سائحة إسبانية تحذر: لا تلتقطوا الصور في المغرب دون إذن    الفتح الناظوري يضم أحمد جحوح إلى تشكيلته            الوكالة المغربية للدم ومشتقاته تؤكد أن وضعية مخزون الدم بالمملكة مطمئنة        نهائي كأس إفريقيا يُطيح بالمنتخب المغربي النسوي خارج ال60 عالميا    منخرطو الوداد يرفضون الاتهامات ويجددون مطلبهم بعقد الجمع العام    تعيينات جديدة في صفوف الأمن الوطني    المغرب... البلد الوحيد الذي يقدّم مساعدات إنسانية مباشرة للفلسطينيين دون وسطاء وبكرامة ميدانية    جلالة الملك يهنئ رئيس جمهورية كوت ديفوار بمناسبة العيد الوطني لبلاده    وفاة شاب إثر أزمة قلبية داخل محطة القطار بطنجة    مظاهر عشوائية تشوه جمالية مارينا طنجة.. وأين هي أعين السلطات؟    رخص مزورة وتلاعب بنتائج المباريات.. عقوبات تأديبية تطال أندية ومسؤولين بسبب خروقات جسيمة    التامني: قرار المحكمة الدستورية صفعة قوية لحكومة عاجزة عن احترام الدستور    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    أزمة ‬الإجهاد ‬المائي ‬تطل ‬على ‬بلادنا ‬من ‬جديد..‬    الداخلة.. ‬‮«‬جريمة ‬صيد‮»‬ ‬تكشف ‬ضغط ‬المراقبة ‬واختلال ‬الوعي ‬المهني ‬    انتقالات: سون هيونغ-مين ينضم للوس أنجليس الأمريكي    المغرب ‬يرسّخ ‬جاذبيته ‬السياحية ‬ويستقطب ‬‮«‬أونا‮»‬ ‬الإسبانية ‬في ‬توسع ‬يشمل ‬1561 ‬غرفة ‬فندقية ‬    يوليوز 2025 ثالث أكثر الشهور حرارة على الإطلاق عالميًا    في ‬دلالات ‬المضمون : ‬ توطيد ‬المسار ‬الديمقراطي ‬و ‬تطوير ‬الممارسة ‬السياسية ‬لتعزيز ‬الثقة ‬في ‬المؤسسات    تتويجا ‬لمسار ‬ناضج ‬وجاد ‬من ‬الجهود ‬الدبلوماسية : ‬    الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة التي فرضها ترامب تدخل حيز التنفيذ    كيوسك الخميس | المغرب الأول مغاربيا والثالث إفريقيا في الالتزام بأهداف المناخ    جو عمار... الفنان اليهودي المغربي الذي سبق صوته الدبلوماسية وبنى جسورًا بين المغرب واليهود المغاربة بإسرائيل    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    ماكرون يطالب "بمزيد من الحزم" حيال الجزائر ويعلق إعفاء حاملي جوازاتها الدبلوماسية من التأشيرة    منشق شمالي يدخل كوريا عبر الحدود البحرية    زيلينسكي يجدد الدعوة للقاء مع بوتين    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    وقف حرب الإبادة على غزة والمسؤولية الوطنية    الرباط تفتتح مرآبًا عصريًا تحت الأرض لتخفيف ضغط السير وسط المدينة    ترامب يهدد برسوم جمركية جديدة على الهند بسبب النفط الروسي ونيودلهي ترد: الاتهامات "غير مبررة"    الرجاء يتعاقد مع الزهواني من تواركة    هذه تفاصيل رسالة ماكرون للوزير الأول فرانسوا بايرو بخصوص التعامل بحزم مع الجزائر    الحرائق تخرج عن السيطرة في فرنسا.. قتلى ومفقودون ومناطق بأكملها تحت الرماد    حين يتحدث الانتماء.. رضا سليم يختار "الزعيم" ويرفض عروضا مغرية    قرعة الأبطال و"الكاف" بدار السلام    تداولات بورصة البيضاء تنتهي بالأخضر    دعم السينما يركز على 4 مهرجانات    خبيرة غذائية تبرز فوائد تناول بذور الفلفل الحلو    تكريم كفاءات مغربية في سهرة الجالية يوم 10 غشت بمسرح محمد الخامس        حين ينطق التجريد بلغة الإنسان:رحلة في عالم الفنان التشكيلي أحمد الهواري    النجمة أصالة تغني شارة «القيصر» الدراما الجريئة    أكلو : إلغاء مهرجان "التبوريدة أوكلو" هذا الصيف.. "شوقي"يكشف معطيات حول هذه التظاهرة    طفل يرى النور بعد ثلاثين عامًا من التجميد    الموثقون بالمغرب يلجأون للقضاء بعد تسريب معطيات رقمية حساسة    بين يَدَيْ سيرتي .. علائم ذكريات ونوافذ على الذات نابضة بالحياة    نحن والحجاج الجزائريون: من الجوار الجغرافي …إلى الجوار الرباني    اتحاديون اشتراكيون على سنة الله ورسوله    من الزاويت إلى الطائف .. مسار علمي فريد للفقيه الراحل لحسن وكاك    الأطعمة الحارة قد تسبب خفقان القلب المفاجئ    دراسة كندية: لا علاقة مباشرة بين الغلوتين وأعراض القولون العصبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رجالات الريف...