طغى عليه الغياب واستحواذ الأغلبية على مقاعد الأمناء والمحاسبين : انتخاب مكتب مجلس النواب    ميراوي: أسبوع يفصل عن إعلان سنة بيضاء وبرلمانيون يناشدونه التراجع عن القرارات تأديب طلب الطب    ردّا على المسرحية الإيرانية.. إسرائيل تطلق صواريخ بعيدة المدى على مدينة أصفهان    خريطة المغرب تدفع سلطات الجزائر لاحتجاز بعثة فريق نهضة بركان    نشرة إنذارية: أمطار ورياح قوية مع تطاير الغبار بهذه المناطق    توقيف شخص ببني ملال يشتبه تورطه في التربص بأطفال قاصرين للاعتداء عليهم جنسيا    نشرة إنذارية : زخات مطرية قوية وهبات رياح قوية مرتقبة غدا السبت بعدد من مناطق المملكة    طنجة .. توقيف ثلاثة أشخاص لإرتباطهم بشبكة إجرامية تنشط في المخدرات    وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني.. "عمدة" الدراما المصرية    في تقليد إعلامي جميل مدير «الثقافية» يوجه رسالة شكر وعرفان إلى العاملين في القناة    جمال الغيواني يهدي قطعة «إلى ضاق الحال» إلى الفنان عمر السيد    فيتو أميركي يٌجهض قرار منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة    أعلنت شركة التكنولوجيا الأمريكية (ميتا)، إطلاق مساعد الذكاء الاصطناعي المجاني "ميتا إيه آي" عبر منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بها، مثل "واتساب" و"إنستغرام" و"فيسبوك" و"مسنجر".    الهجمات على إيران "تشعل" أسعار النفط    مكناس: تعبئة شاملة لاستقبال ضيوف المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب 2024    الطريق نحو المؤتمر ال18..الاستقلال يفتح باب الترشح لعضوية اللجنة التنفيذية    صورة تجمع بين "ديزي دروس" وطوطو"..هل هي بداية تعاون فني بينهما    منظمة الصحة تعتمد لقاحا فمويا جديدا ضد الكوليرا    الطالبي العلمي كاعي من البلوكاج لي داير لشكر لهياكل مجلس النواب واللي تسبب فتعطيل المؤسسة التشريعية    العصبة الاحترافية تتجه لمعاقبة الوداد بسبب أحداث مباراة الجيش    المدير العام لمنظمة "FAO" يشيد بتجربة المغرب في قطاعات الفلاحة والصيد البحري والغابات    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    مذكرة إخبارية للمندوبية السامية للتخطيط نتائج بحث الظرفية لدى الأسر الفصل الأول من سنة 2024    "لارام" وشركة "سافران" تعززان شراكتهما بمجال صيانة محركات الطائرات    وزيرة : ليبيريا تتطلع إلى الاستفادة من التجربة المغربية في مجال التكوين المهني    "أحرضان" القنصل المغربي بهولندا يغادر إلى دار البقاء    باستثناء الزيادة.. نقابي يستبعد توصل رجال ونساء التعليم بمستحقاتهم نهاية أبريل    الهجوم الإسرائيلي على إيران.. هل ينهي المواجهة المباشرة أم يشعل فتيلها؟    التراث المغربي بين النص القانوني والواقع    السودان..تسجيل 391 حالة وفاة بسبب الاصابة بمرضي الكوليرا وحمى الضنك    أخْطر المُسَيَّرات من البشر !    