ليس من قبيل المغامرة القول إنَّ من أقوى الدوافع للفعل السياسي الدافع الثقافي، وإن اختلفت طبيعة هذا الفعل، وتعددت صيغه، وتنوعت تداعياته وانعكاساته وآثاره. وإذا ما تأملنا الخريطة السياسية على مدى السنوات الستين الأخيرة، وعلى مستوى العالم العربي، نجد أن القرار (التاريخي) الذي اتخذه الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1958، بإعلان الوحدة بين مصر وسوريا، والذي كان من آثاره الخطيرة الشطب على اسمين جغرافيين لهما دلالة تاريخية وحمولة ثقافية ورصيد حضاري، لمدة ثلاث سنوات، هما : (مصر) و(سوريا)، فأصبحت الدولة الجديدة تحمل اسم (الجمهورية العربية المتحدة) هكذا دون تحديد، وأصبح سفراؤها في الخارج يعرفون بالسفراء العرب (السفير العربي في باريس، والسفير العربي في مدريد ... إلخ)، كان ذلك القرار قراراً نابعاً من ضعف الحس التاريخي وانعدام الخلفية الثقافية. ذلك أن جمال عبد الناصر الذي جاء من الجيش، لم يكن له رصيد ثقافي ومعرفة بالتاريخ والحضارة، هذا فضلاً عن أنه كان يستبد برأيه، ويرفض أن ينصحه أحد، أو يستمع إلى أحد مستشاريه أو المقربين إليه، لأن شخصيته الطاغية ذات النفوذ الواسع والكاريزمية القوية، كانت تحول دون الاستماع إلى الرأي الآخر، أو بالأحرى العمل به بعد العدول عن رأيه. فكان هذا القرار الارتجالي الانفعالي، كارثة على مصر وسوريا، وعلى العرب بصورة عامة، لأنه بلبل الفكر العربي السياسي، بل أحدث زلزالاً فكرياً وثقافياً وسياسياً لا تزال توابعه تعمل عملها إلى اليوم. فهذا القرار الذي كان يوصف يومئذ في أجواء الحماسة والانفعال والاندفاع العاطفي بأنه قرار (تاريخي)، كان نتيجةً لثقافة هشة، ناقصة، مبتورة، ويمكن أن نقول عنها إنها كانت ثقافة فاسدة، ساهمت في إفساد العقل، وإفساد السياسة، وإفساد الحياة العامة في مصر على وجه الخصوص. وإن كان هذا الفساد الثقافي إن صح أن نجمع بين الثقافة والفساد امتدّ أثره وسرى مفعوله في الجسم العربي وانتقلت عدواه إلى أبعد الأطراف. وما ينطبق على جمال عبد الناصر، ينسحب أيضاً على صدام حسين الذي جاء إلى الحكم من الشارع بلا ثقافة، فكانت قراراته والسياسة التي اتبعها فساداً ومفسدة وإفساداً على أوسع نطاق. فلو كان رجلاً مثقفاً ذا رؤية ثقافية وحس ثقافي، بالمعنى العام للثقافة، لما غامر وخاطر حتى خسر كل شيء، وترك وراءه بلداً مكبلاً بالقيود، مثقلاً بالأعباء، عاجزاً حتى الآن على الأقل عن الحركة في الاتجاه الصحيح. كان صدام حاكماً لا خلفية ثقافية له، جباراً طاغياً سفاكاً للدماء، وكان واقعاً تحت تأثير ثقافة فاسدة. ولعله كان يستلهم قراراته المرتجلة الطائشة من جمال عبد الناصر، وبذلك التقى الدافع الثقافي الصدامي، والدافع الثقافي الناصري، وكلاهما أدى بالبلاد العربية إلى الكوارث والحروب والأزمات التي لم تنته حتى اليوم. لما فشلت الوحدة بين مصر وسوريا، (من 22 فبراير 1958 إلى 28 سبتمبر 1961) غرق جمال عبد الناصر في المستنقع الآسن الذي استدرج إليه في اليمن. فكانت الحرب اليمنية (5 أكتوبر 1962-10 ديسمبر 1967) الكارثة العظمى التي أفرغت الخزينة المصرية، واستنفدت الرصيد المدخر من الذهب