يوم بيوم نور الدين مفتاح يكتب: هوامش من وحي عطلة نور الدين مفتاح نشر في 17 سبتمبر 2025 الساعة 10 و 39 دقيقة وحتى إذا كان هناك حق لإسرائيل في أن ترد على المقاومة، فإن هناك ما يسمى «التناسب» كمبدأ أخلاقي وقانوني. لكن أن يصل الأمر إلى حد إبادة شعب كامل مقابل عملية واحدة، فهذا عمل قذر لا إنساني لحكومة دموية لا تستحق أن يصادقها أو يصافحها عاقل. نور الدين مفتاح [email protected]
بهذا الصباح الممطر بخجل، تحمِلنا الطبيعة نفسيا إلى طي صفحة الصيف القائظ دون أن نطوي ما حبل به من أحداث ووقائع ومواجهات وإنجازات وتعثرات. وحتى إن لم يكن فصل العطل قد شهد تفجير قنابل من العيار الثقيل كما يقال – فإنه بالتأكيد ترك في القِدْر ما يطبخ ومن الأثر ما يستحق التحليل والتشريح للدرس والعبرة.
ونحن نكتب هذه السطور أقدمت إسرائيل على عملية غادرة باستهداف وفد حماس المفاوض في عاصمة دولة قطر. وإن كان القياديون الحمساويون قد نجوا، وفشلت عملية الاغتيال، فإن اختراق سيادة دولة وسيطة وحليفة للولايات المتحدة، احتضنت عشرات المرات الوفود الإسرائيلية المفاوضة يعتبر جنونا غير مسبوق، ومروقا مروعا تجاوز كل الخطوط الحمراء، ورسالة موجهة إلى الشرق الأوسط بأن الدولة الصهيونية لا أصدقاء لها، وأنها يمكن أن تضرب متى تشاء حتى أخلص حلفائها والمحميين بالمظلة الأمريكية !
في العطلة كانت المجازر في غزة قد تواصلت بشكل أبشع، فانضافت إلى الإبادة الجماعية جرائم التجويع، واستمر ثلاثي الموت نتنياهو وبن غفير وسموترتيش في تحدي العالم والتلذذ بالانتقام الأسود من العزل والأطفال في حرب قل نظير بشاعتها في التاريخ، بل إن الصهاينة استهدفوا عمدا الصحافيين وقتلوا أكثر من 240 زميلا آخرهم أنس الشريف، الذي قالوا إنه كان ينتمي إلى حركة حماس في شرعنة بئيسة للقتل ومحاولة طمس الحقيقة واغتيال الشهود من الصحافة.
لنطرح السؤال الحساس بلا مواربة: هل كان سيقع ما وقع لولا مبادرة حماس بإطلاق طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023؟ هناك بالطبع من يجيب بما يجعل جماعة الراحل يحيى السنوار هي السبب في المجازر التي وقعت في القطاع، وهناك من يعتبر أن مقاومة الاحتلال تهور ومجازفة وانتحار، وهناك من يركز على البعد الإيديولوجي للحركة ويعتبر كل ما له علاقة بالإسلام السياسي هو صنو للتآمر والتطرف.
وأعتقد أن أصحاب هذه الأجوبة كانوا من الأصل أقرب إلى إسرائيل منهم إلى فلسطين، وقبل طوفان الأقصى وصلوا إلى حدود غير مسبوقة في إعلان هذا التناغم مع تل أبيب، والاحتفاء بقادتها، والإشادة بقوتها، بل هناك من وصل إلى حدود الهيام بها في تعبيرات تجاوزت الإكراهات السياسية للتطبيع. ولهذا، كان طوفان الأقصى نكسة لهؤلاء، وفرملة لاندفاعاتهم التناغمية مع دولة الاحتلال، وإحراجا كبيرا لمواقفهم. وعندما وصل الكيان الصهيوني في انتقامه الأعمى إلى حدود يكاد يتوازى فيها مع الجرائم النازية، عادوا ليحمّلوا المقاومة وزر ما يحدث. هذا في وقت تتحرك فيه قوى غربية ضد هذه الإبادة الجماعية، وتتخذ فيه دول مناصرة في العادة لإسرائيل مواقف مشرفة، وإن لم تكن كافية لوقف الجرائم ضد الإنسانية، فإنها على الأقل كانت أكثر جرأة وإنسانية من مواقف عرب ومسلمين إما صمتوا أو تشفوا حين تكلموا، أو حملوا الضحية وزر ما يقع ضدها من جرائم.