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    مهرجان خريبكة الدولي يسائل الجمالية في السينما الإفريقية    "قتلوا النازحين وحاصروا المدارس" – شهود عيان يروون لبي بي سي ماذا حدث في بيت حانون قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي    لوسيور كريسطال تكشف عن هويتها البصرية الجديدة    الدكيك وأسود الفوتسال واجدين للمنتخب الليبي وعينهم فالرباح والفينال    هجرة .. المشاركون في الندوة الوزارية الإقليمية لشمال إفريقيا يشيدون بالالتزام القوي لجلالة الملك في تنفيذ الأجندة الإفريقية    جنايات الحسيمة تصدر حكمها على متهم بسرقة وكالة لصرف العملات    تفاصيل هروب ولية عهد هولندا إلى إسبانيا بعد تهديدات من أشهر بارون مخدرات مغربي    بعد نشر سائحة فيديو تتعرض فيه للابتزاز.. الأمن يعتقل مرشد سياحي مزور    مليلية تستعد لاستقبال 21 سفينة سياحية كبيرة    تقرير يُظهر: المغرب من بين الوجهات الرخيصة الأفضل للعائلات وهذه هي تكلفة الإقامة لأسبوع    واش اسرائيل ردات على ايران؟. مسؤولوها اكدو هاد الشي لصحف امريكية واعلام الملالي هدر على تصدي الهجوم ولكن لا تأكيد رسمي    حرب السودان.. كلفة اقتصادية هائلة ومعاناة مستمرة    المغاربة محيحين فأوروبا: حارث وأوناحي تأهلو لدومي فينال اليوروبا ليگ مع أمين عدلي وأكدو التألق المغربي لحكيمي ودياز ومزراوي فالشومبيونزليك    "الكاف" يحسم في موعد كأس إفريقيا 2025 بالمغرب    خطة مانشستر للتخلص من المغربي أمرابط    بيضا: أرشيف المغرب يتقدم ببطء شديد .. والتطوير يحتاج إرادة سياسية    نصف نهائي "الفوتسال" بشبابيك مغلقة    الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يطالب بفرض عقوبات على الأندية الإسرائيلية    "قط مسعور" يثير الرعب بأحد أحياء أيت ملول (فيديو)    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    وزارة الصحة تخلد اليوم العالمي للهيموفيليا    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    الأمثال العامية بتطوان... (574)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشاهدات وانطباعات من الحج : مناسك وتجارة ولصوصية وتحرش

هي مشاهدات وانطباعات عن موسم حج هذه السنة . انطلقت من مطار سلا، وانتهت إليه بعد شهر من الإقامة بين مكة ومشاعرها والمدينة ومآثرها.
مشاهدات وانطباعات... ووقائع عرفها هذا الحيز الزمني الذي كانت أبرز سماته : حرارة معدل درجاتها 48 و 3 مليون شخصاً، بل أكثر من ذلك. يتحركون رجالا ونساء جماعات وفرادى في كل الاتجاهات بكثافة قد تتجاوز ثلاثة بالمتر المربع الواحد وينتظمون دوائر حول الكعبة، عندما يؤذن الأذان ويعلن الإمام: «سووا صفوفكم... ».
إحرام من ...فاس
في مطار سلا، أرغمنا ارتباك الرحلات الجوية على الانتظار 12 ساعة، لتضيق بنا أرجاء هذه المنشأة، بعد أن وجدنا فوجاً من الحجاج قضى ليلته بسبب تأخر طائرته 36 ساعة..
قبل أن تغلق الطائرة أبوابها ذاك المساء. ونحن نحمل إرهاقنا وتعبنا ونرتخي على المقاعد، جاءنا صوت تحدث بصيغة الأمر: »أحرموا بعد ساعة إلا ربع من الإقلاع«، قالها وغادر الطائرة ليترك الدهشة في العيون والأسئلة على الألسن: هل نحرم قبل أن نصل إلى وجدة ونحن المتجهين إلى مكة لأداء فريضة الحج.! أي هل نتدثر بذلك الأبيض (الغير محيط ولا مخيط) ونشرع في التلبية (لبيك اللهم لبيك...) ونحن بين فاس وعاصمة المغرب الشرقي.!
كانت الطائرة أوكرانية اكترتها الخطوط الملكية المغربية، ولم تكلف إدارة ادريس بنهيمة نفسها عناء إرفاق الطاقم بمضيف أو مضيفة مغربية تعرف طبيعة الرحلة وتشرح للربان ومن معه أن عليه إخبار الركاب بأنهم على بعد ساعة قبل الوصول إلى مطار جدة، ليحرموا من الميقات الذي هو بالنسبة لنا نحن القادمين من شمال افريقيا هو مدينة رابغ الواقعة على الطريق السيار بين مدينتي ينبع وجدة.