الاحتياطي، وفتحت أبواب الفقر في وجه الشعب المصري الذي يستحق أن يعيش حراً كريماً عزيزاً آمناً مطمئناً على يومه وغده. وكانت تلك الأوضاع التي عمت البلاد وأفقرتها واستنزفت مواردها، نتيجة لقرارات مرتجلة أبعد ما تكون عن الحكمة والنضج الفكري والدقة في الحسابات السياسية وفي قراءة العواقب والمآلات والنتائج المتوقعة. ومما يلاحظ في هذا السياق، أن جمال عبد الناصر ما كان ليسحب الجيش المصري من اليمن لو لم تحدث هزيمة يونيو 1967، لأن الحرب العربية الإسرائيلية اندلعت وجزء من الجيش المصري لا يزال موجوداً في اليمن. وتلك إحدى المآسي الكبرى الناتجة عن فساد الفكر العسكري الذي هو من آثار فساد الفكر السياسي. كذلك كانت القرارات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذها جمال عبد الناصر في مطلع الستينيات والتي تمثلت في اعتماد الاشتراكية فلسفة ومنهجاً ونظاماً للحكم والتي كان من الإجراءات التي اتخذت في إطارها التأميم وفرض سياسة الحراسات بعد الاستيلاء على الأموال والعقارات التي كانت تعود للمواطنين المصريين، ولعدد كبير من الأجانب الذين كانوا عصب الحياة الاقتصادية في مصر، كانت تلك القرارات باطلة من الوجوه كافة؛ لأنها جاءت من قيادة لم تكن لها الرؤية الثقافية الثاقبة والحس الثقافي السليم الذي يميز بين الخطأ والصواب ويفرق بين الحق والباطل. فكان الانحدار (بل الانتحار) الذي أدى إلى الهزيمة المنكرة المدمرة الكاسحة التي وقعت في شهر يونيو من سنة 1967، والتي يتحمّل المسؤولية الأساس فيها، جمال عبد الناصر، قبل رفيقه وشريكه في الحكم عبد الحكيم عامر. وكلا الرجلين كان بلا ثقافة واقية عاصمة لهما تحميهما من الشطط والارتجال والانزلاق إلى مهاوي الفشل والخذلان. وهذا أمرٌ غريب جداً، لأن الرجلين نبتة من مصر موطن الثقافة والحضارة والرقيّ الإنساني. ولكن هكذا كانت الحال بعد أن حصل ذلك الانفجار الكبير الذي هزَّ مصر وزجَّ بها في متاهات دامت عقوداً. في موسم الحج هذه السنة، اتفق أن جلست في بهو الفندق الذي نزلت فيه في المدينةالمنورة، في انتظار الحافلة لتعود بنا إلى مكةالمكرمة، مع طبيب سوري تخرج في إحدى الجامعات الإسبانية، ومع أستاذ بجامعة الخليل من القدسالمحتلة. وساقنا الحديث إلى موضوع حرب رمضان/أكتوبر سنة 1973. فإذا بالطبيب السوري يفاجئني برأي غريب مريب حول مشاركة القوات المسلحة الملكية في المعارك التي جرت في الجولان السوري وحول موقف جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله من تلك الحرب. سألته من أين جاء بهذا الرأي، فكان جوابه أنه سمعه من محمد حسنين هيكل من قناة الجزيرة. فما كان مني، على الرغم من أننا في موسم الحج، إلا أن رددت عليه بالقول : «هيكل ليس مصدراً موثوقاً، هيكل يدلس، ويكذب، ويزور التاريخ». فعقب على ما وصفت به هيكل بقول عجيب : «ولكن هيكل مشهور، ويظهر كل أسبوع في الجزيرة». ولا أخفي أن هذا الكلام أثارني، لأنه يعبر عن رأي عام واقع تحت تأثير قناة تعمل من أجل تخدير العقل العربي، وتزييف حقائق التاريخ وحقائق الحاضر. و(الجورنالجي) إيّاه هكذا يطلق على نفسه أحد فرسان هذا التخدير والتزييف. ولا غرو، فهذا