يوم بيوم نورالدين مفتاح يكتب: ليلة سقوط الأقنعة نور الدين مفتاح نشر في 4 ديسمبر 2025 الساعة 15 و 10 دقيقة منذ ليلة الخميس الماضي وإلى اليوم، وأنا ما زلت على وقع الصدمة. ومنذ أن شاهدت الفيديو المنسوب لاجتماع للجنة التأديب وأخلاقيات المهنة باللجنة المؤقتة لتدبير شؤون الصحافة وأنا فاقد للقدرة على التصديق، أو على الأقل على الاستيعاب. هل يمكن أن يصل الاستهتار إلى هذه الدرجة؟ هل يمكن أن يحمل صدر بني آدم […] نور الدين مفتاح [email protected]
منذ ليلة الخميس الماضي وإلى اليوم، وأنا ما زلت على وقع الصدمة. ومنذ أن شاهدت الفيديو المنسوب لاجتماع للجنة التأديب وأخلاقيات المهنة باللجنة المؤقتة لتدبير شؤون الصحافة وأنا فاقد للقدرة على التصديق، أو على الأقل على الاستيعاب.
هل يمكن أن يصل الاستهتار إلى هذه الدرجة؟ هل يمكن أن يحمل صدر بني آدم كل هذا الحجم من الحقد؟ هل كان بالإمكان تصور هذا الدرك الذي يمكن أن تسقط فيه القيم والأخلاق عند من كانوا يلبسون أقنعة «الحكماء»؟ هل كنا فعلا في تسجيل لجلسة محاكمة زميل أم في فيلم هيتشكوكي يصور جريمة كاملة الأركان؟ هل مازال بالإمكان الحديث منذ نهاية الأسبوع الماضي عن التنظيم الذاتي أو حرمة المهنة أو الزمالة أو نبل رسالة الصحافة؟!
وعلى الرغم من أن هذه القضية غدَت من أكبر الفضائح التي تابعها المغاربة، فلابد أن ألخص الوقائع: تمت متابعة الزميل حميد المهداوي بإحالة ذاتية من اللجنة على لفظ قاله في تصريح صحافي عقب جلسة من جلسات محاكماته ضد وزير العدل عبد اللطيف وهبي، وهو لفظ «صلگوط». وبالرغم من غرابة استعمال الإحالة الذاتية على مجرد كلمة متداولة، في حين أن الفضاء مليء بالمجازر الأخلاقية اليومية التي لا تحرك إزاءها اللجنة المؤقتة سبابة، فإن المهداوي حضر ليدافع عن نفسه، فكان أول فصل من فصول المأساة هو رفض حضور هيئة دفاعه بدعوى أنه لا يقبل منه إلا محام واحد. انسحب المهداوي فبدأت المهزلة، رئيس اللجنة ينعت الزميل حميد بالشاذ جنسيا، وعضو باللجنة ينعت المحامين ب«المصديين»، واللجنة تتآمر لسحب بطاقته كي يتابع في القضايا التي حركها ضده وزير العدل بالقانون الجنائي، عضو يحمل الهاتف ويأخذ حكم الإدانة من جهة خارجية، واللجنة كانت تريد أن تسحب بطاقة المهداوي لسنتين لكن سيتبين أنها لا تعرف حتى القانون الذي تحكم به والذي لا يخول لها إلا سنة واحدة كأقصى عقوبة، فيعود عضو ليقول بانتشاء إنه وجد ما يعوض به القسوة التي لا يسمح بها القانون، وهو اقتراح توقيف الدعم العمومي عن صحيفة المهداوي لمدة ثلاث سنوات، فتبرق عيون السيدة العضوة أمامه ويتصافحا ويطلقا الرصاصة التي أصابتنا جميعا في مقتل حين يقول مفاخرا: «ها التشيطين ها التشيطين!» وفي موضع آخر تقول العضوة: «المهم نرزيوه»!
