نحو إقرار التوازن بين مبدأ المجانية ومتطلبات الحكامة مقدمة أضحى التعليم العالي في وقتنا الحاضر، أحد أكثر المرافق العمومية تعقيداً من حيث التدبير والتمويل والوظيفة الاجتماعية. فبينما يستند هذا المرفق إلى مبادئ دستورية وقانونية راسخة، وفي مقدمتها مبدأ مجانية التعليم، فإن التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وتزايد الطلب على التكوين، وتنوع فئات المستفيدين، تفرض اعتماد مقاربات جديدة في التدبير قوامها الحكامة، الاستدامة المالية، والجودة البيداغوجية. وفي هذا السياق الانتقالي التاريخي، برزت إشكالات قانونية وقضائية حادة، من بينها مسألة فرض رسوم على بعض الخدمات أو الصيغ التكوينية الموجهة لفئات خاصة كالطلبة الموظفين، وما إذا كان ذلك يشكل مساساً بمبدأ مجانية التعليم أم يدخل في إطار تطوير حكامة التعليم العالي. وقد تجسّد هذا التوتر بوضوح في التباين الأخير في مواقف القضاء الإداري المغربي، حيث اهتدت محكمة وجدة إلى إلغاء هذه الرسوم ليس فقط حمايةً لمجانية التعليم، بل لكونها حسب تأويل قضاة وجدة "تكليفا عموميا جديدا" لا يصدر شرعا وحصرا إلا عن البرلمان وليس عن مجالس جامعية، في حين رفض القضاء الإداري بمدينة الدارالبيضاء مؤخرا إلغاءها، معتمداً مقاربة أكثر توازنا بين مقتضيات الشرعية ومتطلبات الحكامة؛ مسجلا بذلك منعطفا نوعيا يستحق التوقف عنده. ومن هنا تتحدد إشكالية هذا البحث في التساؤل الآتي: إلى أي حد يستطيع القضاء الإداري التوفيق بين مبدأ مجانية التعليم ومتطلبات حكامة التعليم العالي، دون التضحية بالشرعية القانونية أو تعطيل الإصلاح المؤسساتي؟ التأطير المفاهيمي والقانوني لمجانية التعليم وحكامة التعليم العالي مفهوم مجانية التعليم وحدوده القانونية يقصد بمبدأ مجانية التعليم ضمان ولوج المواطنين إلى التعليم العمومي دون عائق مالي يحول دون ممارسة هذا الحق. وهو مبدأ يستمد مشروعيته من اعتبارات: * اجتماعية (تكافؤ الفرص)، * دستورية (الحق في التعليم)، * ووظيفية (بناء الرأسمال البشري). غير أن هذا المبدأ لم يكن تاريخياً ولا قانونياً مطلقاً أو غير قابل للتقييد، إذ انصبّ أساساً على: * التعليم الأساسي، * وضمان الولوج إلى التكوين العمومي النظامي. ولم يمتد بالضرورة إلى: * الخدمات الإضافية، * الصيغ التكوينية الخاصة، * أو التكوينات الموجهة لفئات ذات وضعية مهنية أو اقتصادية متميزة. ومن ثم فإن الإشكال لا يكمن في المبدأ ذاته، بل في مدى اتساع نطاقه التفسيري. حكامة التعليم العالي كتحول بنيوي تعني حكامة التعليم العالي اعتماد أساليب حديثة في التدبير تقوم على: * النجاعة والفعالية، * ترشيد الموارد، * تنويع مصادر التمويل، * تحسين الجودة، * ربط المسؤولية بالمحاسبة. وتفرض هذه الحكامة: * الخروج من نموذج التمويل الأحادي (الدولة فقط)، * التكيّف مع تنوع جمهور الطلبة (طلبة عاديون، موظفون، أجراء، مهنيون) * تطوير عرض بيداغوجي مرن ومتخصص. وبالتالي، فإن الحكامة لا تستهدف تقويض الحق في التعليم، بل ضمان استمراريته وجودته في سياق مالي واقتصادي متغير. موقف القضاء الإداري من فرض الرسوم – قراءة نقدية للاجتهادات القضائية الاتجاه القضائي المتمسك بالتفسير الصارم لمجانية التعليم ذهب بعض القضاء الإداري إلى اعتبار فرض أي رسوم على الطلبة، مهما كانت طبيعتها، مساساً بمبدأ مجانية التعليم، مؤسساً ذلك على: * قراءة موسعة للمجانية، * تخوف مشروع من خوصصة التعليم العمومي تدريجياً. غير أن هذا الاتجاه، رغم نبل مقاصده، يعاني من عدة محدوديات: 1. الخلط بين التعليم كحق والخدمات المرتبطة به كوسيلة؛ 2. تجاهل تطور وظيفة الجامعةمن مؤسسة تلقين إلى فضاء تكوين وتأهيل مهني مستمر؛ 3. تجميد السياسة العمومية التعليميةباسم حماية الحق. وهو ما يجعل هذا التوجه غير قادر على مواكبة التحولات المستقبلية. دلالة موقف القضاء الإداري بالدارالبيضاء يمثل رفض القضاء الإداري بالدارالبيضاء إلغاء الرسوم المفروضة على خدمات موجهة للطلبة الموظفين منعطفاً نوعياً في الاجتهاد القضائي. فهذا القضاء: * لم ينكر مبدأ مجانية التعليم، * لكنه أعاد تحديد مجاله الوظيفي. وقد استند ضمنياً إلى عناصر جوهرية، منها: * خصوصية الفئة المستفيدة (طلبة موظفون)، * الطابع غير الإلزامي للخدمة، * وجود مقابل فعلي يتمثل في تنظيم خاص وتكوين مكيّف. وهكذا انتقل القاضي من منطق المنع المطلق إلى منطق التوازن والتناسب. القضاء الإداري كفاعل في إعادة هندسة التوازن بين الشرعية والحكامة من قاضي الشرعية الشكلية إلى قاضي الشرعية الوظيفية لم يعد دور القاضي الإداري مقتصراً على مراقبة مطابقة القرار للنص، بل أضحى معنياً أيضاً ب: * تقييم غاية القرار، * أثره الاجتماعي، * وقدرته على تحقيق المصلحة العامة. وهو ما يفرض: * تفسيراً مرناً للنصوص، * إدماج مبادئ الحكامة ضمن الرقابة القضائية. آفاق تطور الاجتهاد القضائي مستقبلاً يتجه القضاء الإداري مستقبلاً نحو: 1. ترسيخ التمييز بين التعليم المجاني والخدمات التكوينية الخاصة؛ 2. اعتماد رقابة قائمة على التناسب والمعقوليةبدل الإلغاء الآلي؛ 3. التحول إلى قضاء التنظيم لا قضاء العرقلة. وبذلك يصبح القضاء: ضامناً لاستمرارية الحق، لا سجيناً لتفسير جامد له. ختاما يتضح من خلال هذا البحث أن الإشكال المتعلق بفرض الرسوم في التعليم العالي لا يمكن حسمه بمنطق ثنائي (مشروع/غير مشروع)، بل يقتضي مقاربة تركيبية توازن بين: * حماية مجانية التعليم، * ومتطلبات حكامة تعليم عالٍ مستدام، فعال، ومتطور. ويبرز القضاء الإداري، خاصة من خلال اجتهادات حديثة كقرار الدارالبيضاء، كفاعل محوري في إعادة صياغة هذا التوازن، بما يفتح أفقاً جديداً لقضاء إداري لا يكتفي بحماية الماضي، بل يساهم في بناء مستقبل المرفق العمومي التعليمي.