الصحافي هو الذي صنع الأوهام التي استولت على فكر عبد الناصر واستبدت به، وصال وجال في عهده، حتى كان عقله ولسانه وقلمه، وجرَّ صاحبه ووليّ نعمته إلى التهلكة. وإذا انتقلنا إلى منطقتنا، فسوف نجد أن التوتر الذي يسود العلاقات المغربية الإسبانية على سبيل المثال يعود في كثير من أسبابه، إلى الدافع الثقافي. لقد كان إلغاء استخدام اللغة الإسبانية واستبدال اللغة الفرنسية بها في شمال المغرب أولاً، ثم في الصحراء المغربية، عنصراً رئيساً في حسابات إسبانيا بخصوص تعاملها مع المغرب. وهو عنصر قد لا يكون ظاهراً على السطح، ولكنه جزء أساس من السياسة التي تنهجها مدريد وتقيم على أساسها علاقاتها مع بلادنا. فهذا الدافع اللغوي، هو دافع ثقافي في العمق والجوهر، كان ولا يزال له تأثيره القوي في توتر العلاقات بين الجارين. أضف إلى ذلك أن إسبانيا، وعلى الرغم من التطور الكبير والتحول الواسع المدى اللذين تحققا لها ودفعا بها إلى صف الدول الأوروبية ذات الوزن والمكانة، فإنها لا تزال خاضعة، بشكل أو بآخر، للرواسب التاريخية التي تشكل قاسماً مهماً من قسمات الرؤية الإسبانية إلى المغرب حتى في عصرنا الراهن. ذلك أن المغرب في الذاكرة الجماعية للإسبان، هو (المورو) الموصوف عندهم بالتخلف والتعصّب والكراهية التي يكنها لبلادهم. وإن كنا لا نستطيع أن نعمم هذا الوصف، لأن ثمة قطاعاً واسعاً من الشعب الإسباني يرتقي فوق هذا المستوى، وينظر إلى المغرب باعتباره بلداً جاراً يتوجب على إسبانيا أن تعامله بما يستحق من احترام. ولكن هذا الرأي، في العموم، محدود الأثر في السياسة الإسبانية، ولدى الرأي العام الإسباني. ولذلك فإن جزءاً كبيراً من التوتر الذي يسود العلاقات المغربية الإسبانية في هذه المرحلة، كما في المراحل السابقة، هو من أثر ذلك الانطباع الذي يحمله غالبية الإسبان عن المغرب. ولا يمكن أن نتجاوز السياسة التي انتهجها المغرب في استبدال اللغة الفرنسية باللغة الإسبانية في الشمال منذ سنة 1956، وفي الصحراء المغربية منذ سنة 1976. فلقد كان وراء تلك السياسة عوامل ثقافية تمثلت في هيمنة اللغة الفرنسية على اللغة العربية وفرض الثقافة الفرنسية على الثقافة العربية. فمهما تكن المبررات السياسية والدواعي العملية التطبيقية التي أوجبت انتهاج تلك السياسة، فإن الدافع الثقافي كان له التأثير القويّ، لأن الأطراف التي عملت على نشر اللغة الفرنسية واعتمادها لغة للإدارة وللحياة العامة في المنطقتين من الوطن اللتين كانتا خاضعتين للاستعمار الإسباني، كانت تتحرك بدوافع ثقافية، وكانت واقعة تحت تأثير الثقافة الفرنسية. ولا تزال هذه الدوافع الثقافية تعمل عملها إلى يومنا هذا. ولا يبدو في الأفق أنها ستضعف وتتلاشى، ليعود الوضع إلى طبيعته، وهي تعميم اللغة الوطنية في جميع التراب الوطني. في كتابه الرائع (العلاقات الصعبة : المغرب وإسبانيا) –las relaciones dificiles, Marruecos y España- يحلل الأستاذ محمد العربي المساري طبيعة العلاقات المغربية الإسبانية، ويفككها بمنهج تاريخي ثقافي، ومن خلال رؤية نافذة إلى التاريخ المشترك بين البلدين، بحيث يستنبط الوثائق التاريخية في المصادر المغربية