- عَلَى سَبِيلِ الْبَدْءِ... لعل من حسنات النكوص والارتداد الذي حل بمصائر شعوب الحراك الشعبي الديمقراطي، التي انتفضت بعد ردح طويل من الاستبداد والفساد والعهر الحُكمي التَّحَكُّمي؛ ما أزاحه هذا الهدير الجارف من الأقنعة و"الماكياجات" المُمَوِّهة مِنْ على وجوه طائفة من "شيوخ" الدعوة، وأيقونات الفضائيات الدينية، و منابر الخطابة والدعوة والإرشاد الديني. وكشف عن حقيقة ما تخفيه هذه الوجوه الكزة الجاحدة، من ارتباطٍ بحطام دنيا حكام الاستبداد "الفانية" التي لطالما ذَّمُّوها في خطبهم ودروسهم بألسنتهم الحداد، في الوقت الذي ظلت فيه قلوبهم معلقة بها، في السر، تعلق الرضيع بثدي أمه !. - نِقْمَةٌ فِي طَيِّهَا نِعْمَةٌ: وإنما اعتبرناها حسناتٍ لاعتقادنا أن ليس ثمة في دنيا الناس مفسدة مُتَمَحِّضَة كما ليس ثمة مصلحة متمحضة؛ وإنما تتمحض المفاسد والمصالح هناك في الدار الآخرة. فلقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز لبعض المفاسد منافعَ، ورغم ذلك حكم بتحريمها لرجحان مضارها على منافعها(الخمر والميسر على سبيل المثال)،. وكذلك نقول نحن في شأن الكثير من المظاهر المجتمعية والحُكمية التي لا يرى فيها الكثير من الناس إلا وجهها الكالح العبوس، في حين أنها تختزن بين طياتها إشراقات، لو تُؤُمِّلَتِ كما ينبغي، لعلم الناس حقيقة كلام ربهم الذي أرشدنا إلى ألا نكره أو نحب إلا ونحن على علم بأن رؤيتنا للأمور نسبية جدا. فقد نحب أمورا في طيها شرور، كما قد نكره أمورا في طيها خيرات وفوائد لا تقدر بثمن ونحن عنها غافلون. فالله وحده العليم بما ينفعنا، ويصلح حالنا: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]}. - سُنَّةُ التَّغْيِيرِ وَ تَوَهُّمَاتُ الشُّعُوبِ: فلقد سار الكثير من الناس إلى اعتبار النكوص والارتداد الذي عرفه الحراك الشعبي الديمقراطي في الكثير من البلدان، والذي قلب الطاولة على إرادة الشعوب، وشرعية الحكام الجدد؛ مفسدة كله، ومصيبة لا حيلة أمامها إلا الإذعان لها، والقبول بها، والنزول عند أجنداتها الاستبدادية، مع الشعور بالكثير من الحسرة والألم على الدماء التي أهرقت، والنفوس التي أزهقت. وهي استنتاجات قد تلقى منا بعض العذر إن صدرت ممن لا يرى في تحولات الشعوب، وذهاب ريح الأنظمة والحكومات والأمم، إلا ما يشاهده في المسلسلات التلفزيونية التاريخية، التي تنقل إلينا التغيرات المجتمعية الكبرى، والتحولات التاريخية الجذرية والعميقة التي عرفها العالم الإسلامي، في بضع حلقات، لا تمت لمنطق التاريخ، ولا لسنن العمران البشري بشيء. فيتلقفها بعض المشاهدين كتعابير حقيقية على مسارات التغيير في خريطة التاريخ البشري، وفي حياة الأمم كما في مماتها !. بيد أن التاريخ علمنا أن التغيرات الجذرية الكبرى لا يمكن أن تتم بين عشية وضحاها، كما لا يمكن أن تكون نتيجة معجزات تنقل الأمم والشعوب من حياة الاستبداد والفساد والفقر، إلى حياة الكرامة والعدالة الاجتماعية، بضربة لازب، و بدون دماء ولا أشلاء ولا معاناة، قد تطول لعدة عقود قبل أن ينبلج صباحها على أرض الكدح والمعاناة! ولقد اشتبشرت شعوبنا خيرا بالنجاحات الفريدة التي حققها الحراك الشعبي في تونس ثم في مصر، والذي لم يكلف- على عكس سنن التاريخ، وشروط التغيير والثورة- الكثير من الخسائر !!!.