إعادة رسم قواعد اللعبة السياسية من خلال الضبط الصارم وتشديد الرقابة الرقمية وتوسيع دائرة العقوبات    التقدم والاشتراكية: البلورة الفعلية للحُكم الذاتي في الصحراء ستفتح آفاقاً أرحب لإجراء جيلٍ جديدٍ من الإصلاحات    تفكيك شبكة إجرامية تهرّب الحشيش من المغرب إلى إسبانيا بواسطة طائرات مسيّرة    للا زينب تترأس حفل توقيع اتفاقية شراكة لدعم البرنامج الاستراتيجي للعصبة المغربية لحماية الطفولة    بعد ضغط أوربي... تبون يعفو عن الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال        البواري يتفقد الفلاحة ببنسليمان والجديدة    عامل إقليم الحسيمة يترأس لقاء تشاورياً حول برامج التنمية الترابية المندمجة (فيديو)    بنكيران يدعو لدعم إمام مغربي حُكم بالسجن 15 عاما في قضية "صامويل باتي"    أشبال الأطلس يرفعون التحدي قبل مواجهة أمريكا في مونديال الناشئين    الحكم الذاتي: من الإقناع إلى التفاوض إلى التطبيق ..    مدرب مالي: حكيمي لاعب مؤثر وغيابه مؤسف للمغرب    توقيع اتفاقية شراكة بالرباط للنهوض بالثقافة الرقمية والألعاب الإلكترونية    الرباط.. إطلاق النسخة الثالثة من برنامج "الكنوز الحرفية المغربية"    عجز في الميزانية يقدر ب55,5 مليار درهم عند متم أكتوبر المنصرم (خزينة المملكة)    فاجعة خريبكة.. بطلة مغربية في رفع الأثقال بنادي أولمبيك خريبكة من بين الضحايا    عروشي: طلبة 46 دولة إفريقية يستفيدون من منح "التعاون الدولي" بالمغرب    مجلس النواب يعقد جلسات عمومية يومي الخميس والجمعة للدراسة والتصويت على مشروع قانون المالية لسنة 2026    أمطار رعدية وثلوج ورياح قوية مرتقبة بعدة مناطق بالمملكة غداً الخميس    رياح قوية وزخات رعدية مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    رئيس برشلونة يقفل الباب أمام ميسي    الاسبانيّ-الكطلانيّ إدوَاردُو ميندُوثا يحصد جائزة"أميرة أستورياس"    مسارات متقاطعة يوحدها حلم الكتابة    في معرض يعتبر ذاكرة بصرية لتاريخ الجائزة : كتاب مغاربة يؤكدون حضورهم في المشهد الثقافي العربي    على هامش فوزه بجائزة سلطان العويس الثقافية في صنف النقد .. الناقد المغربي حميد لحميداني: الأدب جزء من أحلام اليقظة نعزز به وجودنا    أمينوكس يستعد لإطلاق ألبومه الجديد "AURA "    عمالة المضيق الفنيدق تطلق الرؤية التنموية الجديدة. و اجتماع مرتيل يجسد الإنتقال إلى "المقاربة المندمجة"    مصرع 42 مهاجرا قبالة سواحل ليبيا    أربعة منتخبات إفريقية تتصارع في الرباط على بطاقة المونديال الأخيرة    "الكان" .. "دانون" تطلق الجائزة الذهبية    منظمة حقوقية: مشروع قانون المالية لا يعالج إشكالية البطالة ومعيقات الولوج للخدمات الأساسية مستمرة    ترامب يطلب رسميا من الرئيس الإسرائيلي العفو عن نتنياهو    مؤسسة منتدى أصيلة تفوز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والاداب في مجال المؤسسات الثقافية الخاصة    لجنة المالية في مجلس النواب تصادق على الجزء الأول من مشروع قانون المالية لسنة 2026    استبعاد يامال من قائمة المنتخب الإسباني    اختلاس أموال عمومية يورط 17 شخصا من بينهم موظفون عموميون    مباريات الدور ال32 ب"مونديال" الناشئين في قطر    مستشارو جاللة الملك يجتمعون