ما رسخ في الذاكرة من كلمات إنجليزية شرحت للمضيفات بمعية بعض الحجاج أن يتم إخبارنا بعد عبور الطائرة البحر الأحمر أو أن تكون على مرمى ساعة من الوصول، حتى يتسنى لنا الإحرام والنية في أداء عمرة، لأن الركاب اختاروا الحج بالتمتع?
حسناوات، جميلات، ذوات قوام رشيق كن هؤلاء المضيفات الأوكرانيات وهن يبذلن أقصى مجهود لخدمة ركاب يتوجهون إلى أداء أحد فرائض الاسلام هن غير المسلمات كقائدي الطائرة وفروا ما أمكن من سبل راحة السفر لمئات من المسلمين في جو من التسامح الديني وكان لابد للسؤال أن يطرح: كيف لبعض الأشخاص والجماعات المتأسلمة أن تكفر أناساً وتستبيح دماءهم لمجرد أنهم غير مسلمي!!...
تعرفت ونحن في الطائرة على شاب وسيم اسمه عبد اله، إمام أحد مساجد باب الأحد بالرباط، اقترحت عليه أن يخاطب الركاب عندما يتم إخبارنا بأننا على مشارف رابغ، ويشرح لهم ما عليهم القيام به، رجالا بالإحرام ونساء بلباسهن العادي، وانطلقت التلبية إلى أن حطت الطائرة في الثانية والنصف صباحاً حسب التوقيت المحلي.
مطار جدة (مطار الملك عبد العزيز الدولي) بدا لنا كغابة أضواء والطائرة تخترق المدينة لتتجه صوب المدرج. هذا المطار هو بوابة الحجاج والمعتمرين، فإليه يفدون ومنه يغادرون إلا بعض الاستثناءات . تم افتتاحه سنة 1981 تترامى أطرافه على مساحة 100 كلم مربع. إنه أحد أكبر مطارات العالم مساحة ورواجاً، إذ بلغ مجموع الركاب الذين قدموا إليه أو غادروا في السنة الماضية 30 مليون شخص. الاجراءات كانت بطيئة بسبب احترازات صحية وتدقيقات إدارية... حملنا عياءنا وإرهاقنا على متن حافلات متواضعة، وبقدر ما كان الليل يطوي سدوله ويفسح المجال لغبش الفجر، كانت أراضي خلاء تتوزع جغرافيتها على تلال وجبال صخرية وامتدادات رملية تكسرها من حين لآخر أضواء بعض التجمعات السكنية? ها هي هوامش مدينة مكة تكشف عن شوارع فسيحة وأحياء يحاصر بعضها بؤس سوء التهيئة وتنتشر في أرجاء بعضها نفايات تتبعثر هنا وهناك . وأنت تتوغل في مكة التي تعد أحد أقدم المدن السعودية، تلاحظ تبايناً في عمرانها واختلالا في مجالها إلى أن تطل على قلبها النابض، حيث المسجد الحرام الذي تتربع وسطه الكعبة، فتفاجئك البنايات الشاهقة التي ما هي سوى فنادق ومراكز تجارية بعضها استوطن امكنة جبال صخرية تم افتراسها من طرف آلات ضخمة لتحيلها إلى مجرد ذكرى جغرافية.
توسعات ب 22 مليار دولار
وصلنا إلى الفندق في الساعة التاسعة صباحاً لتبدأ عملية التوزيع على الغرف وهي عملية صعبة يقوم بها أحد أنشط أفراد بعثة الحج المغربية واسمه مصطفى، لأن كل غرفة يجب أن تستضيف 4 أو 5 أفراد، ومنبع الصعوبة هو أنانية العديد من الحجاج واختلاف طبائعهم وتباين متطلباتهم. والفندق الذي أقمت به كان من بين 24 منشأة فندقية خصصت للحجاج المغاربة، يحتوي على 21 طابقاً بكل واحد منها 31 غرفة وفاق عدد ساكنيه 1500 شخص.. لم أجد صعوبة في جمع رفقاء لي في الغرفة. أولهم أخي وصديقي محمد بوهلال الذي تعود الصداقة بيننا إلى 30 سنة، باعتباره عميد مراسلي جريدة »الاتحاد الاشتراكي« ليس في فاس فقط، بل بشبكة المراسلين على الصعيد الوطني، وانضم لنا أحد الأطر البنكية (غ. عمر) الذي ساعدنا كثيراً في معرفة أرجاء الحرم ومرافقه والمراكز والأسواق المحيط به، لأنه اعتمر وحج لما يقارب العشر مرات، وكان رابعنا أحد الحجاج (س. عبد الرحمان) من مدينة فاس الذي عزز انسجامنا بمرحه وأطباقه... وقدرته على تكسير رتابة الوقت.