وبذات النفس الانتقامي يواصل العضو الأكثر نشاطا في عنترياته ويُخرج طلقة أخرى من مسدس الوضاعة: «أنا تابع دين مّو في القضاء». يدخل رئيس اللجنة المؤقتة وهو المفروض أن يطعن عنده المهداوي في الحكم، ويجلس ليشارك في جلسة نهش لحم المتابَع، وعندما يخبرونه بتفاخر أن الرئيس قال للمهداوي: «شكون أنت» يعقب أنه كان يجب أن يقول له «شكون طاسيلتك» ثم تتوج هذه الجلسة التآمرية بأفعالها المافيوزية بطلب رئيس الأخلاقيات من رئيس اللجنة المؤقتة أن يتصل برئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية عبد النباوي ليتدخل ضد المهداوي عن طريق ما أسماه «petit mot» ويتجاوب المعني بترحيب، بل وتناقش لجنة الأخلاقيات خارج اختصاصها حرمان المهداوي من تجديد بطاقة صحافته، ويتخذ القرار الذي من المفروض أن تتخذه لجنة البطاقة، وهذا غيض من فيض متقيح نتن.
إن هذا الزلزال غير المسبوق الذي هز عرش صاحبة الجلالة في المملكة وصلت درجته إلى الأقصى على سلم ريشتر للألم والصدمة، فلم تعد القضية مرتبطة بتآمر كامل الأركان ضد الزميل حميد المهداوي، ولكنها أصبحت قضية فضح مخطط تم فيه السطو على قطاع حيوي بالنسبة للديموقراطية، لتدجين الصحافة والقتل الرمزي لكل من بقي ممسكا بالحد الأدنى للاستقلالية والجرأة في قول كلمة حق.
كان الشريط القنبلة كشفا لما كان يدبر بليل ضد كل من يمكن أن يرفض التواطؤ مع قتلة الحقوق وأعداء الكفاءة والجدية. وشخصيا، لم أكن أتصور أن تصل ترددات الزلزال إلى خارج قطاعنا المنكوب، ولكن الأمر أصبح واحداً من أكبر قضايا الرأي العام التي عرفها المغرب، وأحسست من خلال تسونامي ردود الفعل المجتمعية التي لم تتوقف إلى حدود كتابة هذه السطور أن كل مغربي ومغربية شعروا أنهم معنيون بهذا الظلم الكبير، وأن الأمر جلل، لأنهم كانوا يسمعون عن المؤامرات، ولكن لم يسبق أن شاهدوها تتدفق أمامهم صوتا وصورة. ومن يفترض أنهم حماة الأخلاق المهنية حوّلوا قاعة اجتماع إلى مجزرة سلخوا فيها المهداوي معلقا كما تسلخ الشاة بعد الذبح.
والمصيبة الأكبر من الإجهاز على صورة الصحافة، هي أن المواطن العادي الذي لا يميز بين «قضاء الزملاء» والقضاء العادي، تكونت عنده صورة خطيرة عن بلده، واعتقدَ أن المحاكمات الجنحية والجنائية قد تمر مداولاتها كما مرت جلسة الإجرام الأخلاقي في قبو اللجنة المؤقتة، وأن الظلم بالأحكام الجائرة قد يصل إلى هذه الحدود من التفسخ والقذارة والانحطاط، خصوصا وأنه رأى مسؤولين عن المهنة بلغوا من العمر عتيا يتحدثون عن التدخل في القضاء والمس باستقلاليته بكل أريحية، وكأن السلطة القضائية مفتوحة لهم لتجاوز القانون! هؤلاء المغاربة هم الذين انتفضوا وبكوا الواقع، ثم صرخوا فتهكموا بل وأبدعوا رسوما وألفوا أغنية في الموضوع. وكالعادة، كانت السخرية هي الرد الأكثر سوادا على القسوة والظلم. إنها فعل تصدي ومقاومة.
كان المنطقي من جهة أخرى أن تكون هذه المجزرة الأخلاقية ضربة قاضية لصورة الصحافة والصحافي في المغرب، ولكن الذي جرى هو أن الرأي العام ميَّز في هذا الموضوع بين فسطاطين، فسطاط التآمر والتحلل والدسيسة، وفسطاط الاستقلالية والحرية والجدية في العمل الصحافي. لقد كان لوجود طرفي مواجهة من نفس القطاع دور في ذلك، وكان للضحية الذي أريد إخراجه من الانتماء للصحافة دور في هذا التمييز، بحيث كانت النتيجة هي أن الذي تضرر في نهاية المطاف هو مخطط تدجين الصحافة ورسملتها وجعل المتحكم فيها هو رقم المعاملات، كما هو وارد في مشروع القانون المشؤوم للمجلس الوطني للصحافة المعروض اليوم على البرلمان، وخلق تحالف مصلحي بين الرداءة والوصولية والتفاهة والتحكم.