بزعماء األحزاب الوطنية في شأن تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي في األقاليم الجنوبية    "الماط" يستغل تعثر شباب المحمدية أمام اتحاد أبي الجعد ويزاحمه في الصدارة    وكالة الطاقة الدولية تتوقع استقرارا محتملا في الطلب على النفط "بحدود 2030"    السعودية تحدد مواعيد نهائية لتعاقدات الحج ولا تأشيرات بعد شوال وبطاقة "نسك" شرط لدخول الحرم    ارتفاع أسعار الذهب في الأسواق العالمية    إسرائيل تفتح معبر زيكيم شمال غزة    حجز آلاف الأقراص المهلوسة في سلا    تقرير دولي: تقدم مغربي في مكافحة الجريمة المنظمة وغسل الأموال    الأمم المتحدة: الطلب على التكييف سيتضاعف 3 مرات بحلول 2050    ليلة الذبح العظيم..    "جيروزاليم بوست": الاعتراف الأممي بسيادة المغرب على الصحراء يُضعِف الجزائر ويعزّز مصالح إسرائيل في المنطقة    "رقصة السالسا الجالسة": الحركة المعجزة التي تساعد في تخفيف آلام الظهر    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    خمسة آلاف خطوة في اليوم تقلل تغيرات المخ بسبب الزهايمر    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مثقفون وعظماء غيبهم الموت
نشر في المساء يوم 08 - 01 - 2011

هؤلاء استعجلوا الغياب. سرقهم الموت تباعا، خلال السنة «الثقيلة» التي ودعناها قبل أيام، ليكون الغياب وحده دليلا وشاهدا على عظمتهم.. فقد غاب عنا عابد الجابري
وحامد أبو زيد وأسامة أنور عكاشة وحسين فضل الله والطاهر وطار، وأخيرا، محمد أركون.. لكنهم لم يرحلوا، بل ناموا ليستيقظوا بلغة الشيخ الأكبر، فهؤلاء العظماء ينتمون إلى جيل تفتقت رياحينه قبل ثلاثين سنة ونيف، عندما كان الزمان العربي أكثر جموحا من الآن، فصاح كلٌّ بصوته: «لا غد في الأمس.. فلنتقدم»، لذلك لم يركن هذا الجيل إلى مشاعر الاستسلام السهلة، بل دفع العقل العربي إلى طرق أبواب الأسئلة الصعبة والشاقة والشقية أيضا، فما دامت نكساتنا مُفْرداً بصيغة الجمع، فإنه مقدَّر علينا أن نجعل غدنا أفقا ورؤيا..فقلبوا كل معادلات التقليد في الفكر والثقافة والفن والدين.. ليعطونا دليلا آخرَ على أن هوية الفكر العربي المعاصر مفتوحة على التعدد والاختلاف.. لذلك، فهذه فرصة لنشكر هؤلاء العظماء أحياء وأمواتا، أحياء عندما أجادوا وأفادوا، وأمواتا عندما سيُتيحون لتلامذتهم ولعموم المثقفين الفرصة بأن يفكروا بصوت مسموع، في ما يجعل مِن فِكر هؤلاء -على اختلافهم وتعدد مشاربهم- فكرا منتميا إلى الآن..
محمد عابد الجابري ناقد العقل العربي
عندما نقرأ سيرة الراحل محمد عابد الجابري وأعماله، كما تتحدث عنه، صراحة حينا، وهمسا أحايين كثيرة.. نفهم معنى أصيلا في مفهوم ابتذله «رفاق» انقلبوا عنوة عن درب الأصالة في الفكر والصدق في النضال، إنه «المثقف العضوي»، بل إنه على رأس من يستحقون في مشهدنا الثقافي الوطني هذا الاسم، دون التباس.. اشتغل في السياسة، حزبيا وإعلاميا وفلسفيا.. في زمن كانت السياسة -كما الصحافة- عملا فدائيا بامتياز.. حتى لمّا غيّر الرفاق دروبهم وطرقوا أبواب «الواقعية السياسية»، المفضية إلى حلبة التناطح والتآلب على المناصب والكراسي.. حافظ الرجل على إصراره على أن الممكن الوطني والقومي أكبرُ وأشرفُ من حملة انتخابية ومن كوطا تحت طاولة المصداقية!...
