صدر كتاب "أضواء على ابن يجبش التازي" سنة 1976، وبذلك يعد – في حدود علمنا – أول كتاب من نوعه يقدم لجوانب من تاريخ وتراث وأعلام مدينة تازة، ونحن نقصد فترة ما بعد الاستقلال، وانطلاق حركة البحث الأكاديمي والجامعي والموجه لعموم الجمهور، ولو أن تلك الحركة في ظروف الميلاد والإيناع ظلت محتشمة بشكل عام، ولاسيما في ما يخص الأبحاث المنوغرافية الخاصة بالمدن والمناطق المغربية المختلفة، Etudes Monographiques ولذا شكل ظهور هذا الكتاب محطة أساسية في الدراسات المغربية الخاصة بمنطقة تازة (أي المدينة والأحواز)، بل وظل مصدرا ثمينا لمعلومات متعددة حول تازة وأعلامها ومحطات من تاريخها إلى حد الآن، سواء بالنسبة للباحثين الأكاديميين أو من يوجهون أعمالهم لعموم الجمهور المهتم، وهو ما يعكس تفرده ومصداقية محتواه، فضلا عن ريادته كما ذكرنا. كتاب الأضواء هذا من تأليف الأستاذ ومفتش المدارس الابتدائية المرحوم أبي بكر البوخصيبي المسفيوي، نسبة إلى مدينة آسفي التي شهدت ميلاده سنة 1928 وبعضا من نشأته العلمية، وسط أسرة اشتهرت بالدين والعلم، ليس في منطقة احمر وحدها، بل على الصعيد الوطني أيضا، ثم التحق بجامعة القرويين بفاس، التي تلقى فيها الطلب لمدة سنتين، انتسب بعدها لكلية ابن يوسف بمراكش؛ ومن شيوخه الذين أخذ عنهم العلوم التقليدية العلامة محمد المختار السوسي وعبد القادر المسفيوي، الذي كان له الفضل على أبي بكر في تحبيبه الشعر العربي وآداب اللغة العربية، فحفظ الروائع بدءا من المعلقات الجاهليات، ثم بدأ ينظم الشعر على الطريقة التقليدية، ونسج العديد من القصائد في الوصف والمدح وخلال المناسبات الوطنية. ثم التحق أبو بكر بسلك التعليم مفتشا للمدارس الابتدائية وشاءت الظروف أن ينتقل إلى تازة التي عمل بها من أكتوبر 1966 إلى متم شتنبر 1973. في تلك الفترة، وتبعا لرصيده السابق وطموحه العلمي، أتاحت له علاقاته التي نجمت عن ظروف اشتغاله بتازة أن يلج بعض مصادر المعرفة المحلية، وخاصة ما احتوته خزانة العمالة ثم خزانة الجامع الأعظم، إضافة إلى اتصالاته وانتفاعه بالعلاقات ذاتها؛ ونذكر هنا تفاعله المثمر مع العديد من أبناء تازة، وأبرزهم الشيخ أحمد الخصاصي القيم الديني وقتذاك على المسجد الأعظم وخزانته، والعلامة ادريس بن الأشهب، علاوة على عشرات من أبناء تازة الذين بادلوه كل الود والاحترام والتفاعل الإيجابي، فكانت باكورة إنتاجه التاريخي والأدبي هذا الكتاب الرائد في نوعه؛ علما أن الراحل أبا بكر خطط لمشاريع أخرى طموحة بالنسبة لتواريخ عدد من مدن البلاد، كآسفي وسطات وتازة والصويرة وأغمات وتوات وفاس، من خلال كناشة الشيخ زروق، علاوة على بعض الأعلام كابن حرزهم والشيخ زروق والشيخ عبد الرحمان المجذوب، غير أن تحولات مسيرة حياته، بعد أن غادر تازة، ولاسيما إثر استقراره بسطات واشتغاله بالإدارة الترابية، كل ذلك حال فيما يبدو وخروج تلك المشاريع العلمية إلى النور، إذ عاجلت المنية هذا الباحث المتمكن قبل الأوان، ولكل أجل كتاب، حيث توفي رحمه الله سنة 1993. قدم للكتاب إياه العلامة عبد الله