ها نحن بعد أقل من ساعة على استقرارنا نصل إلى المسجد الحرام قصد أداء مناسك العمرة من خلال طواف وسعي القدوم? نهر أو بحر بشري عارم، ذلك الذي يلف مبنى الكعبة، تتداخل الأصوات والأدعية والأذكار، كما تتداخل الأجساد في اتجاه عكس عقارب الساعة لا تُخمد هذه الحركة سوى إقامة الصلاة ليعود بعدها هذا البحر مباشرة بعد قول الإمام «السلام عليكم..» إلى أمواجه الهادرة..
من أبرز الملاحظات والعين تستجلي هذا البناء الضخم أن نصف محيط المسجد الحرام تقريباً تنتصب فيه رافعات عملاقة تسابق الزمن لاستكمال ثالث مراحل التوسعة التي وضع خطتها الملك عبد لله عاهل العربية السعودية، وهو مشروع اتسعت مرحلته الأولى لأكثر من 800 ألف مصل، والثانية والثالثة تشمل توسعة الساحتين الشرقية والغربية للحرم ليستوعب ما يقارب المليوني مصل جديد وتغطي هذه المراحل مليون متر مربع، وهو ما سيضاعف طاقة الحرم ثلاث مرات. ولإنجاز ذلك، شمل الهدم 100 عقار تنتشر على مساحة 13 هكتار، وكانت الحكومة السعودية سخية مع مالكيها إذ عوضتهم ب 50 مليون سنتيم عن كل متر مربع. وبلغ الغلاف المالي المخصص لهذه التوسعات 22 مليار دولار.
وثاني الملاحظات هو كثرة المنافذ للدخول الى المسجد. فهناك أكثر من 170 باباً تؤدي إلى جوفه وسطحه وقبوه، أبواب رئيسية وأبواب فرعية يلزم لخدمتها 600 عامل للمراقبة والمساعدة والحراسة... بالإضافة إلى تواجد 7 سلالم كهربائية لها 12 مدخلا...
كان الشغف كبيراً لاستكشاف ردهات وأركان ومحيط هذا الحرم الذي تعد كعبته «أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين» (سورة آل عمران)... لذلك عددنا نقط الدخول لنكتشف امكن من الارجاء.
ثالث الملاحظات هو هذا الامتداد الأفقي للمسجد المغلفة جدرانه وأرضيته برخام متناسق، وتفيد المصادر أن الرخام الذي بلطت به ساحات المسجد يحمل اسم «تاموس» نسبة إلى جزيرة تاموس اليونانية التي توجد بها المقالع، والتي اشترت احتياطها العربية السعودية لتصبح خزاناً لقطع الغيار في حال ما أصاب التلف بعض القطع أو تم احتياجها في عمليات قادمة..
ومن خصائص هذا النوع من الرخام وهو ناصع البياض أنه يحتوي على مسام تمتص الرطوبة ليلا لتلفظها نهاراً، وبالتالي لا يشعر من يطأه بأي حرارة تحت قدميه أو تلفح وجهه ...
رابع الملاحظات هي ضخامة المراكز التجارية والفنادق التي أصبحت محيطة بالمسجد الحرام. في أحاديث العديد من الحجاج انتقاد لهذه البنايات التي جعلت من الحج وكأنه سوق تجاري تصبح معه الكعبة ومرفقاتها مجرد مجال ثانوي تتغول عليه »ناطحات سحاب« تفقده بعده الديني الروحي... بل إنها تطيح بمفهوم المساواة بين الحجاج الذين كانوا ولمئات السنين يعيشون نفس الظروف ويقتسمون نفس معاناة الطقس والإقامة... ها هي هذه الفنادق تحول الحجيج إلى طبقات: حجاج 5 نجوم وحجاج الخيام... حجاج ارستقراطيين وحجاج الطبقة الرثة.