زهده في إغراءات السياسة وعفته عن أطاييب مساوماتها في مغرب سياسي غير شفاف.. أعطياه صفاء الذهن وقوة العزم على طلب العلم الأكمل والأشرف الموجود في البرهان.. فنقد وفكّك وحقّق.. وناظَر ثم ربى، وكان له في هذا فضلُ اجتهاد ومذاكرة وقوةُ مِنّة ومواتاة قريحة... عبَرت لغة الضاد إلى نظيراتها في كل فج عميق، فقرأ له البوذي في اليابان والمسيحي في أوربا والعجم في الترك وأندونيسيا.. ناهيك عن العرب في مشارق الأرض ومغاربها.. بدءا بأولى بنات أفكاره «العصبية و الدولة» حتى آخرها -رحمه الله- «فهم القرآن».
الجابري، المفكر والفيلسوف هو اسمٌ بصيغة الجمع، فمن الثقافة والفكر، مرورا بالتربية واللغة، وصولا إلى العمل السياسي والحقوقي، التنظيري والحزبي، خطَّ الرجل مسيرةَ مثقف عضوي أو فيلسوف ديمقراطي، ففي كتاباته التنظيرية، تنعكس لدى الرجل هواجس تربوية تدفعه أحايين كثيرة إلى ارتداء لباس المعلم المبسط والموضح.. استشهادا بالأمثلة واختيارا للشواهد، وهو في هذا كان وفيا لسيرة الفيلسوف الغطريف المغربي، المفخرة «أبو الوليد بن رشد»، والذي رام رفع اللبس والغموض عما استعصى عن أفهام الناس من قول «المعلم الأول»، تفسيرا وشرحا وتلخيصا، وفضْلُه في هذا على أهل زمانه أكبرُ وأعظم، وفي نفس الوقت، دفع الناس إلى طلب الحق حثيثا، حتى وإن نطق به مَن خالَفهم المللَ والنِّحل، فكتب الجابري في هذا وعنه، بسديدِ طريقة وصائب تحليل، لاستخلاص عِبره.. فأجاد وأفاد واستحق عن ذلك أكبرَ تكريم.. يكفي أن نقول إنه، لو لم يقرأ المتعلم العربي العادي غيرَ كتابه «نقد العقل العربي»، بأجزائه الأربعة، لكفَتْه لتكون له رؤية كافية عن عظمة تراثه العربي الإسلامي.
الجابري، الفيلسوف المجدد، عُرف بسيرة وفكر ابن رشد، كاتب العقل الفلسفي والفقهي العربي المتنور والمتجدد الذي لم يستطع أن يكون كاتبَ سلطان أو ديوان، كما فعل آخرون، وقدم دراسات يلتقي فيها التحقيق بالتحليل والتفكيك لنصوصه ومأثوراته الحية.. وقد شكّل ابن رشد بالنسبة إلى الجابري نموذجا للمثقف العربي المطلوب اليوم وغدا، المثقف الذي يجمع بين استيعاب التراث وتمثُّل الفكر المعاصر والتّشبُّع بالروح النقدية وبالفضيلة العلمية والأخلاقية...

محمد أركون
عالم الإسلاميات التطبيقية
محمد أركون، تَختصر مسيرتُه الشخصية والفكرية عمق الوحدة المغاربية وعمق الانتماء إلى الكَونيّ، فمن منطقة «القبايْل»، مسقط رأسه، انتقل إلى فرنسا، التي فتّقت ملكاته، ثم إلى الدار البيضاء، التي عانقت تربتُها جثمانه.. بعد أن عانقت، ولعقود، أفكارَه وأسرت عواطفه..