كنون الحسني، إذ أشار إلى قضايا هامة تخص التاريخ المغربي، فلاحظ أنه يشكو من أمرين هما: ضياع الكثير من الوثائق والمظان والمستندات والمؤلفات التاريخية الخاصة ببعض المدن، والأمر الثاني الذي يشكو منه تاريخ المغرب هو ضمور الدراسة المنهجية. والعلامة كنون يتحدث في سياق ظروف سنة 1974، حيث كانت الدراسات الجامعية والأكاديمية والموجهة لعموم القراء محدودة معدودة وقتذاك، ورد هذا الوضع إلى سلوكات الاتكال والكسل الفكري عند الباحثين الشباب، ثم من وصفهم بالمثقفين الكهول، ولاسيما ذوي الثقافة المزدوجة ( عربية – فرنسية )، الذين لا ينتظر منهم على حد تعبير كنون إلا الانتقاد وإملاء الرأي من أعلى، إذ كان عليهم أن يترجموا عشرات الكتب والدراسات التي تهم تاريخ المغرب من الفرنسية أساسا (ثم الإنجليزية بدرجة ثانية) إلى العربية، لينتفع بها عموم أبناء المغرب من باحثين وطلبة وغيرهم. وكلام كنون هنا يجب ربطه بسياقه التاريخي أيضا. واستثنى من هؤلاء "زمرة قليلة من العاملين المجدين المنتجين الناجحين". وهنا يعرج الأستاذ كنون على الكتاب موضوع التقديم، فيضع صاحبه في جملة تلك الزمرة المذكورة من العاملين المجدين، مفصلا في الغاية من هذا الكتاب، وهي التعريف بالصوفي المجاهد ابن يجبش التازي، ومبديا في الوقت نفسه ملاحظات حول عنوان الكتاب. وقد كان الأستاذ كنون يفضل "أضواء على حياة ابن يجبش التازي" بدل العنوان الذي وضعه له صاحبه، ووصف الترجمة بأنها تكاد تكون كاملة، أخرجها صاحبها – والكلام لكنون – من العدم، استعمل فيها مؤهلاته العديدة من ثقافة أدبية أصيلة ونظر مقارن موفق وفكر متمعن غواص، عارضا لمشكلة اسم المترجم له، الذي تراوح بين "ابن بحبش" عند أحمد بابا التمبكتي و"ابن يحبش" عند ابن عسكر الشفشاوني. وضبط أبو بكر الاسم بشكل كامل فهو ابن يَجَّبْش بالجيم المشددة المفتوحة المتلوة بالباء الساكنة المخففة. وأضاف العلامة كنون ملاحظات بسيطة أخرى ذات طابع لغوي عام، لا تحط من قيمة الكتاب بل تدعمها، مهنئا صاحبه بهذا المنجز الهام ومن خلاله المكتبة المغربية. وزع الأستاذ أبو بكر مفاصل كتابه إلى تقديم، هو الذي تحدثنا عنه للعلامة ع الله كنون، ثم مدخل للكاتب يوضح فيه مقاصده والجوانب التي تعرض لها أو من الافتراض التطرق إليها، حين نلتقي بشخصية كابن يجبش التازي، مع العصر الذي عاش فيه وتاريخ مدينته تازة أو تازا، المتميز بتشعبه والتوائه، وبعد هذا المدخل تعرض في توطئة استغرقت بضع صفحات لظرفية نشأة وعطاء ابن يجبش الشعري والصوفي، أي مستهل القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، وخاصة كتابه المعروف في الجهاد، وتلا هذه التوطئة بما مجموعه ثلاثة عشر فصلا، فخاتمة شاملة. وقد عزز الأستاذ أبو بكر الكتاب بسوق آراء بعض الباحثين وإيراد منظومة شعرية في حق تازة وأحد أبنائها، وأخيرا الفهارس الثلاثة: الفهرس العام والتفصيلي وفهرس المصادر والمراجع. وجاء ترتيب فصول الكتاب كالتالي: تازا بين عهدين – ابن يجبش كما عرفته – ابن يجبش من خلال أقوال المؤرخين – نهضة وأسبابها – ابن يجبش