاص عن تحقيق الغرض المنشود يؤكد انه غرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنساويات نظرا لما اختص به هذه التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة.
وانا نرجو ان يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنساوية (الغارة على العالم الإسلامي ص 13-14).
التعليم يحمل مع اللغة قيم معادية
ومن هنا تأتي خطورة الفرنسية ان هذه الخطورة تكمن في صنع العقلية الإسلامية طبق منهاج محدد يرمي قبل كل شيء الى بث تعاليم وأساليب خاصة تستهدف أصلا مقوماتنا الحضارية وأسس كياننا الروحي وتستهدف مع ذلك الحيلولة بين المسلمين وبين الإسلام ولغته واذا ابتعد المسلمون عن الدين فانه من الصعب ان يعودا إليه ثانية في تقديرات المستعمرين وإرساليات التبشير التي ابتدأت عملها في البلاد الإسلامية منذ أمد بعيد ولم تظفر بمن يلتمسون الهداية عندها ولكنها لم تيأس بعد من النيل من المسلمين والإسلام ويكفيها ان تمهد الطريق لما أسمته بإسلام مادي وذلك عن طريق المدرسة التي تعلم الناشئة على طرق الاستعمار ومناهجه.
صعوبة التنصير
وفي هذا المعنى يقول شاتليه: »ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانية وكاتوليكية تعجز ان تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوربية فبنشرها لها يتحكك الإسلام بصحف أوروبا وتتمهد السبل لتقدم إسلامي مادي وتقضي إرساليات التبشير ليانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحتفظ بكيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها (الغارة ص 17-18).
نخبة مصنوعة
ومن المؤسف ان تكون هذه المناهج الاستعمارية قد أعطت نتائج مهمة لأصحابها وان يتصدى لقيادة الفكر وزعامة السياسة في كثير من البلاد الإسلامية مجموعة من المتخرجين على الطريقة الاستعمارية وأصبحوا يستميتون في الدفاع عن أساليب الاستعمار وغايته ويبذلون الجهود المضنية لتأكيد أن الاستعمار بريء مما ينسبه إليه الوطنيون الذين لا يتمتعون بالأفق الرحب وإنما يتقوقعون في مفاهيم معينة ليكيلوا التهم لهؤلاء الغربيين المستعمرين« الذين يضحون بكل شيء في سبيل تحقيق التقدم والرفاهية للشعوب المتخلفة ومن بينها الشعوب الإسلامية.
وانه من الصعوبة بمكان ان تقنع هؤلاء سواء الذين يقولون ما يقولونه عن حسن نية او الذين في قلوبهم مرض ويخونون أوطانهم وشعوبهم عن عمد مسبق وإصرار كما يقول القانونيون.
الواقع ... السياسة الاستعمارية
ان الواقع الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية يؤكد نجاح السياسة الاستعمارية في إيجاد نخبة وتأطيرها العام للسياسة الاستعمارية لقد استقلت أكثرية المجتمعات الإسلامية وأصبحت أمورها بين أبنائها »ولو صوريا« ولكنها لم تستطع بعد ان تظفر بقيادات من النوع الذي تريد. ان الاستعمار تمكن من وضع قيادات مناسبة، وخلق لها ظروفا تظهر معها وكأنها المنقذة لهذه المجتمعات ، وهي قيادات تفتقر إلى كل خصائص القيادة الإسلامية التي أوجزناها في مقالات سابقة، والاستعمار لم يكتف بتهيئة القيادات عن طريق المدرسة والجامعة فحسب بل هو يبذل كل ما يملك من جهد لإقصاء كل من يخشى منه المقاومة والإفلات من توجيهات وقد عبر الأستاذ مالك بن نبي عن هذا أصدق تعبير حيث قال:
الاستعمار يختار الصفوة
ومن أصول الفن لديه »الاستعمار« ان يقضي صفوة الناس عن أماكن القيادة لأنهم هم الذين يمثلون أسمى فضائل شعبهم ثم يستخدم لتحقيق مأربه طائفة من خلصائه اصطفاهم لذلك« وأزمة القيادة في المجتمعات الإسلامية تنطلق من هذا الاصطفاء والاختيار فليست الشعوب والمجتمعات هي التي تختار القيادة وإنما تختارها المخابرات والإعانات والمناهج التربوية التي يضعها الاستعمار وينفذها في شكل من الإشكال إذ الشكل لا يهم وإنما يهم المضمون والغاية فمتى تحققت الغاية فالوسيلة لا تهم.
ان هذا النص وغيره كثير بل هناك ما هو أبشع منه في الدلالة على الهدف الذي يسعى الاستعمار للوصول إليه ولكن لنقتصر على هذا النص ومن أراد المزيد فيمكنه الرجوع إلى أدبيات الاستعمار الفرنسي وما كتبه منظروا الاستعمار من كتب وتقارير وما حضروه من مناهج ففي كل ذلك نصوص وحقائق لمن كان يريد الغوص في الهدف الاستعماري من إقصاء الإسلام وإقصاء اللغة العربية.
ولكن السؤال ليس فيما كان الاستعمار يسعى للوصول إليه، بل في الدور الذي لعبه في التعليم والإدارة المغربية في مغرب ما بعد الاستقلال؟ هل ان مغرب ما بعد الاستقلال أنصف الإسلام وأنصف اللغة العربية؟ هل مغرب ما بعد الاستقلال مكن للغة الضاد في التعليم وفي الإدارة وفي الحياة العامة؟
لا اعتقد ان الجواب عن هذه الأسئلة يكون لصالح مغرب الاستقلال وإدارة مغرب ما بعد الاستقلال.
واقع اللغة بعد الاستعمار
لقد كان واقع اللغة العربية في مغرب محتل ومستعمر أحسن حالا من مغرب ما بعد الاستقلال، وذلك لأن الحركة الوطنية جندت الشعب المغربي لبناء المدارس الحرة التي تعلم اللغة العربية، وقاومت السياسة التعليمية للمستعمِر وكانت البيانات التي تصدرها تندد بسياسة الاستعمار في التعليم وفي فرنسة المغرب. وكان الأمل في انتصار الوطنية وانتصار اللغة العربية معها وأما بعد الاستقلال فإن المدرسة الاستعمارية السابقة أدت دورها كاملا في الإبقاء على لغة المستعمر وإقصاء اللغة العربية بل وجدنا من يجرؤ على مهاجمة اللغة العربية لصالح اللغة الفرنسية وهو أمر لم يكن ممكنا أثناء الكفاح ضد المستعمر.
وهذا بالفعل ما كان يسعى إليه الاستعمار من سياسته التعليمية واللغوية والواقع أن هذا المنهج الاستعماري مع تفاوت والنتائج تمكن في مختلف الأقطار الإسلامية لتحقيق نتائج ايجابية ومرضية.
إن هذه النتائج المخيبة للآمال هي التي جعلت الشعوب تتحرك وما أدى إلى ما يعرف بالصحوة أو الإسلام السياسي أو الأصولي وهذا موضوع سنتناوله في حديث مستقل فيما بعد.
الأداء والصحوة؟
ولا ريب أن من حاول وضع أصبعه على أداء القيادات في المجتمعات الإسلامية سيلمس ان أكثرها أنها قيادات لا تملك منهاجا للعمل وهي بعيدة بعدا كبيرا عن شعوبها. لأن الشعوب لا دخل لها في اختيارها وتنصيبها وهذا ما سأتحدث عنه في مقال قادم بحول الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.