أركون، العالم المحقق، مِن بين مَن آمنوا بأن التطرف ليس صفة مميزة للأديان، فهي بطبيعتها إنسانية، لذلك كان همه الأكبر هو إظهار هذه الإنسية، في بعدها العقلاني، كما جسّدته العقلانية المعاصرة خاصة، وفي بعدها الروحاني السامي، كما جسده القرن الرابع للهجرة في العالم الإسلامي، العالم الذي «أنتج» أبا حيان التوحيدي، الشخصية التي قال عنها أركون -رحمه الله- «إنه أخي في المحنة».. لذلك انبرى للتصدي للتطرف في الحضارتين، الغربية والعربية معا.. فناظر وحاجج بقوة بيان المستشرقين الجاحدين والفقهاء المنغلقين..
لأركون آراء هامة في مسألة التراث، تتمثل حصيلتها في أن التراث يشكل بالفعل المقومَ الأساسيَّ للنزوع النهضوي في كل العصور، كما يغذي هذا النزوع في العصر الحاضر بصورة أقوى، لكنْ مع ذلك لا بد من الاعتراف بأننا لم نتمكن بعدُ من ترتيب العلاقة بين أجزاء هذا التراث، من جهة، وبينه وبيننا، من جهة أخرى، وبالصورة التي تجعله يؤسس ذاتنا العربية الإسلامية وفق متطلبات العصر، فالتاريخ العربي كما نقرأه اليوم في الكتب والمدارس والجامعات هو تاريخ «فرق» وتاريخ «طبقات» وتاريخ «مقالات».. إنه تاريخ مجزَّأ، تاريخ الاختلاف في الرأي وليس تاريخ بناء الرأي... هنا، كانت مطالب أركون الشهيرة بإقرار تخصصات علمية لدراسة الأديان، كعلم الأديان المقارن والإسلاميات التطبيقية..
تتمثل إحدى المهمات الثقافية والفكرية التي أناط بها أركون نفسه في تحصين الفكر العربي من انزلاقاته، سواء في اتجاه التطرف في التغريب أو في اتجاه التطرف في الهوية، وهي رهانات صعبة، غير أنها لم تكن مستحيلة بالنسبة إلى أركون، لذلك يعد من المفكرين العرب المعاصرين الكبار الذين أسهم نتاجهم الفكري -وما يزال- بشكل كبير في الحياة السياسية والثقافية والفكرية في العالم العربي، وهو يتميز بتعدد اهتماماته الفكرية ونشاطه المكثف والمثابر في إغناء الفكر العربي والمكتبة العربية، بمؤلفاته ومنجزاته البحثية الجادة، إبداعا ودراسة..
أن يوصي أركون بدفنه في أرض المغرب، فهذا لا يحتاج إلى معجم جزائري مهما كانت نوايا واضعيه في الدلالة على عظمة أرض المغرب الأقصى، التي احتضنت قبله وعلى مر عقود ابن باجة وابن طفيل وابن رشد وابن خلدون وموسى بن ميمون أبي البناء المراكشي.. إنه نابغة لم يخف -وأنّى له أن يفعل- أن الفكر المغربي كانت وما زالت له خصوصية برهانية.. حفظتها له أسفار المترجمين وشهادات المؤرخين ودواوين المحققين... خصوصية بنتْها أدمغة أجدادٍ لنا كانوا على مسافة وعرفان المشرق وهرمسيته... فليست كل الحضارات وكل اللغات قادرة على ذلك، وحدها الحضارة المغربية فعلت هذا قبل الغرب ببضعة قرون.. وليس المطلوب منا، ونحن نستعيد مفخرة هذا التراث، أن نكون كائنات تراثية، بل كائنات لها تراث..
