نزيف إسرائيل الداخلي.. تزايد الهجرة الجماعية لمواطنيها مند 2023    كأس العالم للأندية 2025.. ريال مدريد يتغلب على باتشوكا المكسيكي (3-1)    كأس العالم للأندية 2025.. العين الإماراتي يودع المسابقة بعد خسارته أمام مانشستر سيتي    استمرار الحرارة في توقعات طقس الإثنين    طنجة.. تتويج فريق District Terrien B بلقب الدوري الدولي "طنجة الكبرى للميني باسكيط"    الأستاذ عبد الرحيم الساوي يغادر المسؤولية من الباب الكبير.. نموذج في الاستقامة والانتصار لروح القانون    منحرفون يفرضون إتاوات على بائعي السمك برحبة الجديدة وسط استياء المهنيين    إيران تبدأ هجوماً صاروخياً جديداً على إسرائيل    تصعيد غير مسبوق .. إيران تهدد شريان النفط العالمي!    ريال مدريد بعشرة لاعبين يُسقط باتشوكا في مونديال الأندية    استعمال "Taser" لتوقيف مبحوث عنه هدد المواطنين بسلاح أبيض في سلا    إيران تتحدى الضربات الأمريكية: مخزون اليورانيوم والإرادة السياسية ما زالا في مأمن    بركان تواجه آسفي في نهائي الكأس    رغم الإقصاء من كأس العالم للأندية .. الوداد يتمسك بأول فوز في المسابقة    إجهاض محاولة للتهريب الدولي للمخدرات وحجز 92 كيلوغراما و 900 غرام من مخدر الكوكايين    منظمة التعاون الإسلامي تسلط الضوء على جهود الملك محمد السادس لفائدة القارة الإفريقية    على هامش المؤتمر السادس للاتحاد العام للفلاحين بالمغرب..    البرلمان الإيراني يقرر إغلاق مضيق هرمز    الجزائر.. ارتفاع ضحايا حادث انهيار مدرج ملعب 5 جويلية إلى 3 وفيات    توقيف المتهم في حادثة دهس الطفلة غيثة.. والمحاكمة تنطلق يوم غد الإثنين    الأبواق الجزائرية تطلق كذبة جديدة    البطالة تخنق شباب الحسيمة وفندق "راديسون" يستقدم يد عاملة من خارج الإقليم    المغرب يواجه واقع المناخ القاسي.. 2024 العام الأكثر حرارة وجفافا في تاريخ المملكة        المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي يعلن عن مباراة ولوج موسمه الجامعي الجديد 2025-2026    إدارة مهرجان تكشف أسباب تأجيل "أيام وزان السينمائية"    تجدد المطالب للدولة بالخروج من صمتها إزاء "العربدة" الصهيونية وإسقاط التطبيع    بورصة البيضاء .. أهم نقاط ملخص الأداء الأسبوعي    منظمة التعاون الإسلامي تبرز جهود صاحب الجلالة لفائدة القارة الإفريقية    موجة الحر في المغرب تثير تحذيرات طبية من التعرض لمضاعفات خطيرة    مهرجان مشرع بلقصيري الوطني 16 للقصة القصيرة (دورة أبو يوسف طه)    الكلام عن الشعر بالشعر مقاربة لديوان « في معنى أن تصرخ» لفاطمة فركال    استمرار موجة الحر وأمطار رعدية مرتقبة في الريف ومناطق أخرى    تفاصيل توقيف المتورط في دهس الطفلة غيتة بشاطئ سيدي رحال    بنكيران يعلن دعمه لإيران ضد إسرائيل: "هذا موقف لوجه الله"    مجموعة بريد المغرب تصدر دفتر طوابع بريدية لصيقة تكريماً للمهن ذات المعارف العريقة    شكل جديد للوحات تسجيل السيارات المتجهة إلى الخارج    تأهب دول عربية تزامنا مع الضربة الأمريكية لإيران    جائزتان لفيلم «سامية» في مهرجان الداخلة السينمائي بالمغرب    مشروع لتشييد عدد من السدود التلية باقليم الحسيمة    دراسة تكشف وجود علاقة بين التعرض للضوء الاصطناعي ليلا والاكتئاب    الركراكي يشارك في مؤتمر للمدربين نظمه الاتحاد الملكي الإسباني لكرة القدم    مهرجان كناوة بالصويرة يختتم دورته ال26 بعروض عالمية    تراجع في كميات الأسماك المفرغة بميناء الحسيمة خلال الأشهر الخمسة الأولى من 2025    التجارة تقود نشاط المقاولات الجديدة في كلميم-واد نون    إيران تستعمل لأول مرة صاروخ "خيبر"    موجة حر تمتد إلى الأربعاء القادم بعدد من مناطق المملكة    الفوتوغرافيا المغربية تقتحم ملتقيات آرل    "ها وليدي" تقود جايلان إلى الصدارة    لحسن السعدي: الشباب يحتلون مكانة مهمة في حزب "التجمع" وأخنوش نموذج ملهم    عضة كلب شرس ترسل فتاة في مقتبل العمر إلى قسم المستعجلات بالعرائش وسط غياب مقلق لمصل السعار    وفاة سائحة أجنبية تعيد جدل الكلاب الضالة والسعار إلى الواجهة    ضمنها الرياضة.. هذه أسرار الحصول على نوم جيد ليلا    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشكالية المسؤولية بين الفعل والخلق

كنت أشرت في حلقة سابقة إلى مسألة خلق الله لأفعال العباد، وما تطرحه من إشكال أمام الفكر وهو يسعى لفهم أبعاد المسؤولية البشرية وحدودها، وكنت وعدت حينها بالعودة لهذه القضية التي شغلت الفكر الإسلامي والإنساني وما زالت، ولعل ما سأذكره في هذه السطور القليلة يقدم بعض التوضيحات النافعة إن شاء الله أو يفسح آفاقا جديدة للتفكير في هذه الإشكالية.
