تعاونيات إفريقية تستفيد من المغرب    اتحاد تواركة إلى نهائي كأس التميز    خدش بسيط في المغرب ينهي حياة بريطانية بعد إصابتها بداء الكلب    نشرة إنذارية: طقس حار وزخات رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة بعدد من المناطق    كومنولث دومينيكا تجدد تأكيد دعمها لمخطط الحكم الذاتي المغربي في الصحراء    الأمم المتحدة/الصحراء.. سيراليون تجدد تأكيد دعمها لمبادرة الحكم الذاتي المغربية    ترامب: تغيير النظام الإيراني "قد يحصل"    المغرب يستعد لإحصاء وطني جديد للماشية ويعد بشفافية دعم الكسابة    بونو يحبط ريال مدريد ويمنح الهلال تعادلا ثمينا في كأس العالم للأندية    بونو ينقذ الهلال من مقصلة الريال    البنك الأوروبي يجدد تأكيد التزامه لفائدة بنيات تحتية مستدامة وشاملة بالمغرب    الأزهر يثمن "الكد والسعاية" المغربي    احتجاج جديد أمام البرلمان.. خريجو الجامعات يصعّدون ضد شروط الإقصاء في مباريات التعليم    المغرب أولًا .. ومن يرفع "راية إيران" يسقط في امتحان الوطنية    انتخاب المغرب نائبا لرئيس المجلس العلمي لاتفاقية اليونيسكو حول حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه    لقجع: المغرب ملتزم بجعل مونديال 2030 نموذجا للاندماج والاستدامة البيئية    المغرب يراجع اتفاقه التجاري مع تركيا لتعويض العجز التجاري    نشرة إنذارية.. طقس حار وزخات رعدية مصحوبة ببرد وهبات رياح    فطيمة بن عزة: برامج السياحة تقصي الجهة الشرقية وتكرس معضلة البطالة    بنعلي وقيوح يبحثان فرص تعزيز الربط القاري وتطوير الصناعات المرتبطة بالطاقات المتجددة والنقل البحري    الأحمر ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    الوداد البيضاوي يستهل كأس العالم للأندية بالخسارة أمام مانشستر سيتي    مباحثات رئيس مجلس النواب و"سيماك"    معرض باريس الجوي.. مزور: 150 شركة طيران تتوفر على وحدة إنتاج واحدة على الأقل بالمغرب    تفكيك شبكة دولية لتهريب السيارات المسروقة نحو المغرب عبر ميناء طنجة المتوسط    السعودية تُعلن فتح باب التقديم لتأشيرات العمرة لموسم 2025 بشروط جديدة وتسهيلات موسعة    ثلاثة مغاربة ضمن قائمة أغلى عشرة لاعبين عرب بمونديال الأندية    السيّد يُهندس مسلسل شارع الأعشى في كتاب    مونديال الأندية.. الوداد يكشف عن التشكيلة الرسمية لمواجهة مانشستر سيتي    إيران: سيطرنا على أجواء الأرض المحتلة اليوم وبداية نهاية أسطورة الدفاع للجيش الصهيوني    النقابة الوطنية لموظفي التعليم العالي تفقد الثقة في إصلاح النظام الأساسي    أفلام قصيرة تتبارى على ثلاث جوائز بالمهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة    الدرك الملكي يحجز 8 أطنان من الشيرا    السعودية تدعو إلى ارتداء الكمامة في أداء العمرة    التصعيد الاسرائيلي – الإيراني.. تأكيد خليجي على ضرورة وقف إطلاق النار ودعم جهود السلام في المنطقة    فجيج بين ازيزا النادرة والتربية العزيزة.. حكاية واحة لا تموت    دورة تكوينية وورشات فنية لفائدة الأطفال والشباب بالمركز الثقافي لمدينة طانطان    مسرح رياض السلطان يحتضن أمسيات شعرية موسيقية من الضفتين وقراءة ممسرحة لرواية طنجيرينا وأغاني عربية بإيقاعات الفلامينغو والجاز والروك    جلالة الملك يهنئ رئيس السيشل بمناسبة العيد الوطني لبلاده    خامنئي: إيران "لن تستسلم أبدا" للضغوط    لقجع: الدعم الاجتماعي المباشر حلقة جديدة ضمن المبادرات الملكية الهادفة إلى صون كرامة المواطن    اعمارة: أنماط التشغيل الجديدة تواجه تحديات غياب التأطير القانوني والحرمان من الحماية الاجتماعية    أردوغان: "نتنياهو تجاوز هتلر في جرائم الإبادة"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    "واتساب" ينفي نقل بيانات مستخدمين إلى إسرائيل    فياريال الإسباني يتعاقد مع لاعب الوسط موليرو لخمس سنوات    مشروع سكني بالغرب يجلب انتقادات    تأجيل محاكمة محمد بودريقة إلى الأسبوع المقبل بطلب نافيا "أكل الشيك"    