البعثة: سؤال الانتقاء
بلغ عدد الحجاج المغاربة هذه السنة 25 ألفاً و 600 تم توزيعهم على 9 مراكز منتشرين ب 24 فندقاً. ويؤطر هذه الجغرافيا البشرية بعثة مغربية مكونة من أكثر من 200 شخصاً. وإن كان من سؤال شفوي يوجه إلى السيد وزير الأوقاف، فيتركز على كيفية انتقاء أعضاء هذه البعثة. ما هي المعايير.! وأي آلية للتنسيق بينهم... وأي قيمة مضافة يضفيها تواجد العديد منهم ومنهن؟
بالبعثة، كان هناك بالفعل أفراد أكفاء في تعاملهم وتواصلهم (والتواصل أساسي) مع حجاج أغلبهم لم يسبق له السفر خارج المغرب وبحاجة إلى مساعدة لأداء المناسك في ظروف مناسبة... العديد من أعضاء مكاتب البعثة كان يهيم في ردهات الفنادق والأسواق التجارية ليترك العبء على قلة تحملت عناء حجاج واجهوا مشاكل أو اصطنعوها في إقامتهم أو تجوالهم. أسبوعان بعد إقامتنا بمكة جاء موعد الحج، من يوم التروية الذي يصادف الثامن من شهر ذي الحجة، إلى ال 13 منه...
دخلنا مشعرمنى ليلا في خضم حركة نقل تعد الأضخم من نوعها في العالم قياساً بمدتها الزمنية? فال 3 ملايين حاج يجب أن يرحلوا من داخل مكة إلى هذا المشعر في أقل من 12 ساعة. وقد عبأت العربية السعودية 20 ألف حافلة وافتتحت هذه السنة الطريق الدائري الرابع الذي يلف المدينة وطوله 22 كلم ليساعد في انسياب حركة السير بدون اختناق.
كنا في المركز 79 الذي يحمل اسم «المنعم عليهم»، ويبدو أنه أردأ مركز على الإطلاق. ولحجم مشاكله، أطلق عليه العديدون مركز »المغضوب عليهم« فالإقامة بمكة لم تكن في المستوى. والتأطير متواضع إلى حد ما. وروائح حاويتين للنفايات مجاورتان للفندق تزكم الأنوف صباح مساء... وكان قدر هؤلاء «المنعم» عليهم أن تستضيفهم مشاكل جديدة بمنى. إذ تم تكديس حجاجه في خيام تتسرب إليها مياه دورات المياه. أما العناية الطبية داخله فمنعدمة شأنه شأن بقية المراكز، وعندما سألنا بعض أفراد البعثة كان جوابهم: «السعوديون هم المكلفون...» ويكفي أن أشير إلى حادثة وقعت لأخينا محمد بوهلال الذي كان يتوضأ عندما فاجأه انكسار أنبوب ماء قذفه بقوة لعدة أمتار أصيب إثرها في ظهره... وعند طلب مساعدة أحد أعضاء البعثة، كان رد فعله بارداً يتلخص في: «دبروا راسكم» بحثت عن كرسي متحرك حملت فيه الأخ بوهلال إلى أحد المستوصفات من أجل العلاج، لأنه لم يعد يقوى على الحركة، ولم يستعد عافيته إلا بعد أن عدنا إلى مكة ثلاثة أيام بعد الحادث... والغريب أن البعثة المغربية رضخت لشروط أو لنقل جشع المطوف الذي لم يعد همه فيما يبدو شأنه شأن الكثيرين بمؤسسة الطوافة سوى جني أكبر مايمكن من الارباح.
مشعر منى يقع على بعد حوالي 10 كلم شمال شرق المسجد الحرام، وهو عبارة عن وادي تلفه جبال صخرية من الجهتين الشمالية والجنوبية. ومساحته الشرعية 7,80 كلم مربع. ومن أبرز التحديات التي تواجه عملية الحج هو أن هذه المساحة قد لا تستوعب أكثر من 4 ملايين حاج، وبالتالي، فإن أي عملية لرفع عدد الحجيج تتطلب التخلي عن الخيام وبناء عمارات من عدة طوابق? وبالفعل، سبق أن شيدت قبل أعوام وعلى سبيل التجربة ست عمارات ، وإن كان هذا الخيار يصطدم برفض بعض المتشددين الوهابين بالسعودية..