واليوم يمكن للناس أن يفهموا ما يجري، بحيث أن آخر تنظيم مهني ولد قبل 4 سنوات أصبح هو المتحكم الوحيد في مفاصل الإعلام بتحالف مع جهة حكومية معلومة، فيما كل التنظيمات العريقة، نقابة وفيدرالية ناشرين وكل المنظمات المهنية والحقوقية ووزراء القطاع السابقين والخبراء ومجلسين دستوريين لحقوق الإنسان والاقتصادي الاجتماعي، يقفون ضد هذا المخطط ورأس رمحه المتمثل في مشروع مجلس الصحافة، ولا من متجاوب.
لقد فصل هذا المشروع ليكون التنظيم الذي ينتمي إليه كل الأعضاء الذين قاموا بجريمة المحاكمة التأديبية للمهداوي، هم المتحكمون في المجلس المقبل! فهل يعقل أن يكون المسؤول عن تأديب زملائه هو أكثرهم رقم معاملات بحيث يمكن لجريدة واحدة أن تصبح بعشرين صوتا في انتداب ممثلي الناشرين بالمجلس وليس انتخابهم!! قد لا أنتهي من تسويد الصفحات بحيث يختلط اليوم ألم الواقع والوقائع بجبال من الذكريات التي عانينا فيها من نفس المؤامرات، ولكنها ظلت حبيسة الصدور لا يعلمها إلا من اكتوى بها والله سبحانه وتعالى.
لقد كان بالإمكان أن نجري انتخابات في 2022 بكل بساطة، ولن يسمع عن المجلس إلا المعنيون به، وكان بالإمكان أن يكون وضع الصحافة أحسن انتشارا وسمعة، ولكنهم حاربوا كل من كان يشكل خطرا عليهم، بكل الأساليب التي لا تختلف عما ظهر في الشريط المصيبة وجربوا القتل الرمزي والتخويف والتصفيات المعنوية والدسائس. وها نحن في النهاية ليس بلا تنظيم ذاتي ولا مبيعات صحف ورقية ولا موارد للصحافة الإلكترونية فقط، بل بلا صحافة أصلا إلا تجارب صامدة تقاتل وسط محيط معادي للاستقلالية والحرية والكرامة.
لقد عشت منذ ولجت المعهد العالي للصحافة سنة 1983 حياة كاملة وسط القطاع، ووسط أحلام الإصلاح داخل مهنة هي رسالة قبل أن تكون مصدرا للعيش، أو هكذا تعلمنا من زمن كان فيه للقدوة مكان. الشيء الذي تغير كثيرا هو أنه خلال هذه الحياة التي كنت فيها جزءا من كل أوراش هذا الإصلاح، صحافيا ثم ناشرا ثم رئيسا لفيدرالية الناشرين ورئيسا للجنة بالمجلس الوطني للصحافة، هو أن التدافع كان دائما بين الدولة والإعلام. والتحول الأكبر الذي تم بنفس التآمر الذي كشفه الشريط الفضيحة هو أن المسار انحرف ليتحول إلى مواجهة بين جزء من الصحافة صمدت وجزء آخر أرعبته أزمة كوفيد فخضع بدعوى أن «البقاء حياً بدون مبادئ خير من أن أموت ولن تنفعني المبادئ». وهكذا تم تجزيء المجزأ وتفتيت المفتت، وسيأتي الوقت المناسب الذي نحكي فيه بالتفاصيل ما تشيب له الولدان مما جرى من مؤامرات لم يؤدّ ثمنها في النهاية إلا المواطن وحقه في إعلام نظيف ونزيه ومرفوع الرأس.
وإلى ذلك الحين، دعوني أختم بما اختتم به بلاغ وازن للفيدرالية المغربية لناشري الصحف حيث يقول إن ما جرى اليوم رغم كل ألمه قد يكون «فرصة لإنقاذ بلادنا من مخطط السطو على القطاع، ومخطط التصفية للصحافة الحرة الوطنية والجهوية، ومخطط استبدال الوظيفة الأساسية للصحافة في التأثير ومراقبة مدبري الشأن العام بمنطق التحكم برقم المعاملات، وبالتخويف والتخوين وإعلاء كلمة التفاهة التي لا تليق بمغرب العزة والإباء».
أحيي الزميل حميد المهداوي على شجاعته، وأتضامن معه. و«يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» صدق الله العظيم.