من المعلوم أن العقل يحتار في مدارسة هذا الموضوع، الذي هو من صميم ما اختبر الله به البشر، بل إنه من أصعب ما يخوض فيه الفكر، وهو يحاول التوفيق بين مضامين النصوص الشرعية، ومقتضيات الألوهية والمسؤولية الإنسانية، فهو من القضايا الشائكة التي يتحاشاها الفكر حذرا من الانتهاء فيها إلى قول شاذ أو موقف معيب.
فالفكر لا يستطيع دائما حسم كل الإشكاليات العويصة التي تعترضه ويدعى للنظر فيها، رغم شدة ارتباطها بالاعتقاد، وتأكد الحاجة لاستلهام العمل على ضوئها في مجالات الحياة، فيزداد يقينا بمحدودية قدرته ونسبية مدركاته وفهومه.
فلا مناص للفكر مع ذلك أن يتجه في تحليلها وبناء تصوره الخاص بصدد ها، فيكون أسلم له وأدعى لإدراك الصواب أو مقاربته أن يستطلع أفكار الآخرين في شأن القدر، ويقلب نظره فيه كلما واتته فرصة، حتى لا يقف به البحث والتعلم عند فهم لا تطمئن نفسه إليه.
وترجع إشكالية المسؤولية الإنسانية إلى وجود تعارض بارز بين ما يجب لله من الكمال، وما تقتضيه مسؤولية الإنسان من امتلاك قدرة الفعل وحرية الحركة، واتضاح المهام التكليفية وحدودها. فكمال ألوهية الله ومطلقية مشيئته في ملكه، توجب عقلا ونقلا أن يكون سبحانه خالقا لكل شيء، دون استثناء فيخلق الخير والشر والهداية والضلال والجمال والقبح وكل المتناقضات.. ويخلق أفعال الإنسان المحمود منها والمذموم بعد أن يعقد العزم على شيء منها، بحيث يسبق في علم الله ما سيتجه إليه قصد المرء ونيته، فيخلق له إرادة لذلك ينشئ بها الأعمال المبيتة خيرها وشرها، فالذي يخلق الأعمال هو الله خالق كل شيء، والتي يتولى فيها الإنسان إنجاز الجانب الظاهري، الذي لا يقوم العمل به وحده، ولا يكون له أثره في الواقع.
وهذا الكلام يحتاج البيان التالي:
أولا: دلت نصوص الشرع على أن الله خالق كل شيء:
"ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُوفَكُونَ" [سورة غافر، الآية: 61] "اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" [سورة الزمر، الآية:62]. وإذا أفادت هذه الآيات وأمثالها خلق الله للأشياء عامة؛ فإن الآية التالية دلت على خلق أعمال الإنسان "قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ" [سورة الصافات، الآيتان: 94، 95]. فالله خلقهم وخلق الأصنام التي ينحتونها بخلق فعل النحت، الذي مارسوه، ومن دونه لن تكون منحوتة، وخلق مادتها من قبل أن ينحتوا منها أصناما يتجهون إليها بالعبادة. وجاءت السنة لتزيد الأمر وضوحا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق كل صانع وصنعته"[1] ، فلو كان مخلوق يخلق شيئا بمعنى يوجده من عدم لكان ذلك شركا مع الله وهو مستحيل! لأن الخلق من اختصاص الله وحده، "أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" [سورة الرعد، الآية: 15]. فكل ما يصنعه الإنسان يعتمد فيه على مواد خلقها الله من قبل، وركب فيها قابليات وإمكانيات لتصنع منها أشياء أخرى جديدة، يوظفها الإنسان في مآربه الحياتية المختلفة. وقد ساق الله لنا في القرآن نماذج من الخلق يتولى الإنسان فيها شقا ظاهريا بسيطا من الأسباب، ويتولى الله الشق الخفي والأعظم إن صح التعبير، فقال في قرآنه المجيد: "أَفَرَاَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ءاَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ" [سورة الواقعة، الآيتان: 57، 58]، فعملية التناسل التي يباشر منها الإنسان سببا بسيطا، ليس كافيا لتكون الجنين، والذي يتوقف تخلقه في الرحم بعد التلقيح على عناية الله الخالقة على الحقيقة، "يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ" [سورة الزمر، الآية: 6].