وظنوا- في لحظة من اللحظات- أن مرورهم من عصر الاستبداد والفساد قد تمَّ بنجاح. وقد نجحوا - بالفعل- في "خلق" الاستثناء التاريخيِّ خلال وعبر تاريخ الثورات التي عرفها العالم، بهذا الحراك الجارف الذي لم تستطع قوى الاستبداد أن تقف أمامه؛ فجرفها إلى نهايتها الحتمية !! وهكذا، وفي بلادة غير مسبوقة، أخذت هذه الشعوب تستنسخ التجربتين، قبل أن تكتشف أن المسار الذي سار فيه الحراك، والمقدمات التي تأسس عليها، والنهايات التي انتهى إليها، لم تكن سوى بداية لعمر طويل من المجاذبة والاجتذاب بين فلول الاستبداد، وإرادة هذه الشعوب في التغيير. وأن شمس الحرية لا زالت تحتاج إلى أشواط طويلة من التضحية والفداء، وتغيير ما بالأنفس، وتصفية الصف الشعبي المُنتفض، من العوالق العميلة، والنخب المنافقة. - "شُيُوخٌ" فَضَحَهُمُ الِانْقِلَابُ الْعَسْكَرِيُّ : أجل، لقد ابتهجنا، بذات الحدة التي تألمنا بها، بعد انقلاب العسكر على الديمقراطية في مصر، وعبرنا في قرارة أنفسنا عن شكرنا الخاص لهذا الانقلاب الدموي المجرم، الذي كشف لنا عن جزء من الوجوه الجاحدة العميلة التي ظلت تستهوي جمهورا غفيرا من الشعوب العربية، عبر إطلالاتها الإرشادية، وتوجيهاتها الدينية، والتي ظلت تحتل في قلوب الملايين من المسلمين مكانة خاصة من التقدير، والحب، والاحترام، وربما التقديس، لدى بعض الأتباع، خصوصا من قطيع "بنوسلاف" من أتباع ياسر البرهامي، ونادر بكار، وسعيد رسلان، ويونس مخيون،... فلم أجد- ونحن على أبواب شهر رمضان الفضيل- أعظم من هذا الانكشاف الفضائحي الذي "حققه" الانقلاب العسكري في مصر "المحروسة"، والذي أعتبره-شخصيا- إحدى حسنات هذا الانقلاب، التي تستحق منا وقفة خاصة. فلقد ظللنا نعيش –طيلة شهور رمضان السالفة- على "هجوم" شبه كاسح لأئمة ودعاة وقراء؛ شباباو شيبا، يملؤون أغلب القنوات المصرية والخليجية؛ بلحاهم الطويلة، أوذقونهم الحليقة (لافرق !!!). وظللنا نَنْشَدُّ إليهم، ونتأثر بمنطقهم في الخطاب، وأسلوبهم في لملمة القلوب. ولم نكن ندري عن مواقفهم السياسية شيئا. كما لم نكن نلتفت كثيرا إلى مدى انضباطهم العملي إلى ما يقولون، رُغم علمنا بأن الله تعالى قد نهانا عن أن نقول ما لا نفعل، وعدَّ ذلك من أكبر المقت:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)" (سورة الصف،2-3). كما نهانا عن نصح الناس ونسيان الأنفس، فقال تعالى:" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " (البقرة،44). ولكننا ظللنا نحسن الظن بهم، ونقول: "نحسبهم على هدىً، والله حسيبهم". و رغم ذلك، ظل السؤال المؤرق الذي لازمنا، ونحن نتتبع السيل العارم للنصائح والإرشادات، والأوامر والنواهي، التي تتدفق من أفواه هؤلاء "الشيوخ" من أصحاب الفرش والأرائك الناعمة؛ هو: هل كل ما يقوله هؤلاء ويدعون الناس إليه؛ يمتثلونه في حياتهم الخاصة، وعلاقاتهم الاجتماعية، ومواقفهم الأيديولوجية والسياسية، كما كان سلف هذه الأمة الصالح-حقيقة لا ادِّعاءً- يصنع وهو يُوَجِّهُ الناس، ويقود الأمة، ويُعَلِّم الحيارى، ويبني الحضارة؛ حيث لم يكن الواحد منهم يُحدِّث الناس حتى يكون عاملا بما يعلم ويقول؟ أم هي مجرد استهلاكات إعلامية ودعائية أقرب ما تكون إلى وظائف يُؤدَّى عنها بالجُنَيْهِ والريال، أوالدرهم والدينار ؟!. فلقد حدثونا عن كل شيء؛ بدءا بالإخلاص، و بر الوالدين، و الإحسان إلى الجار، و الإنفاق في سبيل الله، والربا،...وانتهاءً بالظلم والاستبداد، و خيانة الأمانة، و موالاة أئمة السوء،... فلم يتركوا بابا من أبواب الخير إلا دلونا عليه، ولا بابا من أبواب الشر إلا حذرونا منه. كما حدثونا – وهذا أخطر- عن بطولات الصحابة، ومواقف العلماء الصالحين من الاستبداد والفساد. ودعونا للاقتداء بهم، والسير على نهجهم الصالح في الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... !!!. فقد حدثونا عن كل هذا، وكنا نَكِلُ سرائرهم إلى الله تعالى الذي أمرنا أن نحكم بالظاهر ونَكِلَ السرائر إليه سبحانه... وهكذا حتى حلَّ على" المحروسة" هذا الانقلاب "المبارك"؛ فتزايلت الصفوف، وظهرت الحقائق التي لم تكن في الحسبان، وانكشفت السرائر، وبان لكل ذي عيْنَيْنِ وقلب، حقيقة هذه الجماعة من "الشيوخ". وبرز للجميع بوار خطابهم، وتهافت منطقهم، وكذب ادعاءاتهم. وذلك حينما اصطفوا جنب الاستبداد الذي لعنوه، واستغلوا نصوص الدين، شر استغلال، لتبرير انتهاكاته المستمرة ضد حقوق الناس، كما لتبرير مواقفهم الحالية التي نقلتهم 180 درجة عن مواقفهم السابقة. وأخذوا يتحدثون عن حرمة الدماء، وحرمة الخروج على الحكام، وهم مَنْ أَيَّدُواْ خروج السيسي على حاكمه الشرعي الذي اختاره الشعب المصري في انتخابات ديمقراطية لم يطعن فيها أحد !!!. كما نسوا دروسهم الخالية، حينما كانوا يطبلون ويزمرون لمواقف الرعيل الأول من السلف الصالح، البرئ منهم ومن أفعالهم، من أمثال: الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير، والتابعي سعيد بن جبير، ومطرف بن عبد الله، والشعبي، وأبي حنيفة، ومالك، وطاووس، والشافعي، وأحمد ابن حنبل، و الحسن البصري، وسلطان العلماء العز بن عبد السلام، وابن تيمية، وغيرهم من العلماء العاملين الذين سجل لهم التاريخ مواقف غاية في الجرأة والشجاعة، في مواجهة الاستبداد !. - أملٌ وَسَطَ شُرودٍ: لكن، في المقابل، لن يفوتنا أن نَذْكُر لهذا الانقلاب الدامي حسنة أخرى، أثلجت صدورنا، وأفرحت أرواحنا، وجعلتنا نطمئن إلى حال هذه الأمة التي لا زالت نساؤها الفاضلات يلدْنَ رجالا من العلماء والدعاة الصادقين الذين لا يستهويهم منصب، ولا يخيفهم جبروت مستبد أو ظلم حاكم؛ يقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم. إنها الصورة الناصعة لأغلب علماء الأمة المقدرين المخلصين، العَالِمِين العَامِلِين، من أهل الاعتدال والوسطية، من الذين قالوا للظلم: لا؛ ثم استقاموا !!. إنهم الأمل الذي سيبقى معولا عليه- بعد الله تعالى- في قيادة هذه الشعوب التائهة إلى مَرْسَى الأمن والعدل والكرامة. دمتم على وطن... !!