مجلس القضاء يستعرض حصيلة 2024    هذه هي المنتخبات المتوقع مواجهتها للمغرب في الدور الثاني من مونديال قطر للناشئين    تقرير: التغيرات المناخية والاستغلال المفرط يفاقمان أزمة الماء والجفاف عرى هشاشة بعض منظومات التزوّد    "واتساب" يطلق ميزة جديدة تتيح للمستخدمين الوصول إلى جميع الوسائط الحديثة المشتركة    الحكم الذاتي في الصحراء.. هل يكون مدخلاً لإطلاق مشروع ديمقراطي يواكب التنمية الاقتصادية والتحديات التي يخوضها المغرب؟    المغرب يطلق تكوين 15 ألف متطوع استعدادا ل"كان 2025″    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة تعرض تجربة الذكاء الاصطناعي في منصة "SNRTnews" بمعرض كتاب الطفل والشباب    الحكومة تطلق من الرشيدية نظام الدعم الجديد للمقاولات الصغيرة والمتوسطة    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض    بموارد ‬تقدر ‬ب712,‬6 ‬مليار ‬درهم ‬ونفقات ‬تبلغ ‬761,‬3 ‬مليار ‬درهم    المغرب ‬رائد ‬في ‬قضايا ‬التغيرات ‬المناخية ‬حسب ‬تقرير ‬أممي ‬    الحكومة تعتزم إطلاق بوابة إلكترونية لتقوية التجارة الخارجية    تستر ‬عليها ‬منذ ‬سنوات‮ ‬.. ‬    منيب تتقدم بمقترح قانون للعفو العام    ملايين اللاجئين يواجهون شتاء قارسا بعد تراجع المساعدات الدولية    تفجير انتحاري يوقع 12 قتيلا بإسلام أباد    الصين تدعم التعاون الأمني مع المغرب    الجزائر ‬تجرب ‬جميع ‬أوراقها ‬في ‬مواجهة ‬الانتكاسات ‬الدبلوماسية ‬    رونالدو يكشف أن مونديال 2026 سيكون الأخير له "حتما"    خط جوي جديد بين البيضاء والسمارة    رصاص الأمن يشل حركة مروج مخدرات    انقلاب "بيكوب" يرسل 17 عاملا فلاحيا لمستعجلات تارودانت    التامك يغيب لأول مرة عن مناقشة ميزانية السجون في مجلس النواب.. ما علاقة ذلك ب"إهانته" قبل عام؟    "SNRTnews" تبرز تجربة الذكاء الاصطناعي في إنتاج الأخبار    مهرجان الدوحة السينمائي 2025 يكشف عن قائمة المسابقة الدولية للأفلام الطويلة    الكاتب ديفيد سالوي يفوز بجائزة بوكر البريطانية عن روايته "فلش"    الشاعرة والكاتبة الروائية ثريا ماجدولين، تتحدث في برنامج "مدارات " بالإذاعة الوطنية.    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    ألمانيا تضع النظام الجزائري أمام اختبار صعب: الإفراج عن بوعلام صنصال مقابل استمرار علاج تبون    المنتخب المغربي يخوض أول حصة تدريبية بالمعمورة تأهبا لمواجهتي الموزمبيق وأوغندا    الحسيمة: مرضى مستشفى أجدير ينتظرون منذ أيام تقارير السكانير... والجهات المسؤولة في صمت!    350 يورو مقابل التقاط صورة ومقعد على مائدة والدة النجم يامال    مجلس الشيوخ الأميركي يصوّت على إنهاء الإغلاق الحكومي    وزير الداخلية يبدأ مرحلة ربط المسؤولية بالمحاسبة؟    احجيرة: نتائج برنامج التجارة الخارجية لا تُعجب.. 40% من طلبات الدعم من الدار البيضاء.. أين المجتهدون؟    إيران تعدم رجلًا علنا أدين بقتل طبيب    مع تعثّر انتقال خطة ترامب للمرحلة التالية.. تقسيم قطاع غزة بات مرجحاً بحكم الأمر الواقع    أتالانتا الإيطالي ينفصل عن مدربه يوريتش بعد سلسلة النتائج السلبية    كيوسك الثلاثاء | المغرب يعزز سيادته المائية بإطلاق صناعة وطنية لتحلية المياه    خمسة آلاف خطوة في اليوم تقلل تغيرات المخ بسبب الزهايمر    تغير المناخ أدى لنزوح ملايين الأشخاص حول العالم وفقا لتقرير أممي    انخفاض طلبات الإذن بزواج القاصر خلال سنة 2024 وفقا لتقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية    رسميا.. منتخب المغرب للناشئين يبلغ دور ال32 من كأس العالم    انطلاق عملية بيع تذاكر مباراة المنتخب الوطني أمام أوغندا بملعب طنجة الكبير    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليسار مُدْبِرًا .. اليسَارُ مُقْبِلاَ
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 31 - 03 - 2016

لم يعد ممكنا دسَّ الوجه في الرمال إسوة بالنعامة. فالرمال ملتهبة، والرماح نواهل. ولم يعد ممكنا التقنع والتبرقع، فما القناع إلا وجه آخر لا يخفي قدر ما يكشف ويعبر عن قبح وذمامة، وصورة تبعث على الضحك إلى حد القهقهة.
لم يعد ممكنا ولا مستحبا، ولا لائقا، ولا مقبولا، أن نعلق إخفاقنا وهزيمتنا وأخطاءنا على مِشْجَب الغير، أو على سَهْو وقع، أو خطإ تافه ارتكب في غفلة منا، وشرود اعترانا غِبَّ دوخة أو دوار أحسسناه، وأخذ مِنَا كل مأخذ، فإذا الأمور تسير وحدها، من دوننا، وإذا الأشياء تنمو و تكبر ونحن غياب.
هل تساءلنا لحظة- عما أعمانا عن رؤية ما يقع ويحدث تحت أعيننا؟ وعما أذهلنا عن مسير ومسار حيوات وعلائق، انشبكت وتلولبت حتى تحقق الذي تحقق، وتبلور الذي تبلور؟
ما اللعنة التي لازمت خطانا، وصاقبت رؤانا حتى صار ما صار حيث انكمشنا، ونكصنا وتراجعنا؟
هل ساءلنا أنفسنا عما أتته أيدينا، وَقَارَفَتْهُ معاملاتنا وعقم تواصلنا وارتباطنا بالناس، بالطبقة التحتية من الناس، أولئك الذين لا ظل لهم ولا سقف، ولا مهاد، ولا سرير، ولا رغيف ساخن، وماء عذب، وشاي منعنع لذيذ؟ أولئك الذين لا يراهنون على شيء لأنهم يحلمون باللاشيء، الذين فقدوا طعم الحياة، وَتَجَوَّفَ –في نَاظِرِهِمْ- حاضرهم، وتغبش مستقبلهم، وأي مستقبل لمن لا يملك أرضا ولا سماء، لمن لا يملك شجرا ولا ثمرا ولا قدرا؟
نتحدث عن «الريع» بأشكاله وأصنافه وألوانه، وعن «الثروة الوطنية» «الهلامية»، وعن الصناديق السوداء، وعن القلة الفاسدة المُتْرفة الغارقة حتى الأذنين في بحبوحة العيش، وعن الكثرة الكاثرة الشريفة المعدمة الغائصة حتى فروة الرأس في الشظف والطوى، وأين منها، وأينَ هي من العيش الكفاف؟ ففي الكفاف وسط واعتدال واكتفاء، وجوع مخلوط بالشبع، وشبع موهوم يبلسم الروح، وينعش الحشاشة، ويروي الجمرة الملتهبة، ويداوي الجراح المثخنة. كثرة تملك الصلابة والقوة والشبوبية، وتملك القناعة، الكنز الذي لا يفنى كما قيل، وقلة تَتَنَعَّمُ حد التخمة، وتَتَفَرْدَسُ.
فماذا كنا نملك نحن الأنتلجنسيا الخاسرة، السياسية و الثقافية على حد سواء؟
ماذا صنعت لها الأحزاب السياسية الوطنية الديمقراطية؟ وإذا كانت صنعت فماذا صنعت؟ ولِمَ أحجمت عن ذلك الصنيع اليوم؟ لماذا تأخرت وتقاعست، و تركت الحبل على الغارب، ودخلت في دعة ومصالحة وتهدئة وسلم اجتماعي مع الحكم والنظام. وهي تعرف تمام المعرفة، أن الطغمة المحسوبة على النظام، جماعة شرسة، ذات أنياب زرق، وسموم. مجموعة من حيتان القرش المفترسة الدامية، ورهط من الكواسج السغبة والعطشى القاتلة؟
كأنما كنا مخدرين، مُسَرْنَمين، أو محشورين –وقد جف نَبْع الحياة في دمانا وأنفاسنا- في مدافن ديماسية، دونها طبقات، تمنع من وصول أصواتنا وابتهالنا إلى الأسماع. لكن هل لجرح بِمَيْتٍ إيلام؟ وما المعجزة التي بطوقها ومقدورها بعث الدبيب في الأرض الموات، وفي الجسد الهامد، والوقت اليابس الراكد؟
وها قد أفقنا بعد فوات وموات، بعد أن تغير الحال، وتحول الزمام، نحن من فَرَّطَ في المِقْوَدِ والسياسة والكياسة والانخراط في الشأن العام، ومعمعان الواقع الرغام. أهملنا التنظيم والحضور، وتكالبنا على المغانم والموائد والأنفال، وتأرجحنا بين فوق وتحت، بين أمام ووراء، فضاع الطريق، وتغبش الضوء إليه، و»تلخبط» الخيط الدال عليه.