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    ورزازات تحدث تحولا نوعيا في التعامل مع الكلاب الضالة بمقاربة إنسانية رائدة    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    برنامج "مدارات" يسلط الضوء على مسيرة المؤرخ والأديب الراحل عبد الحق المريني    الصويرة ترحب بزوار مهرجان كناوة    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    برلماني يطالب بالتحقيق في صفقات "غير شفافة في مستشفى ابن سينا الجديد        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإمام ابن رُشيد السبتي وعنايته بالإسناد
نشر في ميثاق الرابطة يوم 26 - 02 - 2010

من المعلوم الذي لا مرية فيه أن المسلمين اختصوا بالإسناد، واعتنوا به لتوثيق معارفهم؛ لأنه؛ من آكد الوسائل التي فطرهم الله عز وجل لحفظ رسوم شريعتهم، كيلا يقعوا فيما وقعت فيه شرائع الأمم الأخرى من تبديل وتحريف. ولأجل ذلك شاعت وذاعت مقولة: "الإسناد خصيصة من خصائص هذه الأمة".
وقد تواترت أقوال الأئمة والحفاظ في بيان مزايا الإسناد، يكثر ذكرها والإشادة بها في كتب المصطلح وكتب الرجال. ونحن نستعيض عن سردها بذكر كلام نفيس في الباب للإمام أبي محمد ابن حزم رحمه الله لما فيه من الغُنية والكفاية عن إيراد غيره، قال في كتابه (الفِصَل، في المِلَل والأهواء والنِحَل): "... والثالث ما نقله الثقة عن الثقة كذلك حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يخبر كل واحد منهم باسم الذي أخبره ونسبه، وكلهم معروف الحال والعين، والعدالة والزمان والمكان، على أن أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكواف، إما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وإما إلى الصاحب، وإما إلى التابع، وإما إلى إمام أخذ عن التابع، يعرف ذلك من كان من أهل المعرفة بهذا الشأن، والحمد لله رب العالمين. وهذا نقل خص الله تعالى به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها، وأبقاه عندهم غضاً جديداً على قديم الدهور منذ أربعمائة عام وخمسين عاماً في المشرق والمغرب، والجنوب والشمال يرحل في طلبه من لا يحصى عددهم إلا خالقهم إلى الآفاق البعيدة، ويواظب على تقييده من كان الناقد قريباً منه، قد تولى الله تعالى حفظه عليهم، والحمد لله رب العالمين...".
إلى أن يقول عن نقل اليهود: "... إنهم لا يقربون فيه من موسى كقربنا فيه من محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل يقفون ولابد حيث بينهم وبين موسى عليه السلام أزيد من ثلاثين عصراً في أزيد من ألف وخمسمائة عام، وإنما يبلغون بالنقل إلى هلال وشماني وشمعون ومرعقيبا وأمثالهم، وأظن أن لهم مسألة واحدة فقط يروونها عن حبر من أحبارهم، عن نبي من متأخري أنبيائهم، أخذها عنه مشافهة في نكاح الرجل ابنته إذا مات عنها أخوه، وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق وحده فقط، على أن مخرجه من كذاب قد صح كذبه [1] .
وللمدرسة المغربية إسهام وافر في هذا المجال، حيث تجد أعلامها فرسان الميدان، لا يستنكفون عن شدّ الرحال إلى الشيوخ، والجلوس إليهم، وتدارس مروياتهم، بكل صنوف التحمل والأداء: من سماع، وعرض، وإجازة ...
ومن أعلامها المرموقين في هذا الباب: الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن رُشيد الفهري السبتي (تفي 721 ه) الذي تميز في هذا الباب، واعتنى به، ويمكن إبراز مدى عنايته من خلال هذا الموضوع.
• صور عنايته بالإسناد
تتجلى عناية الإمام ابن رُشيد بجلاء ووضوح من خلال رحلته الماتعة المسماة: "ملء العيبة، فيما جمع بطول الغيبة، في الرحلة إلى مكة وطيبة" التي خلد فيها صورا مشرقة، وصفحات وضيئة من المثابرة وتحمل الشدائد والصعاب من أجل لقاء الشيوخ ومجالستهم للأخذ عنهم، ولا يكتفي في ذلك بالسماع، بل يحرص على توثيق تلك المجالس عبر استدعاء يقدمه للشيخ، فيجيزه الشيخ مذيلا ذلك بخطه، وتجده كذلك لا يكتفي بإدراج اسمه فقط؛ بل يشرك معه الحاضرين ممن صحبوه في الرحلة، والغائبين ممن قصرت بهم النفقة، والصغار والولدان ممن يرجو لهم صالح الأثر.