من زمن المقاومة إلى زمن المصالحة

«ليس هناك نجاح أو فشل، انتصار أو هزيمة، بل شيء اسمه الواجب» الأمير محمد بن عبدالكريم الخطابي . وري جثمان المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي يوم 6 فبراير 1963 بالقاهرة. بعد حياة مليئة بالتضحية بالغالي والنفيس من أجل الوطن والحرية والحق، بالاجتهاد الفكري والعمل الصالح، قاوم الاستعمار الإسباني بأسلوب حربي جديد وبفكر متقدم، حاول إرساء دعائم دولة حديثة وأدوات التقدم والازدهار في بنية فقيرة ومتخلفة، هزمته القوى القاهرة للتحالف الفرنسي الإسباني وتم نفيه من مسقط رأسه، أجذير (إقليم الحسيمة)، وفي سنة 1974 كان نزوله بالقاهرة لمواصلة حيث واصل جهاده وكفاحه من أجل الأفكار التي ظل طول حياته مؤمن بها، قبل وبعد الاستقلال: الحرية، الحق، الثقة في الشعب وقدراته، الحق للبشر في العيش الكريم. عبر بكل نزاهة عن آرائه ومواقفه من الاستقلال وظروفه وعن معارضته لبعض مواقف وسياسات الدولة الناشئة. لم يتسن له وهو على قيد الحياة، توفير ظروف، اتخاذ قرار الرجوع إلى وطنه إلى أن وافته المنية ببلاد مصر.
هذه قراءة سريعة لشخصية ولمسار هذا البطل الريفي، المغربي، المغاربي، الأمازيغي، العربي، الإسلامي، الإفريقي والأممي.
هذا المقال لا يسعى إلى الحديث عن المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي، فقد تناوله بالتحليل والدراسة العديد من الدارسين والمؤرخين والسياسيين وما زالوا إلى يومنا هذا يولون اهتماما كبيرا لهذا القائد النموذجي، أذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما صدر خلال الشهرين الأخيرين، أطروحة الدكتوراة التي تقدم بها السيد عبدالله الكموني بعنوان "المقاصد العقدية في نتاج محمد بن عبدالكريم الخطابي من خلال رسائله وأحكامه الفقهية" وهو بحث جدير بالاهتمام في موضوع لم يتم التطرق له من قبل. كما قامت دار النشر الرباطية "La Porte" بنشر كتاب، باللغة الفرنسية، للصحفي الفرنسي "J. Roger-Mathieu" حول "مذكرات عبدالكريم" وهي الطبعة الثانية بعد أن صدرت الطبعة الأولى بباريس سنة 1927 من القرن الماضي وهي المذكرات التي استقاها الصحفي الفرنسي، المراسل الحربي لجريدة لوماتان الباريسية من خلال محادثات مباشرة مع المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي وأخوه المجاهد امحمد بن عبدالكريم الخطابي على متن الباخرة التي قلتهم إلى المنفى. كما يتم الإعداد لإصدار كتب أخرى ذات بعد تاريخي لتسليط الضوء على فترة مهمة من تاريخ منطقة الريف والمغرب وجهاد رجالاتها. أغتنم هذه المناسبة لأذكر أن فتح أرشيف المستعمر الإسباني والفرنسي وتوفر الوثائق التاريخية سيمكن من الغوص في العديد من الجوانب لحرب الريف، فليستعد شبابنا لهذه الفرصة الذهبية من أجل إعادة قراءة الماضي وصبر أغواره. لكن، ومنذ زمن بعيد، الناس مشغولة بنشر مذكرات المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي التي ستكون بلا شك لحظة عظيمة ليتمكن كل المهتمين والمتتبعين لحرب الريف، من التوفر على وثيقة الشاهد الأول، شاهد على عصره بامتياز.
