تمهيد في زمنٍ تُصنَع فيه الرموز أكثر مما تُنتَج فيه الأفكار، يبرز نموذج أحمد عصيد كحالة مثيرة للجدل، لا بسبب عمق أطروحاته، بل بسبب قدرته على تحويل قضايا الهوية والدين إلى أدوات شعبوية تُغري بالانفلات وتُغذّي الانقسام. من بين أبرز مزاعمه، تلك المتعلقة بالأمازيغية كلغة قديمة للتدوين، وهي دعوى تنهار أمام سؤال بسيط لكنه كاشف: لو كانت الأمازيغية لغة تدوين، لماذا لم يكتب بها سان أوغسطين، أحد أعلام الفكر في شمال إفريقيا؟ سان أوغسطين: الحقيقة التاريخية التي تُحرج الخطاب الشعبوي سان أوغسطين (354–430م)، أسقف مدينة هيبون ، يُعدّ من أبرز مفكري المسيحية الغربية، وأكثرهم عقلانية وتأثيرًا. وُلد في بيئة أمازيغية، لكنه لم يكتب حرفًا واحدًا بالأمازيغية، بل ألّف أعماله باللاتينية، وترك تراثًا فلسفيًا ولاهوتيًا هائلًا، من أبرزها الاعترافات ومدينة الله. هذا الاختيار اللغوي لم يكن صدفة، بل يعكس واقعًا تاريخيًا: الأمازيغية لم تكن لغة تدوين، ولا لغة فلسفة، ولا لغة لاهوت. رغم أن الأمازيغية كانت متداولة شفويًا، إلا أن غيابها عن التدوين في الحقبة الرومانية يُثبت أنها لم تكن مؤهلة لتكون لغة فكر أو إدارة. فلو كانت كذلك، لكان أوغسطين أول من استخدمها، لكنه لم يفعل، لأنه ببساطة لم تكن كذلك. الأكثر دلالة، أن البابا الحالي فرنسيس يُعدّ من أبرز المتأثرين بفكر أوغسطين، خاصة في رؤيته العقلانية للدين، وموقفه من العلاقة بين الإيمان والعقل. فسان أوغسطين لم يكن مجرد رجل دين، بل مفكر عقلاني، يُوازن بين الروح والعقل، ويُؤسس لفكر مسيحي نقدي، لا شعاراتي. هذه الحقيقة التاريخية تُحرج الخطاب الشعبوي الذي يُقدّم الأمازيغية ك"لغة أصيلة للتدوين"، وتُظهر أن التاريخ لا يُكتب بالرغبات، بل بالحقائق. من حالة فردية إلى ظاهرة شعبوية تحوّل أحمد عصيد من كاتب رأي إلى رمز إعلامي يُستخدم لتبرير الانفلات من المرجعيات الدينية والأخلاقية، خاصة في أوساط الشباب الذين يرون في الدين عائقًا أمام رغباتهم أو سلوكهم. هذا التحوّل لم يكن نتيجة مشروع فكري متماسك، بل بفعل خطاب شعبوي يُراهن على الإثارة، ويُغذّي ردود فعل سطحية تُكرّسها المنصات الرقمية. ورغم أن بعض أطروحات عصيد تُثير أسئلة مشروعة حول العلاقة بين الدين والحرية، إلا أن غياب التأصيل النظري يجعلها أقرب إلى التحريض الثقافي منها إلى التفكير النقدي. الدين كعدو رمزي في خطاب عصيد، يُقدَّم الدين غالبًا كخصم يجب تجاوزه، لا كمجال للتفكير أو الإصلاح. هذا التبسيط يُغري لكنه لا يُنتج فهمًا، ويُحوّل النقاش من فضاء نقدي إلى ساحة تحريض. وهكذا، يُصبح المثقف المزيف أداة لتزييف الوعي، لا لتحريره. الأمازيغية بين الحق الثقافي والانزلاق الإقصائي من حيث المبدأ، تُعدّ الأمازيغية مكوّنًا أصيلًا من الهوية المغربية، ولها الحق الكامل في الاعتراف، الحماية، والتطوير. لكن حين تتحوّل هذه القضية من مشروع ثقافي جامع إلى خطاب إقصائي يُعاد فيه إنتاج العداء باسم الهوية، فإننا نكون أمام انزلاق شعبوي خطير. في خطاب أحمد عصيد، تُقدَّم الأمازيغية ليس كرافد من روافد الثقافة المغربية، بل كبديل عن الثقافة العربية، بل كخصم لها. هذا التوظيف لا يُسهم في بناء التعددية، بل يُغذّي الانقسام، ويُحوّل الدفاع عن اللغة إلى أداة للتحريض ضد مكوّن ثقافي متجذّر في تاريخ المغرب، وهو الثقافة العربية واللغة التي تحملها. وهكذا، يتحوّل الدفاع عن الأمازيغية من مشروع تحرري إلى مشروع إقصائي، يُعيد إنتاج العنصرية الثقافية ولكن بوجه مقلوب: عنصرية ضد العربية، لا باسم الاستقلال الثقافي، بل باسم الانتقام الرمزي. غياب المثقف العضوي وفي ظل هذا الانزلاق الخطابي، يغيب النموذج الذي يُمكن أن يُوازن بين الهوية والنقد: المثقف العضوي. ذلك الذي يُعبّر عن مصالح المجتمع، ويُسهم في بناء وعي نقدي مرتبط بالواقع. كما يقول غرامشي: "كل إنسان مثقف، لكن ليس كل إنسان يؤدي وظيفة المثقف في المجتمع". والمثقف الحقيقي هو من يُحوّل المعرفة إلى أداة للتغيير، لا إلى سلعة تُباع في سوق الإعلام. كيف نعيد بناء المعايير الفكرية؟ لكي نُعيد الاعتبار للفكر الحقيقي، لا بد من: • إعادة تعريف المثقف وفقًا لإنتاجه المعرفي لا حضوره الإعلامي • التمييز بين الناشط، الإعلامي، والمفكر • تحرير الإعلام من منطق الإثارة • دعم استقلالية المؤسسات الأكاديمية وربطها بالمجتمع • تشجيع النقد الداخلي بين المثقفين ومساءلة الرموز الإعلامية كما يقول إدوارد سعيد: "المثقف الحقيقي هو من يختار أن يكون في موقع المعارضة، لا التبرير". وهذا ما نفتقده في كثير من النماذج التي تُقدَّم للجمهور المغربي، حيث يُستبدل الموقف النقدي بالخطاب الشعبوي، ويُستبدل العمق بالاستعراض. خاتمة في زمن تُصنَع فيه الرموز أكثر مما تُنتَج فيه الأفكار، يصبح الدفاع عن الحقيقة التاريخية فعلًا مقاومًا. وسؤال سان أوغسطين ليس مجرد استفهام بل اختبار: هل نُريد معرفة تُحرّر، أم شعارات تُحرّض؟ والمثقف الحقيقي ليس من يُرضي السلطة ولا من يُثير الجمهور، بل من يُزعج الاثنين حين يلزم، ويُنتج معرفة تُحرّك العقول لا فقط العواطف. -باحث مغربي مقيم بفرنسا