لقد ظل فكر اليسار وقيم اليسار، وفلسفته الإنسانية التي تمجد الآدمية، مطلق الآدمية بغض النظر عن لونها وجنسها ولغتها، ودينها، وجغرافيتها، مجرد كلام، وسجل حافل بالهَذْرِ طُوِّلَتْ خُطَبُهُ على رأي الشاعر. كلام جميل، فاتن، رفيع يملأ السلال فاكهة وأَبًّا وَقَضْبًا وثمارا من كل نوع. يلون الحاضر بالورد ويضع الشمس في يد العمال، والسنابل الثقال في يد الفلاحين، وينمق الغد بالتزاويق والوعود الجذلى المتراقصة الهفهافة التي تنسج للفقراء والمعدمين، خياما من طوبى الحرير، وطوبى المساواة والتساوي والسواسية بين الناس حيث لا فاضل ولا مفضول، لا رئيس ولا مرؤوس، لا حاكم ولا محكوم، لا طاغوت ولا خنوع.
غد فردوسي عَدَنِي يموج خضرة ويتهادى زرقة، ويترقرق مَنًّا وعسلا وسلوى.
غير أن منطق الأشياء، وتقسيم العمل، واستشراء الطبقية والتنائي المادي بين الفئات والشرائح المجتمعية، واستفحال قيم السوق، وانتشار الوفرة، وطغيان الاستهلاك، وتطوير ذئبية الإنسان، عملت جميعها –متشابكة متعالقة ومتقاطعة- على سحب البساط من الفكر الطوباوي، من الفكر اليساري الذي اسْتكان –مطمئنا- إلى أَمْثَلَةِ الفكر إياه، والإنحباس في ديباجته، وعوالمه الرمزية من دون إعمال الحيوية فيه، ولا الدينامية المفترضة في حامليه بعد صدْمه بصخرة الواقع في سعي لتحكيكه، وامتحان صلابته من رخاوته، وقوته وتماسكه حيال ضعفه وهشاشته.
كان فكرا مُنْبَتًّا عن الواقع ولا يزال، في كثير من متونه وصياغاته على رغم جمالية هذه المتون، وروعة تلك الصياغات طالما أنها تحمل في أعطافها الحلم بتقليص إن لم يكن بمحو التفاوت الطبقي، وتعميم خيرات وعوائد الثروة الوطنية على أبناء الوطن الواحد.
إذ لا معنى لِوَطَنَيْن اثنيْن ضمن وطن واحد، ولا معنى لمواطنين منقسمين بين مالكين ومحتاجين، إن لم يكن معنى الظلم والاستغلال، وموت القيم، واندحار المحبة، واستئثار رهط قليل بالأكل والشرب والمرعى الباذخ الفائض، مقابل جيش عرمرم محروم من الحد الأدنى للعيش الكريم، العيش الكفاف.
هل كان على حملة الفكر الماركسي – اللّينيني، والمؤمنين بمبادئه وفلسفته ويُوطُوبْيَاهُ، تليين خطاباتهم، وقَصْقَصَة أجنحة الفكر الاشتراكي ليوائم المحلية، ويساوق الخصوصية، ويندمج في الوطنية، ويتشرب، بمقدار، أبعاد ثقافة ودين البلد المُسْتَقْبِلِ، البلد الذي استوطن وَوَطَّنَ هذا النوع من الفكر، في أفق نجاحه وإنجاحه، والسير به نحو تركيز رايته، وإرساء تطبيقاته، وبلورتها على مستوى المعاش اليومي للجماهير الشعبية، ما يعني تقليص الفوارق، وتوزيع ثروات البلاد عليها في عملية إعادة للآدمية، وإعادة للكرامة الإنسانية، وتثبيت لمقوم العدل الاجتماعي.