وللتمثيل نورد نموذجا من استدعائه الصغير: فصل من وقف على هذا الاستدعاء من علماء الآثار، الذين شهدت لهم بدوام الظهور على الحق صحيحات الآثار، كفيل بأن يُجيز جميع مروياته ومنقولاته ومقولاته ومصنفاته: للفقيه الصّدر أبي علي بن رَشيق. والفقيه الكاتب أبي عبد الله ابن الدّرّاج. والفقيه الفاضل أبي القاسم ابن الشاط. والفقيه المصنف أبي عبد الله ابن عبد الملك، وابنه أبي القاسم، والفقيه الصوفي أبي عبد الله ابن قطرال، وأخيه النشأة الصالحة محمد. وللفقيه المقرئ أبي عبد الله السلوي، وللفقيه أبي عبد الله الغماري، وللفقيه الأديب أبي الحجاج الطُّرْطُوشي، وللفقيهين الفاضلين، أبي محمد عبد المهيمن بن علي بن حرز الله، وأخيه أبي عبد الله، ولكاتب الأحرف محمد بن عمر بن رُشيد، ولبنيه وفقهم الله، أبي القاسم محمد، وأم السعد عائشة، وأم المجد أمة الله، ولأخواته عائشة، وفاطمة، ورحمة، ولقريبيه أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن رُشيد، ومحمد بن رُشيد بن موسى.
والله تعالى يُبقيهم للفضائل أهلا، ناظمين لكل طالب حاجة بمطلوبه شملا، والسلام الأتم يعتمد من وقف عليه ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعده تأتي خطوط الشيوخ المجيزين، ونذكر منها: خط أبي بكر عبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد العزيز بن فارس التميمي السعدي الإسكندري، الذي كتب "أجزت لهم وفقهم الله ونفعهم ما تجوز لي روايته بشرطه".
ولم يكتف ابن رُشيد بهذا فقط؛ بل يذيله بشبه ترجمة مصغرة، تعرب عن أحوال الرجل وطرف من سيرته العلمية، فيقول: "أبو بكر ابن فارس، يلقب بسراج الدين، شيخ من وجوه الناس، عدل، كان يعقد الشروط بالإسكندرية، وذكر لي أنه خال زين الدين ابن المنير، سمع "صحيح مسلم" على الحَرَسْتاني. توفي ابن فارس رحمه الله ليلة السبت من ربيع الأول، ودفن عصر يوم السبت عام 684 ه، وكنت رَمِداً فلم أحضر دفنه، ومُرّ به عليّ رحمه الله، وصحّ [2]."
• دوافع عنايته بالإسناد
من البديهي أن ابن رُشيد لم تكن عنايته بالإسناد، وانقطاعه لهذا المهيع، مجرد صدفة محظوظ، أو نزوة عاشق، وإنما هو عمل قد استحضر فيه النية، وحدد فيه الهدف، وتمثل فيه الدوافع المحفزة للمضي قُدُما، ويمكن لنا أن نستوحيها من آثاره التي بين أيدينا، فنعد منها ولا نعددها:
1. طلب مرضاة الله: وذلك جلي، لأن الطريق المسلوك، طريق العلم، و"طلب العلم فريضة على كل مسلم" كما صح عن الصادق المصدوق [3]. وصح عنه أيضا قوله: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة" [4]. ويشهد لهذا ما أبداه ابن رُشيد رحمه الله في كتبه، فمثلا في السنن الأبين افتتح بحثه بعد الاستخارة بقوله: والله تعالى ينفع بالنية في مبدإ هذا العمل ومختتمه، فإنما الأعمال بالنيات. وأورد سنده المتصل بالحديث، قائلا: "كما قرأت على أبي المجاهد غازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب الحلاوي" قال: "أنا الشيخ المعمّر أبو حفص عمر بن محمد بن المعمّر سماعا عليه" قال: " أنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحُصين الشيباني قراءة عليه وأنا أسمع قال أنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان" قال: "أنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: أنا عبد الله بن روح المدائني ومحمد بن ربح البزاز" قال: "أنا يزيد بن هارون: أنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي قلت: يعني سماعا أنه سمع علقمة بن وقاص يقول: "سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " [5].
