تقدم المخرجة المغربية مريم التوزاني في فيلمها "زنقة مالقة" قصة دافئة وحميمة عن التجذر في المكان كممارسة للحق في الذاكرة وعن اكتشاف الحب والرغبة في شيخوخة تعاند العزلة والنسيان. في طنجة، تحفر مريم التوزاني بؤرا عميقة للسرد، حيث تتشكل فضاءات نابضة بالحياة يختزن فيها الزمن عناصره الحيوية من مشاعر وأشياء ووجوه. وفي قلب هذه الفضاءات بيت عتيق في قلب المدينة القديمة تذخر فيه العجوز الاسبانية الأصل ماريا أنخيليس ذاكرتها الفردية والجماعية التي تتشبث بها إمعانا في الحياة. تستوطن الحكاية سياقا تاريخيا يعود الى ثلاثينيات القرن الماضي، حين استوطنت طنجة عائلات اسبانية فرارا من الحرب الأهلية. بعضها عادت الى بلادها وأخرى بقيت وتناسل أفرادها واندمجوا في نمط الحياة الطنجاوي المطبوع بالدفئ وحميمية العلاقات الاجتماعية وحقيقة التعددية الثقافية والانفتاح. هو فيلم حميم وشخصي كما قدمته، أمس الأحد، مريم التوزاني على منصة المهرجان الدولي للفيلم بمراكش في إطار سلسلة العروض الاحتفالية للدورة 22. ذلك أن جدة المخرجة اسبانية أندلسية، وحين فقدت والدتها قبل ثلاث سنوات، حرضها الشعور بالفقد والمعاناة على نبش يوميات علاقتها بوالدتها وجدتها، وكتابة نص تخييلي من وحي التجربة يحول الألم الى رغبة في الحياة. تجسد دور ماريا أنخيليس في الفيلم الذي أنتجه نبيل عيوش الممثلة الاسبانية المخضرمة كارمن ماورا الى جانب أحمد بولان في دور بائع الأثاث عبد السلام، والاسبانية مارتا إيتورا في دور الابنة كارلا. تبرع المخرجة المؤلفة في تشكيل الفضاءات التي تجري فيها القصة، ما بين بيت كلاسيكي الطراز، يعج بقطع وصور من إرث الماضي، وفضاء خارجي في شارع شعبي صاخب بحرارة العلاقات الاجتماعية وجوار دافئ حنون لا يفسح مجالا للاغتراب، ومقبرة مسيحية تذكر بطلة الفيلم بمصير الذين رحلوا، يسكنون قبورا لا يزورها أحد. يحدث ما يعكر صفو حياة ماريا أنخيليس، المرأة الثمانينية، حين تقرر ابنتها الوافدة من مدريد بيع البيت الموروث عن الأب الراحل لحل أزمتها المالية. توافق الأم على مضض وتخلي البيت نازحة الى بيت للعجزة لكن نداء الذاكرة يعيدها الى البيت للدفاع عن ذاكرتها، واستعادة روحها التي لا تنبض بالحياة الا في المكان الذي احتضنها لأكثر من أربعة عقود، هي التي يطيب لها أن تلقب نفسها "ابنة القصبة". تقولها بدارجة مغربية مكسرة، في نسيج فيلمي اقتضى أن تكون أغلبية حواراته بالاسبانية. تقود معركة التمسك بالبيت السيدة ماريا الى خوض معركة أخرى من ذات الطابع. تتعرف على بائع أثاث قديم، في عمرها، فتنشأ علاقة حب تستعيد بها الرغبة في الحياة التي ظنت أنها فقدتها منذ رحيل زوجها قبل عشرين عاما. تنزع المخرجة الى تخفيف البعد الدرامي للقصة ناقلة المشاهد الى مقاطع كوميدية من صلب الموقف السردي، ليتقمص الفيلم ثوب حياة بكل الألوان المشرقة والقاتمة. ينهض الفيلم على سيناريو محبوك بعناية وسلاسة وأداء تمثيلي يعتمد الاقتصاد والبساطة وفضاءات تمسحها الكاميرا بحنو موثقة جمالياتها الموحية، لكن المتعة البصرية تتحقق أيضا بعناية بالغة بتفاصيل الأكسسوارات التي تؤسس الإطار الوجداني للشخصية الرئيسية وتحفظ زمنا لا يراد له أن يطوى. تفضل مريم التوزاني أن تسدل الستار عن الفيلم، الذي نال جائزة الجمهور في الدورة الأخيرة لمهرجان البندقية، بنهاية مفتوحة لم تبح بكامل السر بعد أن حلت الابنة لتوقيع عقد البيع، وإن كانت الدمعة التي سالت من عينيها تطرح السؤال عن مصير العملية ككل، بينما يكتسي وجه ماريا تعبيرا محايدا جامدا. الفيلم ليس فقط عن واجب الذاكرة بل هو سؤال حول العلاقة المعقدة بين جيل وآخر، جيل يظن أن الحياة الحقيقية أرقام ومعادلات تحسم المستقبل، وآخر يتمسك بأن الماضي ليس شيئا منقضيا بل نسيجا موصولا باليوم والغد. "زنقة مالقة" هو ثالث الأفلام الطويلة لمريم التوزاني بعد "آدم"، الذي عرض ضمن فقرة "نظرة ما" في مهرجان كان، واختير لتمثيل المغرب في جوائز الأوسكار، و"أزرق القفطان" الذي عرض في مهرجاني كان ومراكش، وأ درج في القائمة القصيرة للأوسكار. وإن كان العملان السابقان يعكسان صوتا منصتا لشرائح هشة ومقاربا لقضايا اجتماعية، فإن الفيلم الجديد عودة الى الذات عبر الحفر في صلة الكائن بالمكان.