لا نشك –لحظة- في أن هذا الرأي كان الشاغل الأساسي لليساريين، وديدنهم في المؤتمرات، وبعد ذلك –في الحملات التي تصاحب عادة الاستحقاقات الانتخابية.
وسمعنا كثيرا، عن انحرافات يسارية معينة، وقرأنا عن مرض الطفولة اليساري، أي اليسار المتطرف، و اليسار الإصلاحي «المنبطح».
وهي التوصيفات التي أطلقها من اعتبر نفسه حامل قيم اليسار الحقيقي، اليسار غير المهادن للنظام، الذي لا يَني يندد باختياراته في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وبسجل طويل من الخدمات الاجتماعية المتدهورة.
كانت العقبة الكؤود في وجه هذا الفكر الحالم –ولا تزال-: هي الطبقة المالكة وهي طبقة وارثة تاريخيا- بالمكر، والخديعة، واستغلال الفرص، وركوب الدين مطية إلى الاستحواذ والاستنقاذ، والتغلغل في عقول مُصْمَتَة نَغَلَتْ فيها الأمية، وعشش فيها الفقر والجهل. وكان الحاجز الأصلب والأشرس باتجاه الفكر الاشتراكي الديمقراطي، هو النظام ممثلا في الدولة بكل مؤسساتها القمعية بوصفها حامي الحرامي الذي هو الطبقة الأوليغارشية المستأسدة، وبوصفها راعي الرعية العريضة منزوعة الأنياب والأظافر، ومنزوعة الحاضر والمستقبل، بوصفها كذلك بحسبان التعاقد الاجتماعي، وبحسبان واجب وحقوق الطرفين التي هي قسمة ضيزى لعامة الشعب، بينما هي حصة أسد وثورين للطبقة النافذة المتنفذة، ذراع الدولة وامتدادها، ويدها العليا. وليس ذلك بمستغرب ما دام أن مصالحهما الاقتصادية و المالية والسياسية، تَنْصَهِران وتتماهيان.
لم يكن الذين يرغبون ويتحينون الفرص المواتية لارتفاع الشعب، إلى مستوى إدراك قوته الكامنة، وقدراته الدفينة الرهيبة، وجبروته المستكن والمضمر، قد تفطنوا إلى ضرورة تغيير اللغة والخطاب، وقراءة الواقع الفائر، قراءة عارفة محايثة ومتحولة. فلم يكن من سبيل إلى هذا الإدراك سوى الانخراط في اليسار، والاندراج ضمن فكرiه ووعده وأفقه.
ولئن كانت بعض المحطات التاريخية قد شهدت –فعلا- تصريفا لهذه القوة الشعبية المترامية والمتراحبة، في كثير من البلدان في الشرق والغرب، فإن محطات أخرى و لعلها أن تكون كثيرة ومتراكمة، شهدت –بالمقابل- انتكاسه لهذه القوة، كطليعة للنضال الجماهيري، وتراجعا لفكر انْتِلِجَنْسَيَاهُ، وانكفاء لنمائه، وصيرورته وسط الطبقة الاجتماعية المستهدفة، صاحبة المصلحة في التغيير كما يتردد في أدبيات اليسار.
وتفسير ذلك –في نظرنا- يكمن في عائق الأمية، بما هو عائق ثقافي- حضاري، يُعَقِّدُ عملية الاستيعاب، ومهمة التفاعل مع فكر ورؤية معرفية – سياسية، بُنِيَتْ له، وخُلِقَتْ من أجله. ومن ثمة، تأتى للدين المسخر – فرصة الانقضاض على الفريسة السهلة المستكينة.
ولا يساورنا أدنى شك، في أن الدين كمجلى روحي، ومقوم خلقي وأخلاقي، وحافز تربوي وتهذيبي، ومهماز إيماني تعلقي، وفكر إلهي علوي، يجد مرتعه الخصب في تربة الأمية، ودار الأميين، لأن خطابه يخترق بالمباشر الحس والوجدان و»العقل» باعتباره رسالة سماوية لَدُنية، أي باعتباره كلام الله في البدء والختام. رسالة سماوية قدسية في مواجهة رسالة بشرية مدنسة، عَنَيْتُ : الفكر اليساري أو أي فكر آخر ليبيراليا كان أو يمينيا ديمقراطيا. وإذا كان العلم يتكئ على التقليب والشك والسؤال، فإن الدين يتكئ على التسليم والإذعان ، ومبدأ الإيمان، بما يملأ الوجدان طمأنينة وراحة بال، وهدوءا وسكينة روحية غامرة. الدين سماوي، والفكر الإنساني أرضي، وشتان بين الأرض والسماء، شتان بين الذكر والأنثى، من منطلق أسطوري يُذَكِّرُ السماء، ويؤنث الأرض. أقول من منطلق أسطوري موغل في القدم ينحدر وينحل في ليل الحضارات البدئية العتيقة. ولعل اللاتينية- ومنها الفرنسية أبقت على ذكورية السماء : Le Ciel، وأنثوية الأرض: La Terre، ارتكانا إلى هذه الثنائية الأسطورية القديمة، وارتكانا إلى سر اللغة بما هي وعاء التاريخ والفكر والحضارة.