كما صدر أيضا من مدينة الحسيمة عن "منشورات تِيفْرَازْ" كتاب ل"محمد الرايس"، رحمه الله، بعنوان "شهادات عن المقاومة في عهد الزعيم محمد بن عبدالكريم الخطابي"، قام بإعداده وتقديمه ابنه، عبدالحميد الرايس. الكتاب يحتوي على 566 صفحة وصور نادرة لثلة من المجاهدين وأخرى لإسبان يتم نشرها لأول مرة، مما جعل الدهشة تتملك بعض المؤرخين الإسبان خاصة المطلعين منهم على تفاصيل عديدة من تاريخ المنطقة.
إن هذا الكتاب هو الذي أوحى إلي بفكرة هذا المقال. لكن قبل ذلك أود أن أشير إلى المجهود الذي ما فتئ يقوم به ثلة من الوطنيين الغيورين الصادقين في أقاليمهم البعيدة عن محور الرباط-الدارالبيضاء، في إحياء الذاكرة والمساهمة بإمكانيتهم الضعيفة في جعل شعلة الفكر والحوار والتثقيف موقدة ومستمرة عبر جرائدهم الجهوية ومواقعهم الإلكترونية المحلية وجمعياتهم التنموية. فتحية صادقة لهم ليس في الريف وحده بل في كل ربوع هذا الوطن الحبيب.
قلت، ألهمني كتاب "محمد الرايس" الذي يتحدث، زيادة على مذكراته، عن خمس وثلاثين شهادة حية لمقاومين ومجاهدين عايشوا أحداث وحرب الريف بتفاصيلها الدقيقة وساهموا في مقاومة المستعمر، زيادة على شهادات موثقة لمحمادي الحاتمي وكذا قراءة في الشهادات لعبد الحميد الرايس. لقد أوحى إلي هذا الكتاب الفريد، بالمغامرة للحديث عن رجالات ذاك الزمان الغابر، رجالات الجهاد والمقاومة، وعن رجالات هذا الزمان، رجالات النضال والبناء والمصالحة. إن الحاضر جزء من الماضي، ومن لا ذاكرة له، لا مستقبل له. فماذا استلهم رجالات الحاضر من أجدادهم وآبائهم، وما المسؤوليات الملقاة على عاتقهم، وفاء لهم وتقديرا لتضحياتهم، في هذا الزمن المغاير لذاك الزمان البعيد-القريب، سعيا للبناء والتقدم وإعلاء كلمة الحق، نصرة للقضايا العادلة ومساهمة في إعلاء كلمة الوطن عاليا في سماء الأمم. إني أعتقد أن أحد الروابط بين رجالات المقاومة ورجالات المصالحة تكمن في تلك الكلمة السحرية التي جاءت في مقدمة هذا المقال من مقولات المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي، ألا وهي كلمة "الواجب"، نعم واجب كل واحد منا وفاء لتاريخ الأجداد، للمساهمة في بناء الوطن ورفاهيته للأجيال القادمة وكتابة صفحات مشرقة من التاريخ كما فعله الماهدون الخالدون من أبناء وطننا. نعم، لقد أبلى رجالات المقاومة البلاء الحسن من أجل كتابة ملحمة أخرى من الملاحم الكثيرة لأبناء هذا الوطن عبر مختلف العصور، نخلده اليوم ونستلهم منه الدروس والعبر في حياتنا اليومية وطموحاتنا المستقبلية. قاموا بواجبهم على أحسن ما يرام رغم كل الأخطاء والنواقص، لأنهم بشر، كما لنا نحن أيضا عيوبنا وهفواتنا. فهل قام رجالات اليوم، رجالات زمن المصالحة بواجبهم؟ هذا ما سنحاول التطرق إليه لنبدي بكل تواضع بعض الأفكار والخواطر والمقترحات حوله.