الصوفي – ابن يجبش الشاعر – ابن يجبش الناثر- القيمة التاريخية والأدبية لكتاب الجهاد – التحريض على الجهاد – موازنات – ظهائر التوقير والاحترام – كتاب ابن يجبش في التحريض على الجهاد – مجاهدون معاصرون – خاتمة – آراء – للذكرى والتاريخ – الفهرس العام – الفهرس المفصل – فهرس المصادر والمراجع. ارتبط ابن يجبش بمرحلة احتلال الشواطئ المغربية فضلا عن انتمائه إلى تازة، وهو ما دفع الباحث أبا بكر لتقديم معلومات وإفادات حول مدينة تازة، من حيث التاريخ الغني المتشعب، مع ذكر بعض أعلامها، فمن المحطات التاريخية التي تعرض لها نشاط ثلاث دول بالمنطقة هي: الأدارسة والمرينيون ثم الدولة العلوية الحالية، كما ورد في الصفحة 52 من الكتاب؛ هكذا نلاحظ أن أدوار تازة التاريخية وأعلامها تنسرب من خلال سيرة ابن يجبش ذاته، ففي التوطئة على سبيل المثال تحدث الباحث عما جرى للمغاربة خلال فترة ابن يجبش، كاحتلال الشواطئ من طرف الاستعمار الأيبيري وانتشار ظواهر البؤس الاقتصادي والاجتماعي، علاوة على بعض القيم البعيدة عن الإسلام الحنيف، كالاستسلام والتواكل، وأباطيل بعض المتصوفة، بل وغربة أمثال ابن يجبش داخل مجتمعهم وزيارة بعض أعلام الفقه والأدب والتصوف لتازة، كالآبلي والمقري الجد وابن الخطيب. وتنطبق الملاحظة نفسها على فصل "تازا بين عهدين"، حيث قدم أبو بكر البوخصيبي لمحات وشهادات شعرية أساسا في حق تازة، بعد أن سجل ازدهارها المعلوم خلال العصر المريني، لكن تلك المقتبسات لا تنتمي للعهد المريني، باستثناء ما جاء في "معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار" للسان الدين ابن الخطيب وابن الفكون القسنطيني، بينما مقبوس محمد بن الطاهر الهواري يعود على الأرجح إلى القرن الثامن عشر الميلادي الذي استهله بقوله: قوم كرام بتازا فاق جودهم....جود البلاد التي أبصرتُ في سفري وأما الأبيات الموالية في وصف جمال تازة وإرثها التاريخي وأعلامها فهي قصيدة لصاحب الكتاب نفسه، أي أبي بكر البوخصيبي، ألقالها في إحدى المناسبات بتازة، ومنها قوله: هذه تازا وهذي رباها.....يصدع اليوم قلبها بهواها وأما ما ورد عند لسان الدين ابن الخطيب فالصحيح قوله "تازا بلد امتناع ومحل ريع وإيناع ,,,,"، وليس "تازا بلد مشاع...."، كما ورد في الكتاب خطأ. ويتعرض أبو بكر البوخصيبي لبعض العوامل التي أدت إلى اختيار بني مرين تازة، كأول موقع متقدم لهم في مواجهة الموحدين، ويلخص تلك العوامل في أوليتهم بالصحراء وامتدادا إلى حوض ملوية واتخاذها عاصمة مؤقتة، قبل بناء فاس المرينيين (المدينةالبيضاء أو فاس الجديد) من طرف يعقوب المنصور المريني. ويستعرض الكاتب بعض المحطات المتميزة خلال هذه الفترة بالنسبة لتازة، سواء في عهد يعقوب المنصور المريني أو خلال فترة أبي يعقوب يوسف، هذا الأخير الذي جعل من تازة موقعا للانطلاق إلى الجهاد في الأندلس وقاعدة لفتح تلمسان، في إطار الصراع مع بني عبد الواد، وذكر بعض السلاطين الذين بويعوا أو دفنوا بتازة، وأبرزهم: أبو يوسف يعقوب وأبو الربيع سليمان الذي توفي ودفن بصحن الجامع الأعظم