والحق أقول إنه لن ينجح اليسار في مسعاه للوصول إلى رضا شعبي واحتفاء بأفكاره لبرمجتها على مستوى التقرير والقرار، ولوضعها رهْنَ استراتيجية الأجرأة، والإعمال والتفعيل، ما لم يتخذ له وضعا آخر مختلفا، وضعا يتسم بالمرونة، وعرض فلسفته ورؤاه و مطامحه ، ومبتغياته، على الواقع، على اليومي، على عقلية شعبية سائدة، على حقيقة طُفُوِّ الأمية، وتحكمها، واستحكامها في السواد الأعظم من الناس، بِوَجَهَيْها البَشِعَيْن: الأمية الأبجدية، والأمية الثقافية. أما كيفيات ذلك، فلعلها أن تعمل على احتضان واقع وأفق هذه الذهنية الجماهيرية، من حيث الاستناد –إسوة بالإسلاميين السياسيين- إلى المرجعية الإسلامية لكن في منجزها ومنتوجها العقلاني التنويري. والأمثلة من الكثرة بحيث يعسر إيرادها في هذا المقال. إذ أن وفرة من الممارسات الإسلامية التاريخية في مجالات الفكر والفلسفة وعلم الكلام، وبعض التوجهات المذهبية الدينية تتيح إمكان الاغتراف، و الاتكاء، والحجية، عند تحليل الواقع المعيش وتفكيك بناه، وتفنيد «تُرَّهَات» وخُزَعْبلات بعض القوى الفقهية الغيبية المأجورة التي تؤول النص تأويلا خادما لمقعدها، تأبيدا لصولتها ونفوذها، واستغلالا لبساطة السواد من الشعب، و»نيته» الطيبة والحسنة. فالمرء/ المناضل المثقف اليساري الاشتراكي والليبرالي والعلماني، لا يعدم الأجوبة المنطقية والعقلانية التي أجابت، وبِمُكْنَتِها الإجابة –حاليا- على مجموعة من الأسئلة الشائكة والحارقة المرتبطة بواقع ومعيش ويوميات الإنسان. وهي أجوبة وَلَّدَتْها سياقات اجتماعية مُعينة، ولحظات تاريخية محددة، لكنها متجوهرة لأنها تحمل من العمق ونور العقل والاجتهاد الإنساني، ما يجعلها تتخطى وقتها وَزَمَكَانها.
ليس في الأمر تلفيق –البتة-، ما فيه ينشد مقترحا تغذية الفكر اليساري التحرري التحريري بما هو عصارة اجتهادات الإنسان- ، بالفكر الديني التنويري الذي عرفته حقب تاريخية. وهو الفكر الذي نهل من النص القرآني، والحديث النبوي المسند الصحيح، وباقي الممارسات الفكرية العظيمة الوافدة على حاضرة المسلمين: بغداد آنئذ، والأندلس على الضفة الأخرى الغربية من جغرافية الخلافة – الأصل. حيث تلاقى الفكران: الديني السجالي المشذب من زعانف الغيبيات والتُّرَّهات، المسنود بالفكر الاجتهادي والإطلاع والترجمة و التضايف، والفلسفي- الأدبي الضيف الذي حَلَّ أهلا وَوَطِئ سهلا سرعان ما أينع وأزهر وأعطى في تعانق ثقافي قيمي إنساني رفيع المستوى، وتصاهر سلالي بديع بَوْتَقَهُ الإسلام، وأطلقه في العالمين.