ترك أركون مكتبة ثرية بالمؤلفات والكتب، ومن أهم عناوينه: «ملامح الفكر الإسلامي الكلاسيكي»، «دراسات الفكر الإسلامي»، «الإسلام أمس وغدا»، «من أجل نقد للعقل الإسلامي»، «الإسلام أصالة وممارسة»، «الفكر الإسلامي: قراءة علمية»، «الإسلام: الأخلاق والسياسة»، «الفكر الإسلامي: نقد وإجتهاد»، «العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب»، «من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي»، «من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر»، «الإسلام، أوربا الغرب»، «رهانات المعنى وإرادات الهيمنة»، «نزعة الأنسنة في الفكر العربي»، «قضايا في نقد العقل الديني». «كيف نفهم الإسلام اليوم؟» وغيرها...
نصر حامد أبو زيد
عاش غريبا ومات غريبا فطوبى للغرباء
نصر حامد أبو زيد، حكاية ومعنى، حكاية مصر ما بعد النكسة والنكبة واتفاقيات «الاستسلام» اللا مشروط، ومعنى يمتد عميقا في تاريخ هذه الأمة التي راكمت أشكالا كثيرة من اضطهاد علمائها وأفذاذها، فبعد محنة ابن حنبل، التي سارت بذكرها الركبان، عاش حامد أبو زيد تفاصيل اضطهاد بلغ حد النفي وتطليق زوجته وهدر دمه... فاختار، قسرا، العيش في لايدن الهولاندية، مهاجرا وغريبا ومنفيا.. وقبل أشهر، فارقَنا المغترب مجددا، وكأن قدَره أن يولد غريبا ويرحل بغتة وبمفرده دون ضجيج..
يتمتع نصر حامد أبو زيد بثقافة تراثية عالية ولديه قدرة فائقة على الجدل ومناقشة مختلف قضايا المصير العربي ومسائل العصر، وله مساهماته الواسعة في المواسم والمؤتمرات والندوات الثقافية في الوطن العربي وفي أوربا، وهو أيضا ناقد عقلاني يقرأ تراثنا العربي والحضاري بعين معاصرة هادفة وثاقبة، ويسعى إلى تجذير وترسيخ فكر عربي إسلامي تجديدي عقلاني ديمقراطي متنور ومتحرر، يتخذ من الينابيع التراثية العربية والإسلامية مصدرا وملهما له.
يمكن اعتبار أبي زيد واحدا من المفكرين الذين انتقدوا الثقافة الأزهرية من داخلها، وما اعتصامه بالاتجاه العقلي في التفسير عند المعتزلة وبفلسفة التأويل وإشكالية وحدة الوجود عند ابن عربي وبمفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني سوى هرب من سطوة الاجترار والفقر المعرفي على طرق البحث والتأطير في الجامعات العربية..
أثار تساؤلات جذرية مست أصول الثقافة وطرح مسائل حيوية شككت في أسس العلوم والمعارف وبحث عن الدلالة والمعنى وأثث إمكانية رحبة لوجود الإنسان العربي في العالم دون تحفظات أو أحكام مسبقة تعيقه عن مقابلة الآخر والفعل في الحياة والمشاركة في صناعة الكونية.
يتعلق الأمر بمفكر يُقِيم دائما مسافة نقدية بينه وبين ذاته المفكرة والثقافة التي يتحدر منها واللغة التي يتكلمها والهوية التي ينتمي إليها والفلسفة العامة التي يتحرك ضمنها.. انه يمعن النظر في شروط الإيمان وسبل المعرفة ومناهج التفكير ويقوم بتحليل الخطاب وتطبيق أحدث نظريات القراءة..
وقد خلّف لنا العديد من المؤلفات والدراسات، مثل «مفهوم النص دراسة في علوم القرآن» و«إشكاليات القراءة وآليات التأويل» وكذا «نقد الخطاب الديني» و«الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجيا الوسطية» و«الخطاب والتأويل» و«النص، السلطة الحقيقة» و«الخلافة وسلطة الأمة» و«التفكير في زمن التكفير» و«هكذا تكلم ابن عربي» و«دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة»... هذه، باختصار، هي الخطوط الفكرية لمشروعه الفكري، الذي مكّنه من الحصول على جائزة ابن رشد للفكر الحر (2005) وكان قد حصل قبلها (في 1993) على وسام الاستحقاق الثقافي التونسي وعلى أوسمة وجوائز أخرى عديدة...