سنة 710 ه كما يذكر وصول هدية سلطان مصر برقوق إلى تازة واقتبال السلطان المريني لها؛ وكل هذا إضافة إلى توصيفها بالرباط، وموقعها الجغرافي يفسر النهضة التي عرفتها خلال هذا العصر، ويستدل على ذلك بجملة من أسماء العلماء والفقهاء والمتصوفة والقضاة والأدباء الذين نبغوا ونشؤوا بتازة، كالعلامة ابن بري وابن العشاب وابن البقال وأحمد بن شعيب الجزنائي وعمر بن عبد العزيز الجزنائي، وأبي زكريا يحيى الوازعي وأبي عبد الله بن عطية وأبي عبد الله المجاصي، وابن أبي يحيى التسولي وأبي الحسن الجيار وأبي زكريا يحيى التسولي، وإبراهيم التازي دفين وهران وغيرهم، ممن مازالت سير الكثير منهم مجهولة كليا أو جزئيا. أما العهد الثاني الذي شهدته تازة وارتبط بفترة شباب وكهولة ابن يجبش فيكاد يخالف العهد السابق في كل شيء، حيث عرف المغرب هجوما إيبريا كاسحا أدى إلى احتلال شواطئه من طرف الإسبان والبرتغال، وعمت البلوى بسقوط آخر مملكة إسلامية بالأندلس، وهي مملكة بني الأحمر في مستهل يناير 1492 م وعبور آخر ملوكها أبو عبد الله الصغير البر إلى العدوة المغربية لاجئا وطريدا، مقابل بعض الامتيازات من طرف ملكي قشتالة سرعان ما تبددت. وساعد على هذا الجو القاتم ظهور وازدهار نماذج من التصوف الشعبي الذي هو إلى الخرافة أقرب منه إلى الدين، بفعل تدهور الأحوال العامة وانتشار الظلم والفقر وتقلص السلطة المركزية وانعدام الأمن عبر ربوع البلاد. وقد أرجع الكاتب فترة الاستقرار والهدوء التي نعمت بها تازة خلالها إلى عامل الصدفة (....) حيث ارتفعت رتبة عاملها إلى خليفة للسلطان. وتولى هذا الأمر أخو السلطان نفسه أبو العباس الذي كان محبا للعلم والعلماء، بدليل الحكاية التي يوردها بهذا الخصوص. في فصل "ابن يجبش كما عرفته" يتعرض الكاتب لملامح من سيرة ابن يجبش وبعض الأخذ والرد المتعلقين بتسمه ونسبه وأصوله وكنيته وشيوخه الذين أخذ عنهم علوم العصر. واعتمد البوخصيبي على مصادر الفترة أو التي جاءت بعدها، كمناقب الحظيكي ونيل الابتهاج للتمبوكتي، وممتع الأسماع ومرآة المحاسن، فضلا عن ظهائر السلطانية، علاوة على كتابات بعض المحدثين، واعتمادا أيضا على ما خلفه ابن يجبش ذاته ككتاب الجهاد وتخميس البردة ومعارضة منفرجة ابن النحوي، ثم كراسة "إرشاد المسافر إلى الربح الوافر". ومن شيوخ ابن يجبش أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزيتوني وأبو محمد عبد العزيز القسمطيني، وممن أخذ عنهم إبراهيم التازي التسولي دفين وهران، مع بعض التحفظ في صحة التقاء ابن يجبش سواء بابراهيم التازي أو أحمد زروق، رغم معاصرتهما له. ويميل البوخصيبي من جانب آخر إلى ترجيح لقاء ابن يجبش بالإمام السنوسي أبي عبد الله محمد بن يوسف، اعتمادا على قرائن متعددة، أبرزها المراسلات التي تمت بين الرجلين، ثم التفاعل العميق الذي كان يتم دائما بين مدينتي تازةوتلمسان، كما يذكر شيئا مما ورد عند المصنفين الذين سبق ذكر بعضهم حول ابن يجبش، ويعرج على زيارة الشيخ الهبطي لابن يجبش بداره في تازة، مع الإشارة إلى شيء من "كراماته" وبعض مواقفه