وفي كتابه الأربعين البلدانية المسمى: "الإعلام، بأربعين عن أربعين من الشيوخ الأعلام"، صرح بقصده من جمع هذه الأحاديث؛ ألا وهو الاتصال بأشرف الخلق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، بقوله: وأعددناها وسيلة من أشرف الوسائل، وفضيلة من أنفس الفضائل... وكذلك الإحراز على فضل حديث: "من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله عز وجل يوم القيامة في زمرة العلماء" [6].
2. حفظ السنة: وفي ذلك يقول في مقدمة إفادة النصيح: "الحمد لله الذي جعل الإسناد خصوصة لهذه الأمة، وأثارة باقية وجُنة من التقول على نبيه صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم واقية، واختار له من ورثة نبيه صلى الله عليه وسلم عصابة أولي عدد وذوي عُدد للتحريف عنه نافية، وبالذب عن حوزته وافية، وللأدواء الطارئة شافية كافية، وجعلهم الورثة الذين لا يُسقطهم ولا ينقصهم الحَجْب، ولا تُغَلّق دونهم الأبواب ولا تُلَطّ الحُجب، وفضلهم على الخلفاء بما اختصهم به من مُجاب دعوته، ووصفهم بأنهم الذين يُحيون ما أمات الناس من سُنته. فهم أولى المومنين به لاتصال سببهم بسببه، سلسلة إسناد، أسلحة أنجاد، صفوة أمجاد، يحمون حمى الدين، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما أخبر عنهم سيد المرسلين... " [7].
3. تحفيز الهمم إلى الاعتناء به: من ذلك ما قاله في إفادة النصيح عند ذكر قول عبد الله بن المبارك: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لأكثر المارقون الاختلاق والإنشاء، وقال كل منهم مفتريا ما شاء"، فَحُلِّئَتْ عن وِرْد نميره نَقَصَةُ الأغمار الأغبياء، وحُلّيت بلؤلؤه كَمَلَة الأقمار العلماء، فَبَدار يا ذوي الهمم العليّة إلى الارتفاع لمنازلهم بَدار، وحَذار من الانخفاض عنها حَذار. فَيا رِيَّ المجتهد، ويا ظمأ المقلد [8].
ويشهد لها عنايته بولده الذي ألف من أجله كتاب "إفادة النصيح" الذي قال عنه: وفي أيام مُقامي في هذه البلاد المغربية، وبسبتة منها الثغر المحروس، ومحل منشئي القطر المأنوس، لم أزل أحرص على التبكير بإسماع بُنَيّ محمد هداه الله وبلّغ الأمل فيه ، وأروض حداثته على تعلم الحديث وتحفظه، وأشربه في قلبه وأمزجه بطباعه، رجاء أن يمن الله الكريم علي وعليه بإتباعه، ويجعلنا من أتباعه وأشياعه [9].
4. تحرير الأسانيد مما شابها من الاختلاف والاختلال في الضبط والاتصال: مثلا ضبط (الفربري) قال في "إفادة النصيح" أثناء سرده لسند الجامع الصحيح: واختلف الرواة في ضبط فائها بين الفتح والكسر. والأصحّ الفتح بلدا ونسبا. ومن ينحو به نحو الأسماء العربية يكسر بلدا ونسبا. ولم يصب من قال: إن الفتح في النسب من تغيير النسبة؛ بل النسب بالفتح إلى المفتوح وبالكسر إلى المكسور عند من عربه. وبالفتح ضبطه خطا الرواة الدراة؛ وبالفتح وجدته مقصودا في البلد والنسب في صدر كتاب البخاري في النسخة العتيقة التي كتبت بمكة شرفها الله وقرئت وسمعت على أبي ذر، وعليها خطه. وكذلك وجدته في غير موضع بخط متقن الأندلسيين غير مدافع في زمانه: أبي بكر ابن خير رحمه الله. وكتب عليه صح صح على النسب والبلد. وقد وجدته بخطه في بعض المواضع بالكسر غير مصحح عليه [10].. وإشارته إلى آخر من حدث عن ابن شريح حين قال: وقد روى عنه أيضا القاضي أبو القاسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن ابن بقي هو وأبوه وجده، وهو آخر من حدث عنه بالإجازة. ولم يزل على ذلك إلى أن غلبه الكبر وأقعده عن التصرف، فلزم داره واستخلف على الصلاة، ولم ينقطع الأخذ عنه إلى أن عطله الكبر والخرف فقطع، ولا أعلم أحدا حدث عنه في خرفه [11].