حسين فضل الله
العلماء ورثة الأنبياء
اشتهر الشيخ حسين فضل الله باجتهاداته الرامية إلى خلق التقارب بين المذاهب الإسلامية، والتي وصل بعضها حدَّ التناحر في بلدان كلبنان والعراق والبحرين والكويت، وهو بهذا يستعيد مجد عالم إسلامي يُغْنيه الاختلاف ولا يقتله، عالم تتصل فيه العقائد الإيمانية للهوية بالمقولات العقلانية للمغايرة وتتواصل فيه عقائد الكثرة مع عقائد القلة، في توافق وتبادل.. وهو بهذا استطاع أن يبدع نسخة نقلية وعقلانية للقضايا الخلافية في فِتن الشرق، ونقصد قضيتي الأصول والإمامة، ولم يكن الشيخ فضل الله بهذا انقساميا، كما آثر ذلك خصومه العرفانيون في بلاد فارس ومن يدور في فلكهم، وإنما تَغيّى تنبيه أولي العزم والراسخين في العلم إلى المسافة التي لطالما حرص عليها أسلافنا مع كل الفتن...
يعطينا الشيخ فضل الله، نحن أهل المغرب، دروسا وعِبَراً مستنبطة من واقع التشرذم الطائفي الذي تعيشه بلدان عربية بعثرتها رياح الخمينية، ولنا في التجربة اللبنانية العبرة الكبرى، عندما تحول هذا البلد الجميل إلى «بركان» طائفي فاقد للسيادة.. فالفتنة أشد من القتل!..
ما لا يعرفه الكثيرون عن الشيخ هو أنه كان من أشد المناهضين للفكر الإمامي، وخاصة نسخته الخمينية، وله في هذا الباب مؤلفات غنية رجّح فيها الشيخ قوة العقل وبداهة الحكم وقطعية الوحي.. ليثبت أباطيل فكر قائم على شتم الصحابة وتحقير تاريخهم.. وقد برزت دراسته في النجف وتأثره بحوزتها في آرائه المخالفة لنظرية ولاية الفقيه، التي طبّقها الإمام الخميني، والمستندة إلى مرجعية «قم»...
حظي بشعبية واسعة بين المسلمين، بمختلف مذاهبهم، ووصلت شعبيته إلى دول آسيا الوسطى والخليج، فهو من أكثر علماء الشيعة انفتاحا على التيارات الأخرى، وكان معروفا في الأوساط الدينية الشيعية بالاعتدال في وجهات نظره الاجتماعية، خاصة بشأن النساء، وأصدر عدة فتاوى أو أراء دينية بارزة، من بينها تلك التي تحظر على الشيعة عادةَ ضربِ الرؤوس بآلات حادة أثناء مراسيم عاشوراء، إحياء لمقتل الإمام الحسين، حفيد النبي محمد عليه الصلاة والسلام.. وغيرها من الفتاوى المتنورة.. لذلك لا عجب إن وجد فيه كثيرون من مذاهب فكرية ودينية أخرى عقلا متنورا، محاورته ممكنة وضرورة، ومؤمنا، بلا تعصب ومختلفا، مع دعوة إلى التفاعل والحوار...
ارتبط اسم الشيخ بخيار المقاومة للكيان الصهيوني، لذلك كان، ولمدة غير هينة، المرجعَ الروحيَّ لحزب الله، قبل أن يختار هذا الأخير الخمينية إيديولوجيا وفكرا، لذلك فقد تعرض لمحاولات اغتيال عدة، كانت أبرزها عام 1985 عندما استهدفته سيارة ملغومة في «بئر العبد»، وهو أيضا من الشخصيات الأولى التي كان لزخمها العلمي دور في التربية الروحية والفكرية للكثير من الكوادر التي أسست حزب الله، ويحظى باحترام بين أفراد الحزب، رغم أنه لم يتولَّ منصبا إداريا تنظيميا فيه.
