ربما كان من الضروري انتظار اليوم الأخير من حياة المعرض الدولي للنشر والكتاب، الذي احتضنت العاصمةُ الرباطُ دورتَه الثلاثين، من أجل فتح نقاشٍ هادئٍ حول أسباب تنامي ظاهرة الاستياء العام، الذي دأبت فعالياتُه على إثارتها وتعميقها في أوساط النخب المثقفة. وهي ظاهرةٌ عُرفت بتصاعد مدِّها خلال دوراته الأخيرة تحديدًا. إذ إن جولةً قصيرةً في شبكات التواصل الاجتماعي تكفي لضبط حِدَّةِ هذا الاستياء الذي ينصَبُّ بلا هوادةٍ على ما يلازم فعالياته من أعطابٍ تنظيميةٍ، ما ظهر منها وما خفي. ومن المؤكد أن السرَّ في تجاهل الوزارة الوصية لغضب النخب المثقفة، يكمن في افتقارها الفعلي إلى الحد الأدنى من حسِّ المسؤولية الثقافية. ما يفضي إلى تكريس المسلمة المتداولة حول غيابها التام عما يقتضيه المشهد الثقافي، من حضورٍ فكريٍّ خلاقٍ، ومواكبةٍ إداريةٍ بناءةٍ، يفترض فيها تكامل البعد المعرفي بالبعد التدبيري. وفي اعتقادنا أن مأساوية هذا الغياب/التغييب المتعمد، هي جزءٌ لا يتجزأ من مأساوية التكالب الشرس الذي يمارسه أعداء المعرفة على تطلعات الهوية المغربية، كي تظل مراوحةً مكانها، وقاصرةً عن تلمس طريقها إلى أي أفقٍ حضاريٍّ محتمل. ولا أعتقد أن في الأمر ما يدعو للاستغراب، في ظل جهلها بجدوى الشأن الثقافي، الذي يعتبر شرطًا أساسيًّا من شروط تفعيل مقتضيات الحضور الحضاري. وأيضًا، بوصفه إشكالًا تنوء بحمله الجبال الرواسي، فما بالك بإدارةٍ وصيةٍ تشتغل بمزاج الفرجة والبهرجة، معتمدةً في ذلك على "كفايات!!"، ينحصر اختصاصها أساسًا في خلط الأوراق، وفي تضبيب ملامح المشهد، وتشويه ما يحفل به من منجزاتٍ، نتيجة حرصها المبيت على إسدال حجابٍ ظلاميٍّ، يحول دون تبيُّن ما يتواجد فيه من نقطِ ضوءٍ، جديرةٍ بالإكبار والتنويه. والحال، إن مهام تنظيم معرض الكتاب، كما هو متعارف عليه في التقاليد العريقة، تُسند إلى رموزٍ حقيقيةٍ، متميزةٍ بتجذرها الفعلي في تربة المشهد الثقافي، ومُلِمَّةٍ بطبيعة الأسئلة المركزية المتداولة فيه، والمتميزة – فضلًا عن ذلك – بثراء إشكالياتها المعرفية الأكثر ملحاحيةً، والمؤثرة في حفر المسارات الجديرة بتطلعات الهوية المغربية. كما تستند في إنجاز المهام ذاتها على المؤسسات الثقافية، المشهود لها وطنيًّا ودوليًّا، بدينامية حضورها، بما تعنيه الدينامية هنا من اضطلاعها بمسؤولية إغناء المجال الفكري أو الإبداعي الذي تشتغل فيه، بالنظر لإحاطتها الواسعة بأدق تفاصيل اختصاصاتها الثقافية، بدل إسنادها إلى زُمْرَةٍ نَكِرَةٍ، تَعْمَدُ عن سبق إصرارٍ إلى إجلاء هذه الكفايات من المشهد، كي تستفرد ببؤس تصريفها لهذه المهام، مع استثنائنا لما قلَّ منها. وهي، بالمناسبة، لجانٌ مجهولة الهوية، عبارةٌ عن خليطٍ هجينٍ من الولاءات والتحالفات، التي ينتمي بعضها إلى دوائر القرار، أو دوائر الفرجة، فيما ينتمي بعضها الآخر إلى ظلمة تلك الخرائب المهجورة التي طال ألسِنَتَها العِيُّ، وعصفَت بذاكرتها المعرفية نوائبُ الضمور. في حين، تنتشي البقية الباقية منها باحترافها مهنة الإجهاز على أية شعلةٍ معرفيةٍ قد تلوح للملاحظ من قريبٍ أو بعيدٍ. دون إغفال تلك الكائنات الانتهازية، التي تشتغل من وراء حجابٍ، والضالعة في انتهاز فرص استخلاص الفوائد والعوائد، التي لا تخطر مطلقًا على بال معرض/سوقٍ، تشكو بضاعته من بوارها. وهي وضعيةٌ على درجةٍ مهولةٍ من البؤس والغثاثة، التي تنعدم معها فرص وضع تصورٍ مقْنِعٍ ومُثْمِرٍ، بما أمكن من وهج الرؤية العقلانية، التي ترقى بفعالياته إلى انتظارات المثقفين المغاربة، الذين دأبوا على تكريس حياتهم من أجل استشراف آفاقٍ فكريةٍ وإبداعيةٍ، جديرةٍ بما يبذلونه من جهدٍ في هذا الحقل المعرفي أو ذاك. هكذا إذن، سيجد الملاحظ نفسه أمام شتاتٍ من "الفعاليات!!"، هي نتاج برمجةٍ مزاجيةٍ، ومجردةٍ من أية رؤيةٍ تدبيريةٍ للعمل الثقافي، خاصةً وأنها معززةٌ بكَوْلَسَةٍ مشبوهةٍ، مؤطرةٍ قوانينُها بواجب الإخلاص إلى ميثاق القرابات المريبة، التي لا أثر فيها لأية رابطةٍ فكريةٍ أو إبداعيةٍ، سواء تعلق الأمر بوضع المحاور، أو بانتقاء الأسماء المدعُوَّة. كما أن الملاحظ ذاته سوف يجد نفسه بصدد خَلْطَةٍ عجيبةٍ وعشوائيةٍ من الفعاليات المعزولة عن سياقها الموضوعي، والتي لا تسمح مطلقًا باستخلاص أي تصورٍ متماسكٍ ومبْنيٍّ، يخص ما أمكن من الأسئلة المركزية التي يحفل بها المشهد الثقافي المغربي. إذ في الحالات الطبيعية، التي يُفترض في المعرض الذي يحترم مثقفيه، وكذلك الخاصة من جمهوره، أن يضع – على سبيل المثال لا الحصر – كُلًّا من سؤال الكتاب المغربي، وسؤال حقوق المؤلف، على رأس أولوياته، وفي صدارة ما يبرمجه من ندواتٍ، بوصفه سؤالًا حارقًا تكتوي بناره ذاكرةُ الكتابة منذ أواسط القرن الفارط إلى الآن، والذي لم يفلح تعاقُبُ الوزارات الوصية في الاهتداء إلى ما قلَّ من أجوبته الشافية. ذلك أن الانعدام التام لمقومات أية استراتيجيةٍ إداريةٍ مؤهلةٍ لتفعيل إجرائية النشر والتوزيع، ومعها حقوق المؤلف، من شأنه مفاقمة حالة الإحباط المدمر لدى المفكرين والمبدعين المغاربة، بما يفضي إلى تعطيل قنوات التفاعل التي يفترض فيها أن تكون صلة وصلٍ بين الكتابة والقراءة. حيث ما من إمكانيةٍ متاحةٍ لردم تلك الهوة العميقة الفاصلة بين المعرفة ومتلقيها، وحيث يظل شبحُ هذه القطيعة معتددًا باستمرارية فصله المأساوي بين أراضي القراءة وأراضي الكتابة. وهي الوضعية المزرية التي يَقْنَعُ جرَّاءها الكاتب المغربي – مُكْرَهًا – بذلك النزر القليل