ويبدو أن من بين إيجابيات التخلي عن الخيام في منى بالاضافة الى توفير الراحة لضيوف الرحمان ، هو التمكن من جمع النفايات.ففي يوم التروية من هذه السنة مثلا، كان هناك 45 ألف طن من الأزبال تنتشر بهذا المشعر.. وللإشارة، فإن مشكل النفايات يؤرق المسؤولين بالعربية السعودية، ويكفي أن أشير إلى أن مكة شهدت خلال فترة الحج هذه السنة رمي 65 طن يومياً من قنينات البلاستيك، وهو ما يمثل 8 ملايين قارورة... بل إن أمير مكة اعترف في أحد حواراته بأن من بين أسباب معيقات تطوير »العاصمة المقدسة« هو وجود 80% من النفايات مكدسة بأزقتها وشوارعها..
وللإشارة مرة أخرى ، فإن مكة المدينة التي يبلغ عدد سكانها المليون ونصف لا تحتوي على شبكة للواد الحار (حتى المدينة المنورة)، ولا حتى شبكة الماء الشروب.
كان مبرمجاً أن نغادر إلى عرفة في منتصف الليل. لكن سوء التنظيم، سوء تنظيم المركز 79، فرض علينا الانتظار لعدة ساعات، عدنا بعدها إلى الخيام إلى ما بعد الفجر.. وتزامن سوء التنظيم هذا مع زيارة رئيس الوفد الرسمي السيد إدريس الأزمي لبوابة هذا المركز واستمع لاحتجاجات الحجاج وانتقاداتهم وأعتقد بأنه سيكون أمينا في نقل الوقائع التي عرضت عليه.
التيه بعد عرفة
«الحج عرفة»، هكذا ورد في حديث منسوب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أي تواجد خارج هذا المشعر قبل غروب الشمس، يجعل الحج باطلاً.. كانت الحرارة تحت خيام غير مكيفة تعتصر الاجساد عرقاً... اختار بعض الحجاج أن يتسلقوا جبل الرحمة المقابل، فيما اختار من تبقى قراءة القرآن فرادى أو جماعات وترديد الأذكار والتلبية.
ومباشرة بعد منتصف النهار، كان هناك أئمة قادوا مسيرة الدعاء وأضفت هذه العملية حالة من الخشوع بين الحجاج وهم يقفون بعرفة...وما إن غربت شمس اليوم التاسع من ذي الحجة حتى انفتح التوجه إلى مشعر مزدلفة على مشاكل لا تحصى، حالة تيه ومشاق في البحث عن حافلة تريح من عناء التنقل على الأقدام.
المسافة بين عرفة والمزدلفة تقارب 7 كلم.. تحولت إلى نهر بشري اختنقت بعض مقاطعه.. قضى أغلب الراجلين أكثرمن 4 ساعات للوصول إلى المشعرالذي يعد أرضا خلاء بلا بنايات ماعدا مسجد ودورات مياه فضاء اسمته جريدة »مكة« في أحد أعدادها ب «المشعر المظلوم» .على الأرض افترشنا بعض الأغطية وخلدنا إلى نوم عميق بعد أداء صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير وجمع أحجار الرجم (70حصى)، ولم نستيقظ إلا على أذان الفجر من مسجد المشعر الحرام...
عدنا إلى منى راجلين، تائهين. فعلى عكس بعثات الدول التي يرفع أعضاؤها أعلامهم كي يقتفي أثرها حجيجهم، غابت الراية المغربية وتاه المئات من الحجاج المغاربة تحت أشعة شمس حارقة بالرغم من بداية سطوعها... فرض علينا التعب والإنهاك أن نرتاح بخيام منى إلى منتصف النهار، لنتوجه إلى رمي جمرة العقبة وبعدها، بعد العودة تم الشروع في التحلل الأصغر، أي إزالة ثياب الإحرام التي لفت أجسادنا ثلاثة أيام وتقصير الشعر أو حلقه، كما فعلت أنا بعد أن تطوع أحد الحجاج ليحيل رأسي إلى مساحة ملساء. وكانت هي المرة الثانية في حياتي التي تمر فيها الموسى على منابت شعري وتحيلني إلى شخص أصلع..