الصوفية، مثلما حكا عنه الشيخ الهبطي لما زاره بتازة. ويورد البوخصيبي بعض الشواهد والأقوال التي سجلها أصحاب المناقب والحوليات والرحلات، نافيا عن المترجم له صفة الفقيه أو العروضي؛ مع الإشارة في الوقت نفسه إلى بعض اللمحات من هنا وهناك، ثم يعود إلى بلد ابن يجبش تازة، معرفا بعدد من أعلامها وبعض ما يتميز به إقليمها على مر التاريخ، مما ذكرناه سابقا، كاقترانها بالرباط وممرها الإستراتيجي ونشاط بعض الدول التي تعاقبت على المغرب بمنطقة تازة، موردا بشكل موجز قصة اليهودي ابن مشعل، الذي استبد بأمره في تازة مع المولى الرشيد، ثم علاقتها بكل من فاسوتلمسان ودور جامعها الأعظم، الذي أفاض فيه الحديث، وخاصة عما يتميز به من معالم وتحف، كالثريا الشهيرة والإسطرلاب الذي فقد في ظروف غامضة، إضافة إلى الساعات الشمسية، مذيلا هذا الفصل بقصيدة عصماء على لسان رباط تازا، ألقيت بمناسبة زيارة أحد المسؤولين الحوميين وقتذاك للمدينة في يونيو 1971 مطلعها: رباط تازا بالتاريخ يزدان............وقلب أبنائي بالآمال ملآن نهفو ونرقب من يحيي مآثرنا...منكم كما يرقب الولهان ولهان وفي الفصل الموالي يحلل البوخصيبي بعض أبعاد شخصية ابن يجبش الصوفية، مبرزا طابعها المعتدل الآخذ من الشريعة والحقيقة معا، كما ركز على القصيدة التي عارض فيها منفرجة ابن النحوي المعروفة: اِشتدي أزمة تنفرجي................قد آذن ليلك بالبلج وظلام الليل له سرج............حتى يغشاه أبو السرج بقوله: اِشتدي أزمة تنفرجي..............قد اُبْدِل ضيقكِ بالفرج مهما اشتدت بك نازلة........فاصْبر فعسى التفريج يجي والمعروف أن أسلوب المعارضة اتبعه عدد من الشعراء العرب، قدمائهم ومحدثيهم، ولا يمكن في نظرنا أن ندخله في باب السرقات الشعرية التي تحذو (في المعاني خاصة) حذو القدة بالقدة، فالمعارضة تقوم على استيحاء معاني النص الأصلي كما يتبع الشاعر نفس الروي القافية والوزن، مثلما نلحظ عند ابن يجبش هنا، وكذا عند عدد من شعراء النهضة العربية، كالبارودي وأحمد شوقي خاصة. انتقل صاحب الكتاب بعد أن تعرض لبعض ملامح التصوف عند ابن يجبش إلى محور آخر له علاقة وثيقة كالمعتاد بالإسلام وتفريعاته، التي تقوم عليها منذ القديم دينامية المجتمع المغربي، وهنا حلل تخميس قصيدة البردة للإمام البوصيري في المديح النبوي، وهو التخميس الذي وصفه الحضيكي بأنه عجيب. ومعنى التخميس تحويل الهيكل الثنائي للقصيدة أي الشطر الأول مقابل الشطر الثاني إلى أربعة أشطر فخامس، تتمحور حول كل بيت من أبيات البردة الأصلية، وهو ما يحيل على تأثر واضح بفن الموشحات. والمعروف أن قصيدة البردة يستهلها صاحباها بقوله: أمن تذكر جيران بذي سلم......مزجت دمعا جرى من مقلة بدم أم هبت الريح من تلقاء كاظمة...... وأومض البرق في الظلماء من إضَم وقد جاء تخميسها عند ابن يجبش على النحو التالي: يا من له همة من أرفع الهمم......وجسمه قد غدا في غاية السقم ومقلة العين لم تفتر ولم تنم.......أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعا جرى من مقلة بدم رفقا بنفس بصدق الوجد هائمة......