• ثمرات عنايته بالإسناد
لكل بذرة ثمرة، إذا اعتني بها، وحافظ عليها صاحبها، وكذلك بالنسبة لابن رُشيد الذي أفنى شبابه في لقاء الشيوخ والارتحال إليهم من أجل السماع أو الاستجازة، لابد أن تكون جهوده قد أثمرت ثمارا يانعة، جنية طيبة، منها:
1. تحريره لسند الجامع الصحيح. ويتمثل ذلك في كتابه الفذ "إفادة النصيح، بسند الجامع الصحيح".
2. ربط الاتصال بين أسانيد المشارقة، وأسانيد المغاربة. والدليل على ذلك في رسالته "الأربعين البلدانية" التي وزع فيها أربعينا حديثا على أربعين شيخا من أربعين بلدا. وكذلك في الاستدعاءات التي تحمل بها خلال رحلته الحجازية.
3. إبرازه للطائف الأسانيد كالعلو ؛ من ذلك ما قاله عن أبي الحسن ابن شريح: كان مع إقرائه يجلس أحيانا من النهار لإسماع الحديث، دائبا على ذلك، فسمع الناس منه كثيرا ورحلوا إليه، واعتمدوا في علو الرواية مسافة وصفة عليه. وعُمر وأسن حتى روى عنه الآباء والأبناء وأجداد والأحفاد، وألح الصغار بالكبار [12].
ومن ذلك أيضا السند الذي سبق إيراده المتعلق بحديث "إنما بالنية"، قال عنه: وهذا السند الذي أوردنا به هذا الحديث أعلى ما يروى به مسافة في الدنيا شرقا وغربا، مع ما فيه من علو الصفة من اتصال السماع وثقة الرجال... [13].
4. حل بعض الإشكالات الإسنادية: مثل مسألة المحاكمة بين مذهبي البخاري ومسلم في السند المعنعن... التي ناقش فيها أدلة الإمام مسلم، وفند ما رام به تعضيد رأيه، مناصرا في ذلك الإمام البخاري وشيخه علي بن المديني، بقوله: وأن هذا المذهب أظهر وأرجح من مذهب من اقتنع بصحة المعاصرة فقط، كما اقتنع به مسلم رحمه الله في مقدمة كتابه، واختاره، واعتقد صحته، وبالغ في الإنكار على من خالفه [14].
ولأجل هذا وغيره من الجهود المبذولة، حظي رحمه الله بالتنويه في هذا المجال من أرباب الصناعة وأهل الشأن، كأبي البركات ابن الحاج البلفيقي (توفي 774ه) القائل: وأعظم عنايته بعلم الحديث متنه وسنده ومعرفة رجاله، ولذلك كان جل أشغاله، وفيه عظم احتفاله، حتى حصل منه على غاية صده ومنتهى آماله [15].
ولسان الدين ابن الخطيب الذي وصفه ب: الخطيب المحدث المتبحر في علوم الرواية والإسناد [16].
هكذا خلده التاريخ، وأشاد به، فرحمه الله، ونفعنا بعلومه وآثاره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
--------
1.الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/180.
2. استدعاءات الإجازة لابن رشيد 341343، دراسة وتحقيق: عبد اللطيف الجيلاني، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية، سنة: 1428/2007.
3. أخرجه ابن ماجه في السنن [تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر بيروت] رقم: 224، وغيره وهو صحيح بمجموع الطرق، انظر جزء "المسهم" للشيخ أحمد ابن الصديق الغماري.
4. أخرجه الترمذي في الجامع وحسنه رقم: 2646، تحقيق أحمد شاكر، دار إحياء التراث العربي بيروت.
5.السنن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن لابن رشيد 3334، دراسة وتحقيق: أبو عبد الرحمن صلاح بن سالم المصراتي، مكتبة الغرباء الأثرية المدينة المنورة، سنة 1417، والحديث رواه البخاري في صحيحه رقم: 54، دار ابن كثير بيروت، ط3/1987.
6. الإعلام بأربعين عن أربعين من الشيوخ الأعلام (نسخة الشيخ محمد بوخبزة) ق 12.
7. إفادة النصيح في التعريف بسند الجامع الصحيح لابن رشيد 12، تحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، الدار التونسية للنشر،
8. إفادة النصيح 3.
9. المصدر السابق 6.
10. المصدر السابق 1112.
11. المصدر السابق 59.
12. إفادة النصيح 5859.
13. السنن الأبين 36.
14. المصدر السابق 31.
15. أزهار الرياض 2/348، استدعاءات الإجازة 80.
16. الإحاطة في أخبار غرناطة 3/135، استدعاءات الإجازة 80.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.