ترك الشيخ فضل الله مكتبة غنية تضم أكثر من 80 عنوانا في مختلف المجالات، منها (الإسلام ومنطق القوة -مع الحكمة في خط الإسلام -مفاهيم إسلامية -قضايانا على ضوء الإسلام -خطوات على طريق الإسلام -حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع -أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة -الأخلاقيات الطيبة وأخلاقيات الحياة -تحديات الإسلام بين الحداثة والمعاصرة -الإسلام وقدرته على التنافس الحضاري) وغيرها.

أسامة أنور عكاشة
أسطورة الدراما العربية
معظم الإنجازات السينمائية والتلفزيونية الرائعة والتي نراها وتنبهر بها عقولنا هي في الواقع مجرد أفكار داعبت أذهان كاتب سيناريو، وكان من الممكن أن تتلاشى وتنتهي، لولا تمسك أصحابها بها وتحويلها إلى كتابة فنية قابلة للحياة في صور... لذلك غالبا ما يقول أهل الاختصاص إن بناء فيلم لا يختلف كثيرا عن بناء كاتدرائية في القرون الوسطى.. فكما أن الكاتدرائية تحتاج إلى رسم تخطيطي أولا ثم إلى إحضار مواد البناء ثم الشروع فعليا في البناء، حتى يخرج المبنى إلى الوجود بنفس الصورة التي قام المهندس ببنائها في ذهنه المتوقد، فكذلك الفيلم السينمائي يحتاج إلى سيناريو جاهز، وكلما كان السيناريو مكتوبا بحِرَفية عالية وملتزما بقواعد الكتابة، من تقسيم للمَشاهد والبناء الدرامي للأحداث، كلما كان البناء أجمل..
تحيل كل هذه الأفكار على اسم أتقن الإنصات إلى مصر الحارات الشعبية، فكتب أجمل السيناريوهات. ومن الطبيعي أن تكون هذه السيناريوهات أساسا متينا لأعظم الأعمال الدرامية والسينمائية في العالم العربي، إنه أسامة أنور عكاشة، وهو أحد أهم المؤلفين وكتاب السيناريو في الدراما المصرية والعربية، وتعتبر أعماله التلفزيونية الأهمَّ والأكثر متابعة في مصر وفي العالم العربي، له أكثر من 20 مسلسلا للتلفزيون، منها (الراية البيضا، لما الثعلب فات، عصفور النار، رحلة أبو العلا البشري، وما زال النيل يجري، ضمير أبلة حكمت، الشهد والدموع، ليالي الحلمية، أرابيسك، زيزينيا، امرأة من زمن الحب، أميرة في عابدين، كناريا وشركاه، عفاريت السيالة، أحلام في البوابة، المصراوية، وقال البحر).. كما كتب أنور عكاشة خمسة سيناريوهات سينمائية، فضلا على عدد من المؤلفات، منها «خارج الدنيا» (مجموعة قصصية- 1967)، «أحلام في برج بابل (رواية- 1984)، «مقاطع من أغنية قديمة» (مجموعة قصصية - 1988)...
وكان عكاشة من أبرز الكتاب الذين أعادوا الاعتبار إلى مؤلف الدراما المصرية بمسلسلاته التلفزيونية التي ارتبطت بممثلين بارزين، منهم فاتن حمامة في «ضمير أبلة حكمت»، ومحمود مرسي في «لما الثعلب فات»، ومحمود المليجي في «وقال البحر»، ويحي الفخراني في أكثر من عمل، وأهمها «ليالي الحلمية».