أما تراها بدنيا غير ناعمة هل ذاك من حرقة في القلب كاتمة....أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق في الظلماء من إضَم وفي الفصل المعنون ب "ابن يجبش الشاعر" يحلل البوخصيبي حضور الشعر عند ابن يجبش من خلال قصيدته التائية في الحض على الجهاد، التي تشتمل على 169 بيتا شعريا، موردا مقولة مثيرة لأحمد أمين قوامها أن المسلمين إذا خرجت منهم أمور الدنيا تفرغوا إلى الدين، ومن بينهم الأدباء. لكن البوخصيبي يعلق نافيا هذه القاعدة عن ابن يجبش، فباستثناء موضوع التصوف الذي يتماس فيه مع تائية ابن الفارض فإن ابن يجبش اهتم بأمور المسلمين في إطار الوصف، إلى درجة أنه "يمكن الاستشهاد بها على أنه شارك في المعركة بالقدم والقلم"، والكلام للبوخصيبي طبعا. كما أن المعركة المقصودة هي مقاومة البرتغال المحتلين للشواطئ المغربية. بعد فصل ابن يجبش الشاعر، يأتي الحديث عن ابن يجبش الناثر في الفصل الموالي، مركزا على كتاب الجهاد الموسوم ب"تنبيه الهمم العالية"، فيسجل وجود أساليب التحذير والتهويل التي وظفها ابن يجبش، والمشفوعة بمظاهر الاستفهام لما آلت إليه أوضع المسلمين المغاربة: "عباد الله ما هذه الغفلة العظيمة التي أضحت على القلوب مقيمة وركنت إليها النفوس فأصبحت من الرشاد والتوفيق عديمة، أما علمتم أن أعداءكم باحثون عليكم، منشغلون بكل حيلة في الوصول إليكم"، ويحبب لهم الإقبال على الجهاد من أجل تحرير الثغور المحتلة من طرف الاستعمار الصليبي الإيبيري، ويختم الكتاب بالدعاء للمسلمين بالعز والنصرة، ثم يشفع كل ذلك بقصيدة تائية في الموضوع نفسه، وينتقل إلى حديث مختصر حول كتيب "إرشاد المسافر إلى الربح الوافر"، وهو مصنف صغير في موضوع السفر، متطلباته وشروطه وصعوباته. وعن القيمة التاريخية والأدبية لكتاب الجهاد المؤلف من طرف ابن يجبش يلخصها البوخصيبي في كون هذا القطب عد من القلائل الذين ألفوا في هذا الموضوع، خاصة أن فترة الدولة الوطاسية بقيت غامضة في كثير من مفارزها، ومنها مسألة احتلال الشواطئ المغربية. ومن فوائد الكتاب أنه يعطينا نظرة وافية عما وصلت إليه البلاد من انحطاط اجتماعي نتج عنه اليأس الذي كاد يؤدي إلى الاستسلام، لولا أن تدارك الوضع الأشراف السعديون، الذين حملوا راية الجهاد لعدة سنين، ثم العلويون وقد حذوا حذو السابقين، وإيراد بعض الحقائق الصادمة حول الاحتلال البرتغالي، كتأدية الخراج من طرف المغاربة، ووصول البرتغاليين إلى أبواب مراكش نفسها؛ ثم قضية الجاسوسية كما ورد عند ابن يجبش: "وأرسلوا جواسيسهم وعيونهم في كل بلدة ليخبروهم بما عندكم من عدة". وفي ما يخص القيمة الأدبية يحلل البوخصيبي بعض الصور الفنية البديعة عند ابن يجبش كقوله: ولم أستطع صبرا وكيف يصح لي.....