إن القضية من الأساس هي قضية احتلال، وأمام كل احتلال تكون المقاومة مشروعة، ولولا هذه المقاومة لبقيت فرنسا تحت نير النازية ولبقيت شمال إفريقيا تحت الحماية أو الاستيطان أو الاستعمار الفرنسي والإسباني والإيطالي. المقاومة واجب وشرف وليست ترفا، والاحتلال الصهيوني مع حكومة نتنياهو وقبل طوفان الأقصى تجاوز كل الحدود. بن غفير سلح المستوطنين وسموتريتش أغدق على المستوطنات ويكاد القضم في الضفة الغربية أن يجعل ما يسمونها بيهودا والسامرة كقطعة جبن سويسرية. وأكثر من هذا وصلوا في انتهاكهم للمسجد الأقصى مواصل غير مسبوقة في التاريخ، وأذكر أن احتجاجات السلطة الفلسطينية ملأت الآفاق، بينما هددت حماس بالرد إذا لم يتوقف العدوان على أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وتعنتت حكومة الكيان الصهيوني المتطرفة، فكان السابع من أكتوبر الذي حمل اسم طوفان الأقصى ليدل على أن الأمر عملية دفاعية مشروعة ضد الاحتلال وغطرسته وتعديه على المقدسات الإسلامية.
وحتى إذا كان هناك حق لإسرائيل في أن ترد على المقاومة، فإن هناك ما يسمى «التناسب» كمبدأ أخلاقي وقانوني. لكن أن يصل الأمر إلى حد إبادة شعب كامل مقابل عملية واحدة، فهذا عمل قذر لا إنساني لحكومة دموية لا تستحق أن يصادقها أو يصافحها عاقل.
وإذا كان الأمر حقيقة يتعلق بالرد على طوفان الأقصى، فما الداعي اليوم لاستهداف الضفة الغربية والإعلان الصريح للمسؤولين الصهاينة عن بسط سيادتهم عليها وتصفية القضية الفلسطينية وتمزيق اتفاقات أوسلو وإنهاء حل الدولتين والحسم بألا تكون إلا دولة واحدة بين البحر والنهر هي دولة إسرائيل!! بل وصل الأمر إلى حدود إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذا الصيف في لقاء تلفزيوني، بأنه يؤمن بإسرائيل الكبرى، وهذا لا يعني ابتلاع ما تبقى من فلسطين فحسب، بل قضم جزء من مصر ومن لبنان ومن سوريا ومن الأردن ومن السعودية! وكل رد الفعل العربي كان هو إصدار بيانات استنكار، فهل ستمحو هذه البيانات الأهداف الاستراتيجية لعدو مدعوم من أكبر قوى عالمية، يريد دَمارك وأنت تعامله كصديق؟!
لم يحجب هذا الانشغال المركزي بالنسبة للعبد لله خلال العطلة، الانشغال بقضايا محلية فرضت حضورها لتزيد الصيف حرارة. وقد كانت السلسلة التي نشرتها جريدة «لوموند» الفرنسية بعنوان مستفز هو «لغز الملك محمد السادس» على امتداد 6 حلقات قد خلقت زلزالا إعلاميا وسياسيا في المملكة. وعلى الرغم من أن ما ورد في هذه الحلقات هو مجرد تجميع للكثير من الروايات المعروفة والأخبار غير المؤكدة، وبعض الاستيهامات المحشوة في بعض المعطيات الاقتصادية والاجتماعية، فإن تقديري أن ما قوى ما نشرته «لوموند» هو بالضبط ردود الفعل عليها، مع أن هذه الجريدة ما هي إلا صحيفة ضمن باقي الصحف تصيب أحيانا وتبالغ وربما تستهدف أحايين أخرى.