ويمضي القرآن في استعراض تفاعل الجهد البشري مع القدرة الإلهية في أعمال معيشية معتادة، "أَفَرَاَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ءاَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَاَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ءاَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ أَفَرَاَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ءاَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ" [سورة الواقعة، الآيات:62-73].
فالعمل الموكول إلى البشر يناسب إمكانياته المحدودة، في حين يتكفل الله تعالى بما هو أهله من المشيئة النافذة والقدرة المطلقة.
ثانيا: دور الإنسان ومسؤوليته
إذا كان الله تعالى خالقا لكل إرادة وكل سبب، فما دور الإنسان وما مسؤوليته عن أعماله؟
من المقرر لدى علماء الشريعة أنه "لا تكليف إلا بمقدور"، ولما زود الله الإنسان بقدرات فكرية وعضلية جعل آثارها متوقفة على مراده وحكمته وعدله وتدبيره، بحيث لا يملك المخلوق أن يفعل شيئا إلا بإذن الخالق وتوفيقه، إذ القوة الممنوحة للإنسان واقعة في قبضة الرحمن، يصرفها كيف يشاء بما يحقق مسؤولية الإنسان، ويجعله مندمجا في أفعاله يكسب بها الحسنات ويكتسب السيئات، "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اَكْتَسَبَتْ" [سورة البقرة، الآية: 285].
فلا يستقل الإنسان بإرادة أو فعل نفسي أو بدني، لا ترعاه عناية الله ولا تحفه ملائكته، بحيث لا يتم شيء من ذلك إلا تحت عين الله ووفق تقديره وحكمه.
ولا يعني ذلك أن الإنسان لا دور له ولا مسؤولية مع قدرة الله الخالقة والمدبرة لكل أمر، وإنما تسخر له الأعمال قلبية وجسمية، فيجني ثمارها ويحصل نتائجها في ذاته وفي واقعه، وكأنه أنجزها وحده بحوله وقدرته وتفكيره، ويصير مسؤولا عنها بذلك القدر من القصد الذي سبق في علم الله قبل أن يخطر بباله، فخلقه سبحانه إرادة قلبية، ثم ممارسة عملية، ثم نتائج واقعية، ثم كتبه له في صحيفته طاعة وعبادة مأجور عليها أو معصية وإثما مأزور بها.
وسبق علم الله خلاف ما يتوهم لا يعني أنه ينشئ الفعل الإنساني أو يوجهه، وإنما هو مقتضى إحاطة علم الله بما يؤول إليه أمر المخلوق في المستقبل البعيد على وجه الإجمال والتفصيل الدقيق حتى قبل خلقه. ولقد تضافرت الأدلة من القرآن على هذه الحقيقة: "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَاَسْمَعَهُمْ وَلَوْ اَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ" [سورة الاَنفال، الآيتان: 21، 22] " ولو علم الله - بعلمه الأزلى - أن فيهم - وهم بهذه الحال - ما يكون خيراً لأنفسهم وللناس وللحق، لأسمعهم سماع هداية يوصل الحق إلى عقولهم، ولو سمعوه وفهموه لانصرفوا عن الاهتداء، وحال الإعراض الآن لا تفارقهم لغلبة الهوى" [2]. وقوله سبحانه وتعالى:" إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُوْتِكُمْ خَيْرًا" [سورة الاَنفال، الآية: 69].
والله يخلق الأعمال على قدر النيات، ويغير من حالها تبعا لما يطرأ على تلك النيات، ويصدق في هذا الصدد الحديث النبوي، "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.." [3]، وحديث "نية المؤمن أبلغ من عمله" [4]. فما من شك أن النية هي ناشئة الأعمال، وأنها هي العمل الإنساني الذي تنحصر فيه مسؤولية الإنسان، قال الفضيل بن عياض: "إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك"[5]، وذلك لانبثاق جميع الأفعال القلبية والبدنية عنها، فتخرج بخلق الله لها من طور الفكر إلى طور التجلي على صفحة الواقع.
والحمد لله رب العالمين
-------------
1. وفي رواية "إن الله صانعٌ كلَّ صانعٍ وصنعَتهُ" (البخاري في خلق أفعال العباد، وابن أبى عاصم، والحاكم، والبيهقي في شعب الإيمان، والضياء عن حذيفة).
2. تفسير المنتخب، (ج 1 / ص 287).
3.صحيح البخاري.
4.جمع الجوامع أو الجامع الكبير للسيوطي، (ج 1 / ص 25137).
5. ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، 1408، ص 13.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.