ملاحظات أخرى، تبدو لي ضرورة إقحامها، تجنبا لكل قيل وقال، وما أكثره في زماننا هذا، بحيث تربينا على ترك الموضوع وكنهه والإبحار في النوايا والافتراضات وهوامش الهوامش. أولها، تتعلق بعنوان المقال، وخاصة بكلمة "رجالات". لقد قيل الكثير حول أول حكومة تنبثق عن دستور 201‍1، فيما يخص الحضور المتواضع للمرأة مما ضرب عرض الحائط شعار المناصفة وتاريخا من النضال من أجل أن تتبوأ المرأة المكانة اللائقة بها في كل مستويات تدبير الشأن الوطني. وحتى لا يُظَّن بي السوء، أؤكد أن استعمال "رجال" جاء للضرورة، لكون المقاومة المسلحة الريفية كانت في الميدان العسكري والحربي والسياسي مقتصرة على الرجال في ذاك الزمان. هل كانت المرأة الريفية غائبة عن ما يدور في محيطها؟ أبدًا... أبدًا، كانت حاضرة هي الأخرى وبقوة في كل الملاحم ولكن انطلاقا من دورها في بيئتها المحافظة والتقليدية، دينيا وثقافيا. يقال أن "وراء كل رجل عظيم، امرأة". بالفعل، كان وراء رجالات المقاومة الريفية نساء عظيمات، مؤمنات، متفانيات، يحرسن مساكنهن وأملاك عائلاتهن ويقمن بأدوار الرجال حين غيابهم عن منازلهم وذهابهم لساحات الحرب، يرفعن من معنويات الرجال، يسهرن على تربية الأطفال... التراث الشعري الشعبي المسمى بالريف "إِزْرَانْ" غني بالدلالات على وعي وانخراط ومساهمة النساء بالبلاء الحسن في فترة المقاومة. وعلى الباحثين والباحثات النبش في دور المرأة في تلك الفترة. أما في زماننا هذا، فما زال الرجال يستحوذون على كل مناحي الحياة في الريف رغم أن المرأة والفتاة التحقت بالتعليم وانخرطت في عوالم الشغل والحياة وأصبحت رويدًا... رويدًا، تتبوأ المكانة التي تستحقها. في الميدان السياسي، لنا مثالين يثلجان الصدر، بعيدا عن الدواعي والحيثيات، ألا هو ترؤس أول امرأة للمجلس البلدي للحسيمة وانتخاب أول امرأة من نفس المدينة كبرلمانية، ويا لمكر الصدف، المرأتين من الحزبين الأكثر تعارضا و"تناحرا" في زمننا هذا. إنهما أدلة على أن التغيير والمناصفة في طريقيهما الصحيحين. هذا بالنسبة للجيل النسائي الشاب الصاعد، أما فيما يخص أمهاتنا وجداتنا، فليسمح لي السيد عبدالحميد الرايس، الذي أعد وقدم للكتاب المذكور أعلاه، أن آخذ جملة من ما سطره في إهداء الكتاب حيث جاء: « إلى والدتي التي طالما انتظرت صدور هذا العمل »، ما أروع ما انتظرت، لم تنتظر المال والجاه، بل صدور كتاب، نعم كتاب ألفه زوجها المرحوم المجاهد محمد الرايس والذي يتحدث عن مقاومات شعبية لرجالات الجهاد والتضحية. ملاحظات، الأولى كانت حول كلمتي "الرجال" و"المناصفة".
الثانية، تتعلق بكتابة مقال حول الريف وما يمكن أن يُخَّمَن حول الموضوع. ورفعا لأي لبس، أؤكد أن التطرق لجهة الريف لا ينبع من أي تصور انعزالي أو نظرة ضيقة، بل على العكس، إني مؤمن بأن المحلي، بخصوصياته وتاريخه وثقافته وتقاليده، هو خاص يصب ويغني ما هو عام، يغني تاريخ وثقافة وتقاليد الوطن، المغرب، الذي بدوره يؤثر ويفعل في المحلي والجهوي. إنه التكامل والغنى في إطار وحدة الوطن، وحدة الأهداف والمقاصد، بعيدا عن كل شوفينية وعنصرية وقبلية مجانية. أتحدث اليوم، عن الريف، مسقط رأسي، كما يمكن أن أتحدث عن الرباط التي احتضنتني مع أبي وأمي، إخوتي وأخواتي، منذ زمن بعيد إلى يومنا هذا. كما يمكن لي أن أتحدث عن فاس، تافيلالت، دكالة، الصحراء، سوس، وكل جهات المغرب لاستلهام ملامح رجالاتها ونسائها عبر التاريخ إلى يومنا هذا. هذا موقفي وهذه قناعتي.