أرهقتنا منى، بحرِّها ونفاياتها وبؤس خيامها ورداءة أفرشتها وسوء التنظيم الذي أطرها? وعجلنا في مقامنا إذ غادرنا مباشرة بعد المرة الثانية من رمي الجمرات الثلاث. عدنا إلى مكة لنستحم ونقوم بطواف الإفاضة وننهي بذلك مناسك الحج (من 4 إلى 8 أو 9 أكتوبر) ويتفرغ الحجيج إلى شراء الهدايا أو زيارة بعض مآثر مكة..
في الحج تلتقي أجناس وأعراق تأتي من كل فج عميق?ملامح تختلف ولغات تتعدد . لكن الهدف واحد : الحج .العيون تشخص في اتجاه واحد: بناء الكعبة . الأنفس تلهج بالدعاء خافتا وجاهرا والاكف ترفع الى السماء تطلب التوبة من ماضي والرأفة بمستقبل . من أبرز الحجاج تنظيما الاندونيسيون . جماعات يتحركون وبصوت واحد يرددون الدعاء . متسامحون ،منضبطون. تعرفهم بسمات وجوههم وبألوان أزيائهم. عددهم يصل الى 220 ألف وكانت قبل سنتين أي قبل تقليص الاعداد 260 ألف .(واحد من كل ألف نسمة هو المقياس المحدد لحصص الدول الاسلامية) . وتعود هذه الخصائص فيما يبدو لطبيعة الشعب الاندونيسي الراقية من جهة ومن جهة ثانية كون حجاج هذا البلد يخضعون لمراحل تدريبية وتأهيلية يتم خلالها تلقينهم كيفية أداء المناسك. ويوجد اليوم على لوائح الانتظار بهذا البلد الآسيوي المنتشر على أكبر إرخبيل مليون ونصف حاج ينظرون دورهم لأداء فريضة الحج.
أجناس وأعراق الحج تنتمي بنسبة كبيرة جدا لآسيا. الحج آسيوي اليوم لأن القادمين من قارة آسيا الغير عرب يمثلون الأغلبي الساحقة أي أكثر من خمسة أسداس من مجموع الحجيج . فباكستان وأفغانستان وإيران واندونيسيا وماليزيا لها حصة الأسد . أما الدول العربية فحصتها بالكاد تتجاوز 250 ألف ربعهم من مصر.
الحج آسيوي كذلك ببضائعه . «فصنع في الصين (بنسبة تفوق 75 بالمائة) أو الهند أو فيتنام أوكوريا» تحملها جل السلع المعروضة . وحدها التمور و«ماء زمزم» منتوجان محليان.
... لصوص ومحتالون ومتحرشون
في الحج، هناك نصابون ولصوص ومحتالون ومتحرشون بالنساء. هناك باعة يبيعونك الوهم ويقسمون بأغلظ الأيمان بأن البضاعة حقيقية . وتكتشف بعد ذلك أنها مزورة وأنك خدعت اعتقادا منك بأن بهذه البقاع يوجد الصادقون الورعون فقط. وأذكر هنا ما وقع لصديقنا الحاج محمد وهو رجل مرح الذي أخبرنا بأنه اشترى ما يقارب النصف كيلوغرام من «عود القماري» (الذي يبلغ ثمن الغرام منه أكثر من 50 درهم)، لكن اكتشفنا أن البضاعة مجرد أظلاف شجر شبيه... وهامش الربح لدى العديد من الباعة غير معقول إذ يتجاوز الخمسين بالمائة في أحايين كثيرة على عكس ماهو متعارف عليه شرعا (مابين 20 و 25 بالمائة).. وحتى أصحاب التاكسيات وهي بدون عدادات فإن بعضهم يغتنم تعامل الحجاج بالعملة السعودية لأول مرة فيطلب منك الأداء أضعافا مضاعفة . ولا يسلم من هذا التلاعب حتى الأشخاص في وضعية إعاقة الذين ترغمهم حالتهم الصحية على الطواف والسعي بكراسي متحركة .إذ يجدها بعض العاملين فرصة سانحة مثل ماوقع لأحد الحجاج المغاربة الذي أدى 200 ريال سعودي والواقع أن الخدمة لاتتجاوز الخمسين ريالا.