ومن أبرز مسلسلاته «الراية البيضا»، «الشهد والدموع»، «زيزنيا»، و»ليالي الحلمية»، التي تعد من أطول المسلسلات العربية، وهي من نحو 150 حلقة في خمسة أجزاء، وآخر أعمال الكاتب الراحل «المصراوية»، التي أُنتِج منها الجزءان الأول والثاني في العامين الماضيين. ويعتبر مسلسل «الشهد والدموع»، الذي حقق نجاحا جماهيريا كبيرا لدى عرضه، أول عمل قوي يدشن اسم أسامة أنور عكاشة في مجال الدراما، وتوالت بعده العديد من الأعمال التلفزيونية المتميزة، والتي بلغت حوالي 40 مسلسلا وحققت نجاحا كبيرا، على المستويين النقدي والجماهيري.
حصل أسامة أنور عكاشة على العديد من الجوائز والأوسمة، من أبرزها جائزة الدولة للتفوق في الفنون، من وزارة الثقافة المصرية عام 2002، وجائزة الدولة التقديرية عام 2008، كما حصدت أعماله الدرامية العديد من الجوائز في الكثير من الاستفتاءات واستطلاعات الرأي الجماهيرية، كما فاز بجائزة نجيب محفوظ للتأليف الدرامي في مهرجان الإعلام العربي.
ويعتبر مسلسل «ليالي الحلمية» -والذي واجه في جزئه الخامس تعنتا رقابيا شديدا وقتها- أحد أبرز علامات الدراما المصرية خلال القرن الماضي، حيث حقق نجاحا كبيرا وكان وقت إذاعته إيذانا بخلو الشوارع من المارة ومن السيارات...
الطاهر وطار
صوت الجزائر المجروحة
الطاهر وطار هو رمز وطني لجزائر ما بعد الاستقلال، الجزائر الموروثة بجرح في الهوية، وهو من مؤسسي الأدب العربي الحديث في الجزائر ومن أشد المدافعين عن الحرف العربي ومن أشد المعارضين للتيار الفرنكوفوني في بلاده، حيث كان يعارض توغل هذا التيار في أجهزة الدولة، لذلك فقد أنشأ وطار الجمعية الثقافية «الجاحظية» في عام 1989، وهي تحمل شعار «لا إكراه في الرأي»، يقول بهذا الخصوص: «للأسف، تحررنا سياسيا ولم نتحرر ثقافيا، في فترة الاستقلال، أسسنا ملايين المدارس التي تعلم الفرنسية، حتى إننا نشرنا الفرنسية أضعاف ما قامت به فرنسا خلال الاحتلال الذي استمر قرنا ونصف قرن، وأصبحت البورجوازية الحاكمة نخبة تستعمل الفرنسية لغة للحديث».
ألّف الطاهر وطار عدة كتب تُرجمت من العربية إلى نحو 10 لغات منها، الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية والبرتغالية والفيتنامية واليونانية والأوزبيكستانية والأذرية، وأهم كتبه «اللاز» و«الزلزال» و«الحوات والقصر» و«رمانة» و«تجربة في العشق» و«عرس بغل» و«العشق والموت في الزمن الحراشي» و«الشمعة والدهاليز» و«الشهداء يعودون هذا الأسبوع» و»الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي».. واختتم وطار مسيرته الإبداعية الطويلة بروايته «قصيد في التذلل»، وكان آخرَ ما نال من جوائز جائزةُ الرواية لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية عام 2009.
وعن مشروعه الروائي، يقول الطاهر وطار أو «عمي الطاهر»: «أحاول أن أؤسس لشكل ينبني على العلاقة الجدلية بين الشكل والموضوع، وهذا يجعلني لا أنسج على منوال أي مدرسة أخرى.
والقاسم المشترك في هذه الأعمال هو الخيال الجامح والاستعانة بما وراء الواقع»... ويتابع: «تمنيت لو أنني استُشهدت في الخمسينيات مع الذين استشهدوا».. وهي إجابة صادمة من رجل عاشق للحياة، لكن «ثقل السنوات»، كما يقول، يجعل المرء يشعر لو أن ديونه لوطنه أداها كلها مرة واحدة بالاستشهاد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.