وقد هتكت من ديننا كل حرمة. وفي موضوع التحريض على الجهاد أفرد البوخصيبي فصلا خاصا بمن كتبوا في الموضوع، سواء ممن عاشوا قبل ابن يجبش أو من جاؤوا بعده، وقسمهم إلى صنفين: صنف خاض في التحريض مباشرة، وصنف آخر قدم وسائل العدة والعتاد وطرائق التهييء لحرب العدو. فمن الصنف الأول القاسم التجيبي السبتي والهادي السجلماسي، ومن الصنف الثاني أبو العباس أحمد التمسماني الريفي، من خلال كتابه "روضة الجهاد الفائق، لمن أراد الغزو بالصواعق"، وأبو عبد الله محمد الخمسي وآخرون، علاوة على نتف وقصائد ترثي المدن الأندلسية التي تساقطت تباعا منذ مستهل القرن السابع الهجري. وقد أوضح في الفصل الموالي أوجه التشابه والاختلاف بين تلك المصنفات والنصوص من جهة، وكتاب الجهاد لابن يجبش، مقدما نماذج لظهائر توقير الزاوية اليجبشية واحترامها من قبل السلاطين العلويين، بدءا بظهير المولى إسماعيل. وقدم بعد هذا النص الأصلي لكتاب الجهاد، وقد ذكر بأنه اعتمد على النسخة الخطية بخزانة المسجد الأعظم بتازة، وهي من تحبيس السلطان محمد بن عبد الله على مسجد المدينة؛ وهي النسخة التي تعتبر- حسب البوخصيبي – أصلا لما هو مصور بالخزانة العامة في الرباط. ولم يحدد البوخصيبي إن كان الأمر يتعلق بتحقيق أو تقديم فقط، لأن كتابه الأساس تمحور حول القطب الصوفي المجاهد امحمد بن عبد الرحيم بن يجبش، ومن خلاله كتابه في الجهاد، مع لمحات حول تاريخ تازة وبعض من رجالاتها. وقبل ختم الكتاب إياه، يدرج المرحوم البوخصيبي فصلا فريدا في المجاهدين الذين عاصروا ابن يجبش، حتى تتضح صورته بينهم، حسب صاحب الكتاب، وحتى تطلع الأجيال الحالية من المغاربة على مقاومة وبطولات أجدادهم التي لا يعلمون عنها الشيء الكثير، خاصة في هذه الفترة الكالحة، وصنفهم إلى: شهداء، ومن هؤلاء: أبو الحسن علي بن عثمان الشاوي الذي استشهد قرب أصيلا في المعركة التي قادها عبد الله بن طلحة العروسي قائد القصر الكبير سنة 940 ه أو 925 ه. وابن جمعة أبو علي الحسن بن محمد الذي استشهد بالمسجد وهو يتهجد، ثم عيسى المصباحي والعنابي وابو الليف وغيرهم. الفئة الثانية وهم المجاهدون، وقد ذكر منهم ابن راشد مختط مدينة شفشاون والمتوفى سنة 927 ه، والشاعر محمد القنطري والبهلولي ويحيى بكار المعروف بالأصغر والورياغلي وأبو عبد الله محمد بن المبارك، وابن تودة وأبو العباس الزواوي. والطائفة الثالثة هي الأسرى، ويقتصر على ذكر اثنين منهم هما ابن ساسي والكوش. أخيرا يذيل البوخصيبي كتابه الرائد بخاتمة لا تلخص كل ما سبق مثلما يتبادر لأول وهلة وإنما تستدرك بعض الهنات، سواء الموجودة في كتاب الجهاد، أو ما لا حظه لدى الآخرين، كعبد الله كنون، في ما يخص تاريخ وفاة ابن يجبش، دون أن ينسى بعض ما يمكن تسجيله عليه هو نفسه في الكتاب، وذلك كإغفال تاريخ الميلاد، وهو أمر مرتبط بقلة ما كتب حول العصر الوطاسي، وتغليب جانب التصوف والميل إليه باعتباره عاملا أثر وتفاعل من خلال نشأة البوخصيبي نفسه كما يقول بين ثلاث رباطات: تيط مليل ورباط آسفي ثم رباط تازة. ويختم الكتاب كلل ببعض الشهادات، كتلك التي يوردها للعلامة عبد الله كنون، علاوة على التقديم السابق؛ وهي شهادة نشرت بجريدة الميثاق بتاريخ 03 مارس 1973 قبل خروج الكتاب إلى المطبعة رسميا، ثم شهادة للعلامة ادريس بالأشهب، وأخيرا رسالة عبارة عن قصيدة شعرية وجهها الكاتب إلى أحد أصدقائه من أبناء تازة.