هناك صحف كثيرة في العالم تنزلق أحيانا وتتحامل وتتجاوز، ولكنها تضع مصداقيتها في الميزان، فهل مملكة قوية بنفوذها وتاريخها واستقرارها يمكن لمقال أن يهددها؟ ألم تكتب مئات المقالات، بل الكتب، أسوأ مما كتبته لوموند خلال 26 سنة من حكم الملك محمد السادس شفاه الله ؟ فهل كان لها أثر؟
إن المشكل في هذه القضية ليس في لوموند، ولكن في هذا المد الفرنكفوني الذي مازال يتعمق لدى جزء من النخب ويهيمن على إعلامنا وثقافتنا وتعليمنا.
صحيح أن لنا ارتباطا استثنائيا ثقافيا بفرنسا كمستعمر سابق، ولكن هذا الارتباط لا يجب أن يستمر في شكل استلاب، وأن نعتبر ما يكتب خارج فرنسا وإن كان أكثر إساءة لنا ولثوابتنا هينا، وما يكتب في باريس هو الأخطر. يضاف إلى هذا أننا عشنا مع فرنسا أكثر من ثلاث سنوات من التوتر العالي وتبادلنا المواجهات، وكانت هناك إساءات أكبر لرموز البلاد، ورغم ذلك لم يصل الأمر إلى حدود ما جرى مع «لوموند» ونحن اليوم في شبه شهر عسل مع الدولة الفرنسية التي اعترفت عمليا بمغربية الصحراء.
لا أعتقد أنه يجب أن تكون عندنا عقدة من الصحافة الأجنبية، وللأسف هذا موجود ويكرسه الكثير من المسؤولين الذين يعتبرون الصحافة المغربية أقل شأنا ودرجة، وهذا يكرسه أيضا واقع قطاعنا الذي أدخل الصحافة المغربية في نفق أقل ما يقال عنه أنه سوريالي. وواحد من أمثلته هو ما يجري اليوم في قانون المجلس الوطني للصحافة وتصنيف أهمية الصحف بحجم رأسمالها! وهذا غيض من فيض أصبح له منظروه بيننا الذين يبشروننا باختراع العجلة في القطاع وما هم في الحقيقة سائرون إلا باتجاه خراب روما.
الصحافة الحقيقية توزن بميزان المصداقية والاستقلالية والمهنية واحترام المجتمع وخدمته، والبحث عن الحقيقة والحفاظ على الأنفة المهنية. وحينئذ يمكن إعادة بناء الثقة مع المواطن، وهذا هو الطريق الوحيد لإعادة جزء من الحياة لقطاع في غرفة الإنعاش، وجعله متراصا بالصدق في الدفاع عن الحق في المعلومة، والرقابة على ممارسي الشأن العام، وخدمة القضايا الوطنية بإعمال النقد البناء وأخذ المسافات اللازمة مع كل السلط الأخرى.
فهل هذا هو ما يجري اليوم؟ بالطبع لا ! وإلا لما كان هناك إجماع على أن المشروع الذي تحتضنه الحكومة مع طرف مهني واحد أوحد هو أسوأ السيناريوهات التي لن تكرس الواقع المأساوي الذي نعيشه فحسب، بل سترسم ملامح مستقبل أسوأ لصحافة ضعيفة متشرذمة عمادها الرأسمال المتأتي من الدعم العمومي، وخطها التحريري هو الشراسة والانتقائية في الالتزام الأخلاقي، ومحاصرة ما تبقى من أصوات حرة.
الصحافة الوطنية القوية هي الرد الأقوى على الصحافة الأجنبية حين تجمح، وإضعاف هذه الصحافة هو هدية لكل من يستهدف المغرب ومؤسساته. ودخول موفق للجميع.