ونحن بمشعر منى، أعلنت قوات المباحث الجنائية أنها ألقت القبض على عدد من المتحرشين بالنساء الذين استغلوا الازدحام والتصقوا عمدا بهن... كما تم اعتقال العشرات من اللصوص الذين يجدون في الزحام فرصة لانتشال محافظ وسرقة مافي الجيوب.
«المدينة المنورة»، يثرب أو طيبة... مدينة تحمل أكثر من اسم طوت الحافلة مسافة ال 400 كلم التي تفصلها عن مكة ذات ليلة غير مقمرة... وحدها أضواء السيارات والشاحنات تبدد الظلمة... ودعنا مكة بعد أن قمنا بطواف الوداع حول الكعبة، وها نحن في زيارة مجال روحي آخر يعد الوجه الثاني لعملة الحج. أول ما قمنا به بعد الاستقرار بالفندق هو التوجه إلى الحرم النبوي والوقوف أمام «الروضة الشريفة»وهي المكان الواقع بين بيت الرسول (بيت عائشة ) وبين منبره .وقد جاء في أحد الأحاديث المنسوبة إليه صلى لله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة». والترحم عليه هو وصحبيه أبا بكرالصديق وعمر بن الخطاب.
أول صلاة أديناها بالمسجد النبوي بعد صلاة الزيارة هي صلاة الفجر. وراعنا ونحن نخرج الى الساحات المحيطة به مآذنه العشرة التي تمتد إلى السماء بأكثر من 100 متر . وأبوبه ال 86 التي تجعل الدخول إليه يتم بانسياب . وكانت لحظات ممتعة ونحن نرى المظلات الخارجية تفتح أجنحتها لوقاية المصلين في صلاتي الظهر والعصر من حر الشمس.ومن الشتاء والانزلاق عند هطول المطر. 250 مظلة تم زرعها في شكل هندسي رائع بارتفاع متوسطه 14متر ونصف وتغطي أكثر من 140 ألف متر مربع وهي أحد أبرز المشاريع التي تم إنجازها بكلفة بلغت 10 مليار درهم . تفتح فجرا وتنكمش عند صلاة المغرب لتصبح مثل عامود تزينه الأضواء.
أسبوعا أقمنا بالمدينة زرنا بعد مآثرها مثل مسجد قباء الذي يعد أول مسجد بناه الرسول. وزرنا معارضها التي تستعرض حياة النبي ومعاركه وبيوته وهجرته ...وتصفحنا العديد من كتب مكتبة المسجد النبوي التي تضم أكبر عدد من الكتب الفقهية في العالم .
عدنا إلى مطار جدة في رابع جمعة من أكتوبر بعد أن حان موعد العودة . ويبدو أن حجيجنا وهو يركب الطائرة التي جاءت في موعدها (لحسن حظنا) قد استنشق رائحة المغرب فأحييت في العديد قواميس السب ومعاجم الكلام البذيء والملاسنات التي تشهدها أسواقنا وشوارعنا. لقد تركنا الحج في جغرافيته وحملنا معنا بل عززنا كل حسب قناعاته ما يحفل به من عبر ومن قيم انسانية تقر بالمساواة دون تمييز وبالعدالة دون ظلم وبالتسامح دون عنصرية أو تحقير ... وانطباعات مما رسخ في الذاكرة ونحن في خضم حياة يومية بمكة والمدينة.
في الأخير أوجه سؤالا ثانيا للسيد وزير الأوقاف : ماهي المعايير المعتمدة فيما يتعلق بالنسبة ل«المنعم عليهم».. لماذا أدى العديد منهم تكاليف الحج شأنهم شأن الذين تم اختيارهم عن طريق القرعة.. ولماذا تفاوتت مبالغ هذه التكاليف.. هل في الأمر «إن...» يجب فتح تحقيق بشأنها أم وزارة الأوقاف على بينة من الموضوع..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.