والإسبانية على السواء، وينظر في ضوئها إلى الحاضر والمستقبل. وقد صدر الكتاب باللغة الإسبانية عن دار (ALMUZARA) الإسبانية. وهو كتاب يستحق أن يترجم إلى اللغة الفرنسية أولاً، حتى يطلع من يعاكس تيار تعزيز العلاقات المغربية الإسبانية على حساب العلاقة مع فرنسا، على الحقائق التاريخية التي تجعل تقوية الارتباط بين الجارين خياراً استراتيجياً يعدّ عدم الاهتمام به والعمل على تجسيده في الواقع المعيش، تفريطاً في حقوق الوطن. إن الدوافع الثقافية هي التي تنسج العلاقات المغربية الإسبانية. ولذلك فإن التوتر الذي يسود هذه العلاقات اليوم، لا سبيل إلى معالجته والتغلب عليه، إلا باعتماد الرؤية الثقافية عنصراً رئيساً في تعامل الدبلوماسية المغربية مع إسبانيا. أليس مثيراً للاستغراب، أن الصحافة المغربية تكاد تخلو من متابعة ما يجري في إسبانيا، إنْ في المجالات السياسية والاقتصادية والبرلمانية والجماعات المحلية، أو في مجالات العلوم والتكنولوجيا والتربية والتعليم والثقافة والآداب والفنون، في حين أن للصحف الإسبانية مراسلين مقيمين في المغرب يتابعون ماجريات الأحداث وينقلون صورة عنها إلى القارئ الإسباني. إن حجم المادة الإسبانية في الصحافة المغربية، لا يقارن إطلاقاً بحجم المادة المغربية في الصحافة الإسبانية على تعدّد اتجاهاتها، وبغض النظر عن الالتزام بالموضوعية والنزاهة المهنية من عدمه، بينما الحجم الذي تحتله المادة الفرنسية في الصحافة المغربية، يفوق أحياناً، الحيز الذي يخصص للمواد الوطنية. في فترة ما، كان المغرب يوفد إلى مدريد سفراء لا يعرفون اللغة الإسبانية، وكان ذلك ينعكس على مستوى العلاقات بين البلدين. وفي جميع الأحوال، فإن المغرب كان يتصرف بقوة الدافع الثقافي، سواء أكان يشعر بذلك أم لم يكن يشعر. وكان الإسبان يضعون هذه المعاملة في ميزان حساباتهم التي تراكم رصيدها مع توالي الأيام، مما يدفعهم إلى التعامل مع المغرب بما لا يرضيه، وأحياناً بما يتعارض مع مصالحه الوطنية، إنْ على المستوى الحكومي أو على المستوى الشعبي. تأكد عندي من خلال الاطلاع على كتاب الأستاذ محمد العربي المساري (الذي لم يصل إلى الأسواق المغربية، وحصلت على نسخة منه، من خلال شقيق لي في إسبانيا)، أن العامل الثقافي في المعادلة السياسية المغربية الإسبانية، هو عاملٌ رئيسٌ وأساسٌ، ينبغي أخذه في الاعتبار، والانطلاق منه في الجهود التي تبذل الآن، على مستوى الدبلوماسية المغربية، للتخفيف من حدة التوتر في العلاقات بين البلدين ولتنقية الأجواء بين الرباطومدريد. وفي الأحداث التي تجري اليوم في المنطقة العربية، نشاهد التأثير القوي النافذ للدوافع الثقافية في العمل السياسي في مظاهر عديدة، في لبنان، وفي العراق، وفي إيران، وفي السودان، وفي أفغانستان، وفي باكستان، وفي الصومال، حيث تتصارع الأفكار والإيديولوجيات الناتجة عن العوامل الثقافية، أو العوامل السياسية ذات الجذور الثقافية، مما يؤكد لنا أن أثر الدافع الثقافي في العمل السياسي ملموس وحقيقة ثابتة، مما يقتضي مراعاة هذا الدافع في معالجة المشاكل السياسية وتسوية الأزمات والتوترات التي تحدث في العلاقات الثنائية بين الدول.