بلا مواربة "لوموند" تستغبي "tout le monde" عبد الإله حمدوشي نشر في 28 أغسطس 2025 الساعة 0 و 09 دقيقة المفارقة أن الصحافة الفرنسية نفسها لم تعد قادرة على فهم بلدها. والشاهد عندنا أن "لوموند" نفسها لم تتوقع زلزال "السترات الصفراء"، ولم تستوعب كيف فقدت الثقة بين الدولة والمجتمع في فرنسا. لكنها فجأة، حين يتعلق الأمر بالمغرب، تتحول إلى مرجع وتحاول أن تشرح لنا مستقبل الملكية كما لو كانت تملك مفاتيح السر! عبد الإله حمدوشي [email protected]
بداية هذا الأسبوع، خصصت جريدة "لوموند" الفرنسية مادة بعنوان مثير: "أجواء نهاية عهد محمد السادس"، قالت إنه "تحقيق"، لكنه في الحقيقة لا يرقى حتى إلى مقال رأي منحاز، فقد بدا محض مادة كتبت بنفَس من يبحث عن الإثارة الرخيصة أكثر ممن يبحث عن الحقيقة، وبلغة توحي أن هناك رغبة واضحة في ضرب صورة المؤسسة الملكية والمغرب بشكل عام.
بإطلالة سريعة وعلى مضض، تجد أن النص ركز على ثلاث نقاط: الحالة الصحية لجلالة الملك، مسألة تحضير ولي العهد الأمير مولاي الحسن لتولي العرش، وحديث عن صراع أجنحة في النخبة الحاكمة، وذلك من خلال صيغ تحاول إظهار المغرب في صورة من يعيش على حافة هاوية، وكأن البلاد في "مرحلة انتقالية خطيرة"!
مقال لا يحتاج معه القارئ المتتبع للشأن المغربي إلى كثير ذكاء ليدرك أن هذه المادة جزء من تقليد قديم في الصحافة الفرنسية: التنبؤ بسقوط الملكية في المغرب. إنه تقليد عمره نصف قرن على الأقل. ففي الستينيات والسبعينيات، كتبت صحف باريسية عن "ضعف نظام الحسن الثاني"، وعن "اقتراب نهايته". وبعد محاولات الانقلاب، قيل إن العرش لن يصمد.. لكن النتيجة كانت أن الحسن الثاني خرج أقوى، وجعل المغرب استثناء في محيط ملتهب.
في التسعينيات، قبل وفاة الحسن الثاني، توقعت صحف فرنسية "سنوات الفراغ" و"خطر انهيار الملكية"، لكن ما حدث هو انتقال سلس للسلطة، وبدء عهد جديد مع محمد السادس، عرفت فيه المملكة إصلاحات ومشاريع كبرى وانفتاحا حوّل نبوءاتهم إلى ورق مهمل، فيما وقائع المغرب على الأرض سارت في اتجاه آخر تماما.
اليوم تعيد "لوموند" إنتاج نفس الخطاب القديم بالحديث عن صحة الملك التي لا يتوانى جلالته في إخبار المغاربة عنها إبان كل تطور وبالآليات التواصلية الرسمية المعروفة، لذلك فإن المغاربة ليسوا في حاجة إلى عرافة تقرأ الفنجان وتبيعهم أوهام مستقبل ملكهم ومملكتهم في ثوب "تحقيق صحفي" مزعوم.
المفارقة أن الصحافة الفرنسية نفسها لم تعد قادرة على فهم بلدها. والشاهد عندنا أن "لوموند" نفسها لم تتوقع زلزال "السترات الصفراء"، ولم تستوعب كيف فقدت الثقة بين الدولة والمجتمع في فرنسا. لكنها فجأة، حين يتعلق الأمر بالمغرب، تتحول إلى مرجع وتحاول أن تشرح لنا مستقبل الملكية كما لو كانت تملك مفاتيح السر!
الذي تغفله "لوموند"، أو تتعمد إنكاره، أن علاقة المغاربة بملكهم ليست علاقة دستورية فقط. فهي علاقة ممتدة في التاريخ والوجدان، تجعل من الملكية مؤسسة راسخة في قلوب الناس قبل أن تكون في نصوص القانون. وهذه العلاقة هي التي أعطت للمغرب استقرارا في زمن الأزمات، وهي التي تجعل أي محاولة لتصوير الوضع وكأنه "أجواء نهاية عهد" مجرد إسقاطات من خارج السياق.
ثم إن المغاربة، الذين عاشوا كل هذه التنبؤات منذ حوالي نصف قرن، صاروا ينظرون إليها بسخرية ويعرفون أن وراء هذه المقالات حسابات سياسية ودبلوماسية وإعلامية، ويعرفون أيضا أن المؤسسة الملكية تزداد قوة كلما جرى استهدافها، لأنها بالنسبة لهم رمز الوحدة والضامن الأخير للاستقرار.
من يتأمل مسار "لوموند" يدرك أن ما يهددها اليوم هو فقدان المصداقية، فالصحافة التي تخلط بين التحقيق والخيال، والتي تستبدل الحقائق بالرغبات، تكتب نهايتها بيدها. أما المغرب الذي عاش نصف قرن من "نبوءات الفشل" القادمة من باريس، فإنه ماي زال صامدا وقويا في بحر التطورات الدولية المتقلبة أمواجه، بينما بعض من تنبؤوا له بالنهاية انتهوا إلى الهامش.
في النهاية، ما كتبته "لوموند" لا يخرج عن دائرة التنجيم عن بلد يسير بإيقاع مختلف، فالمغرب اليوم في معركة دائمة من أجل التموقع كقوة إقليمية صاعدة. صحيح أنه لا أحد ينكر أن لكل تجربة تحدياتها ومشاكلها التي تسعى إلى حلها، لكن تحويل الصعوبات إلى "أجواء نهاية عهد" هو نوع من النبوءة الكسولة، التي لا تليق بجريدة يفترض أنها من "كبار الصحافة". لذلك، فلا غرابة أن يقرأ المغاربة مقال "لوموند" بابتسامة سخرية، وكأنهم يقولون للجريدة الفرنسية: "لوموند" تستغبي tout le monde.. بمعنى "لوموند" تضحك على العالم!