من نُسَخِ إصداراته، التي يقتصر في توزيعها على نسبةٍ معدودةٍ من المهتمين. والغريب في الأمر أن الجهة الوصية، وبحكم إمعانها في الكَيْد، تصر على اختلاق فقراتٍ تمويهيةٍ لمن تعتبرهم "نجوم الكتابة". علما بأن هذه الصفة – وطبعًا في الدول المتقدمة – تخص فقط الكتبَ التي تحظى مبيعاتُها بتحطيم أرقامها القياسية، قبل أن يرتد الطرْفُ إلى مؤلفيها وناشريها. وهو ما سيبدو بالنسبة لواقعنا المأزوم مندرجًا ضمن باب الاستحالة المطلقة، حيث يكتفي فيه الكاتب، وبقوة ما يطاله من يأسٍ، بالإعلان عن إصداره، دون أن يكون معنِيًّا بتداوله الفعلي والمادي في نقطةٍ ما من صحارى هذا الوطن. وكما هو معلوم، فإن ارتفاع عدد المبيعات "هناك"، أي في فضاءات القراءة الحقيقية، هو الدليل القاطع على عمق التفاعل المتبادل بين الكتاب وقُرَّائه، وليس بموجب عدد "اللايكات" التي تحصدها صورة غلافه المعلقة على حائط الفيسبوك "هنا". ومن المؤكد أن هذه الوضعية ذاتها تساهم بشكلٍ فعَّالٍ في اكتظاظ المشهد بطوابيرَ حاشدةٍ ومتناسلةٍ من الدخلاء والمدَّعين، المهووسين بانتحال هوية المثقف، المبدع، والفنان. بما يؤدي إلى اختلاط حابل المعرض بنابله، كي تشمل عدوى الرداءة في نهاية المطاف مجموع ما يتخلل فقراته، بما في ذلك بعض اللحظات المضيئة والاستثنائية، كي تصيبها في مقتل. مع العلم أن هذه اللحظات غالبًا ما تكون محشورةً في هوامش، يتعذر على الرؤية الفاحصة الاهتداء إلى مواقعها. وأيضًا، بموجب هذا الواقع المزري، سيكون من الطبيعي أن يتحول المعرض إلى مجرد فضاءٍ ظرفيٍّ وعابرٍ من فضاءات السياحة الثقافية، بالمفهوم القدحي للكلمة. حيث تتقاطر عليه الحشود البشرية من كل حدبٍ وصوبٍ، بحثًا – فيما يشوبه من اكتظاظٍ وهرجٍ – عن فرجةٍ سانحةٍ، نادرًا ما يجود بها "روتينها" اليومي الغارق حتى النخاع في متاعب المعيش ومنغصاته. ثم "هُم"، هكذا كما ترى، يحُجُّون زرافاتٍ ووحدانا، كي يلقوا بنظراتٍ زائغةٍ على أكوام تلك الكتب التي جيء بها خلسةً من دفء عزلتها، كي تتساءل عن دلالة حضورها في أجواء هذا المحفل الغريب. ثم، خلال ذلك، ومباشرةً بعد أن يلفظ المعرض أنفاسه الأخيرة، سيكون بوسع الزوار أن يعودوا إلى قواعدهم، لينعموا بقسطٍ من الراحة، عساهم يتمكنوا من استيعاب دلالة تلك الأجواء الهجينة التي تورطوا في اختيارها كفضاءٍ مؤقتٍ للسياحة الثقافية. كما سيكون بوسع الكاتب المغربي أن يتأكد هو أيضًا من اغترابه التام عن مشهدٍ لن يُعوَّلَ فيه على أي حضورٍ عمليٍّ وحقيقيٍّ للجهات الوصية، سواء على المدى القريب أو البعيد. وتلك هي المعضلة الكبرى التي ستنعكس سلبياتُها حتمًا على مجموع ما يتم تلفيقه من فعالياتٍ خارج التراب الوطني، سواء كان ذلك بباريس أو بجزر الواق واق.