الملاحظة الثالثة، كما للريف زعاماته ورجالاته، فلمختلف مناطق المغرب رجالات وزعماء أفذاذ، عبر العصور والحقبات، وحتى نبقى في بداية القرن الماضي وتغلغل الاستعمارين الفرنسي والإسباني، فلا بأس من الإشارة، رفعا لكل لبس، عن رجال عظام، من أمثال المجاهد موحا او حمو الزياني في الأطلس المتوسط، المجاهد عسو أوبسلام بالأطلس الكبير، المجاهد أحمد الهيبة بن ماء العينين، الذي حارب الاستعمار الإسباني بالصحراء المغربية والاستعمار الفرنسي بجنوب المغرب وبموريتانيا، المجاهد الشريف محمد أمزيان في الريف، زعيم المقاومة الريفية في بداياتها... ناهيك عن جهاد رجالات المغرب الأحرار بمختلف مناطق الوطن. أما من جاهدوا من الوطنيين وحازوا الاستقلال والذين ناضلوا في مغرب الاستقلال، مغرب سنوات الجمر والرصاص، من مختلف الأطياف السياسية، النقابية والفكرية، فكثيرون أيضا ومن مختلف الجهات، ليس هذا المقال مجالا لذكرهم والتحدث عنهم.
لنعد لرجالات زمن المقاومة ولشهادات "محمد الرايس"، رحمه الله، عن دور هؤلاء في كل مناحي الحياة في بيئتهم والتي تحدثوا هم أنفسهم عنها سنوات من بعد الحرب التي خاضوها ضد المستعمر الأجنبي ومشاركة بعضهم في الحياة السياسية والفكرية لبلدتهم. قلنا إن الرابط في هذه المقال سيكون محوره الرئيسي "الواجب"، فهنا يحضرني ما قاله الإسباني "إسطيبان ذي لاس إيراس"، Don Esteban de las Heras، كان ترجمان جزيرة النكور، ملما الأمازيغية الريفية والعربية الدارجة، مخاطبا المجاهد عبدالكريم الخطابي، الأب، مخاطبا إياه بما يلي: « أنت وحدك يا فقيه، تعرف ما يطبخ في القدرة، ويحاك في الخفاء. أما قومك فلا يعرفون سوى لعنة الله على الكفار » (صفحات 79 و80 من الكتاب). لقد لخص هذا الإسباني، أحد الجوانب المحركة للجهاد، ألا وهو "واجب" الدود عن الملة والدين، الإسلام، بالغالي والنفيس وكذا "واجب" الدفاع عن النفس وعن العائلة والأرض والوطن. نعم، واجب البارحة واليوم وغدا، لا ثمن للحرية والوطن والدين، إلاَّ الحُسْنَيَيْن، وهو ما أبلى فيه رجالات الريف البلاء الحسن بأغلى ما عندهم، مواجهين قوات استعمارية عظيمة العتاد والسلاح، لم تتوان في استعمال كل الدسائس والمناورات والتحالفات والأسلحة الفتاكة الكيماوية التي أتت على الأخضر واليابس في حصدها أرواح البشر (النساء، الأطفال، العجزة، المرضى...) والنبات والدواب. رغم كل هذا، رجالات الريف لم يهنوا ولم يستسلموا، بل صابروا وجاهدوا قدر استطاعتهم وإمكانياتهم بقيادة زعيمهم الخالد محمد بن عبدالكريم الخطابي. ويستخلص من الشهادات أيضا أن بعض رجالات الريف في ذاك الزمان كانت تحدوهم رغبة في التعلم وكسب المعارف، ليس في علوم الدين فحسب بل أيضا في كل مجالات المعرفة الإنسانية والعلوم والتقنيات، كما عملوا على تعلم لغات الغير وطرق عملهم وتسييرهم، كما سافروا داخل المغرب وخارجه بحثا عن الجديد، كانوا يعتبرون هذا من باب "الواجب"، "واجب" الانفتاح على العالم الجديد وكسب تقنياته وعلمه والعمل على استفادة جهتهم وأبناء بلدتهم منها. لقد كان لدى القادة بالريف وعي حاد ب"واجب" وأهمية التعلم والقراءة والكتابة. فتمعنوا معي هذه الوصية للمجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي لتلاميذ مدرسة أجدير في عشرينيات القرن الماضي، الواردة في الصفحة السادسة