فَإذاً، لا معدى لنا من الاغتراف والاتكاء والعودة إلى الفكر الإسلامي في بُعْدَيْه: الديني والفلسفي لرفد وتطعيم المدونة الماركسية- اللينينية بعد إخضاعها للمقومات البانية للأمة، والخصوصيات الثقافية بمفهومها الأنتروبولوجي، إذا شئنا مزاحمة التيار الإسلامي والسياسي وإزاحته، وسحب هيمنته، وتحرير الجموع العطشى إلى الغد الأفضل، والمستقبل الديمقراطي الذي لا يفاضل بين المواطنين أيًّا كانت ديانتهم أو لاَ أَدْرِيَتُهم، وأيا كان جنسهم، ومحتدهم، ومنحدرهم الطبقي. وعندما تنزاح الأمية، وتستأصل بفضل العلم والمعرفة، والتثقيف، وهمة «الدولة»، والنسيج الجمعياتي بالبلاد، يمكن آنذاك، الإطمئنان إلى الغد «اللاطبقي»، أو تخفيفا من غلواء الإيديولوجيا ، نقول: الغد الكريم حيث التفاوت بين الفئات قليل، والهوة بينها واضحة الضفتين.
فهل نقول –على غرار علاء الأسواني الذي يختم كان مقالاته باللازمة الحق البديعة – الديمقراطية هي الحل : التعليم هو الحل.
إشارات :
1)-الفقر مع الأمية، سبب رئيس في فوز الإسلاميين في البلدان العربية التي شهدت هبات جماهيرية، والوصول إلى السلطة السياسية.
فالجماهير الغاضبة، وهي تدلي بأصواتها لفائدة اللِّحى والتكبير، إنما تعطى تلك الأصوات –في اعتقادها ودخيلة نفسها- لله، من منطلق أن الحزب الإسلامي المسيس، لسان الله ووسِيطُه، وشَفِيعُهم إلى الحق سبحانه. ففي عرفهم –أو كما لُقِّنُوا وشُحِنُوا- الله الحاكم والإسلاميون خَدمه وممثّلوهُ القيمون على شرْعِه وأوامره ونواهيه، ضدّ الطغاة، والشياطين والأبالسة و»المرتدين». هذا عامِلٌ حاسم في نجاح الحركة الإسلامية المسيسة، زِدْ عليه عامل التراخي اليساري، والغيبوبة التنظيمية، والبطِر الإيديولوجي الصّفيق، والبُوليمِيكْ الصالوني والمقهوي، والانعزالية البرجية، والابتعاد عن انتظارات الجماهير وبغيتَها وتطلعاتها. وإلاَّ، فلا صدقية لمن يقول بأن «الإسلام السياسي» هو الحل في الحال والمآل. لن يكون الحل إسلاميا أبدا، لانبهام تصور الدولة ومؤسساتها ودواليبها لديه. فالحركة الإسلامية بعيدة عن الفكر المؤسسي والاقتصادي والتدبيري بما هو آليات تُسْعِفُ ذوي التكوين العلمي والوضعي، إذا الأمر يتعلق بالفقه الدستوري والقوانين الوضعية، وعلوم الإدارة والسياسة لا علوم الدين. ومن ثمَّ، فالمستقبل –حتما- للديمقراطيين يساريين كانوا أو ليبراليين، اشتراكيين أو علمانيين.
2- الاستعانة بالفكر الديني المتنور في حوارنا مع الناس، في استقطابنا المشروع لهم، لجهة تصوراتنا في بناء الدولة والمجتمع، وكيفيات تدبير شؤونهم، ومعالجة قضاياهم، والإفادة المثلى الديمقراطية من خيرات البلاد. ولن نعدم –في هذا الصدد- حزمة أحاديث نبوية نيرة ومستنيرة، وآراء ومواقف لبعض الصحابة الأجلاء الأفذاذ كأبي ذر الغفاري، والمتن الكلامي من خلال المعتزلة، و»العلماء المقتولين»، والفلاسفة الإسلاميين جميعا، لأن المواطن العادي، الذي حرم من نعمة التعليم والعلم، يستجيب، على الفور، لكل دعوة مُزَنَّرة بالفكر الديني، والشاهد السلفي: (السلفي هنا، بمعنى السلف الصالح).
فلنصارع مُمْتَهِني الدين المُغْرضِين الذين يَقْصُرُونَه على الجنة والنار، والثواب والعقاب. لنصارعهم بشبيه سلاحهم، ونفس عتادهم. ولْنَتَصَدَّ لتأويلاتهم، وتَأَوُّلاَتهم السياسوية، بِتَأَوُّلاتنا العلمية المعرفية والمقاصدية المدموغة بالواقعية والملموسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.