من ذات الكتاب، حيث يقول: «أوصيكم يا أبنائي بالقراءة والكتابة، وعليكم أن تعودوا أنفسكم على ممارسة الكتابة وتدوين خواطركم ومشاهداتكم اليومية دونما إبطاء أو إجهاد في البحث عن الجمل المنمقة، بل عبروا عن أحاسيسكم باللغة الريفية الأمازيغية أو العربية أو بخليط بينهما، فالمهم هو التعبير الصادق الأمين عن المشاعر، والأهم هو اكتساب ناصية الكتابة والتعود على ممارستها». هذا كله في بيئة متخلفة، محيط اقتصادي صعب، وموارد للعيش ضئيلة، فلاحة في تضاريس صعبة، تجارة بدائية، صيد بحري تقليدي، مجتمع قبلي عصبي متناحر، دولة مركزية ضعيفة وأطماع استعمارية صاعدة ومتوحشة. نعم، كان معظم رجالات زمن المقاومة من الفلاحين الفقراء المستضعفين في الأرض، لكن كانوا رجالا مؤمنين، أحرارا، لا يخافون الجهر بالحق والدفاع عن كرامتهم. كانوا أيضا رجالا يُخْطئُون وأحيانا يقومون بأفعال تعارض سياسة المقاومة، لكن غالبيتهم العظمى، إلا النزر القليل، لم يخونوا ولم يبحثوا عن مغانم ومآرب شخصية. كانوا أبطالا بمجد. ولنترك الزعيم علال الفاسي يحدثنا حول هذا الموضوع في كتابه "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، حيث يقول في الصفحة 136-137 : «ولقد وجد الأمير من الشعب إخلاصًا وافيًا وثباتًا وتفانيًا لا يضاهيه إلا ما تتحدث به الروايات عن سير الأعاظم وصفات الأبطال... حدثني الزعيم محمد بن عبدالكريم الخطابي بالقاهرة: أن الكلونيل مونيستيريو القائد الإسباني لمعركة النكور اتفق ذات مرة مع محمد بن الحاج محمد أَفقِّير المكنى عند الإسبانيين بإنْريكي على سم الأمير، وكان حاضرا على الاتفاق ابن سعيد السلاوي، وحمل أَفقَّير قنينة سم، وجاء معه ثلة من الإسبانيين حاملين عديدًا من الديناميت لنسف دار الأمير بعد سمه، وما وصل إلى أجدير حتى بلغ الأمير ما قدم من أجله، وقدم له القنينة، وحمل له الإسبانيين الذين معه كأسارى، وناهيك بإخلاص هذا الرجل الشعبي الذي أقل ما يقال عنه إن إخلاصه لبلاده لم يكن واضحًا إلى حد أن يثق به الإسبانيون ويتآمرون معه على الفتك ببطل الريف، ويضعوا تحت تصرفه أفرادًا من مواطنيهم للقيام بالاستفادة من الدهشة التي تعتري الجمهور بعد قتل رئيسه». رجالات الريف، الفلاحون المستضعفون، كانوا يُولُون أهمية عظمى ل"واجب" الإخلاص، الوفاء، الثبات، التفاني، في الجهاد والنضال والبناء السياسي، الاقتصادي والاجتماعي، وهي قيم عالمية، رفيعة، صالحة لكل العصور والحقبات. يا له من درس عظيم لجيلنا وللأجيال القادمة. أكتفي بهذه الإشارات السريعة حول وعي وقيام رجالات الريف في زمن المقاومة ب"واجبهم" تجاه الوطن. رحمهم الله.
لقد كان لصدور هذا الكتاب المتضمن لشهادات وصور المجاهدين الخمس والثلاثين، والذين ينوبون عن الآلاف من المجاهدين، الوقع الحسن على عائلاتهم ومعارفهم، لقد تم نفض الغبار عنهم وتمت إعادة الاعتبار لهم. لقد انْتُشِلُوا من ذاكرة النسيان إلى ذاكرة الخلود. إن رمزية هذا الاعتراف لا يضاهيه ثمن ولو كان بأطنان من الذهب. نتمنى أن يحذوا الآخرين حذو هذا العمل للتعريف بكل من ساهم من قريب أو بعيد في ملحمة "ادْهَارْ أُوبَرَانْ" و"أنوال" وغيرها من المعارك، كثير.
سيكون لنا موعد مع رجالات زماننا هذا، رجالات الريف في زمن المصالحة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.