في مشهد لا يُعادله في الفداحة سوى تكراره، أسقطت الولاياتالمتحدةالأمريكية مجدداً مشروع قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار في قطاع غزة. 14 دولة وافقت، وواحدة فقط عرقلت، مستخدمةً امتيازاً من حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أُريد به حماية الأمن الجماعي، فإذا به يُستعمل اليوم لتعطيل ضمير جماعي في مواجهة مجاعة، ومجازر لم تتوقف منذ حوالي سنتين. ليست هذه هي المرة الأولى، ولا الأكثر صدمة. الفيتو الأمريكي، مذ تبنّته واشنطن أداة سياسية للدفاع عن إسرائيل، تحوّل إلى ترخيص دولي مستمر لقتل الفلسطينيين، ورخصة مفتوحة لتجميد العدالة الدولية. فالولاياتالمتحدة، منذ سبعينيات القرن الماضي، عطّلت عشرات القرارات التي كان من شأنها محاسبة إسرائيل أو على الأقل كبح شهيتها الاستيطانية والعدوانية. فيتو ضد مراقبين دوليين في الأراضي المحتلة. فيتو ضد إدانة مذبحة في جنين. فيتو ضد رفض بناء الجدار العازل. فيتو ضد مساءلة تل أبيب عن مقتل موظفين أمميين. فيتو ضد وقف العدوان على غزة. فيتو ضد تحقيق في جرائم حرب. فيتو ضد مجرد استخدام عبارة "وقف إطلاق النار". ليست هذه "مواقف سياسية" كما تروّج واشنطن، بل هي شراكة فاعلة في عرقلة القانون الدولي، وتواطؤ مُعلن مع نظام احتلال وإفلات دائم من المحاسبة. في كل مرة، يُقال إن مجلس الأمن فشل. لكن الحقيقة أن واشنطن هي من تُفشِل المجلس، وتعطّل ميثاقه، وتفرض تعريفاً انتقائياً للأمن، لا يشمل الفلسطينيين ولا يشمل المدنيين، ما دام القاتل إسرائيلياً. ولم يعد السؤال اليوم متى استخدمت الولاياتالمتحدة الفيتو؟ بل: متى امتنعت عن استخدامه؟ متى تركت للعالم فرصة، ولو لمرة واحدة، أن يقول لإسرائيل "كفى"؟ حتى في لحظات الإجماع الدولي، حين يكون الدم الفلسطيني قد تخطى عتبة الغضب، يُستدعى الفيتو الأمريكي كحاجز أخلاقي بارد، يُسدل الستار على المجازر، ثم يُلقى اللوم على "الانقسامات داخل المجلس". اللافت أن هذا الحصن السياسي الذي تحتمي به إسرائيل، بات في الوقت ذاته أحد أبرز أدوات عزل الولاياتالمتحدة دولياً. لم يعد الفيتو صك نفوذ، بل صك عزلة. الدبلوماسية الأمريكية، بما فيها تصريحات مبعوثيها، لا تملك اليوم سوى خطاب يتحدث عن الرهائن و"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، في تجاهل فاضح لأكثر من 65 ألف قتيل فلسطيني، ومجاعة معلنة رسمياً في غزة، ودمار لا يوصف في البنى التحتية، وتشريد لم يبقِ من القطاع إلا أطلالًا موحشة. لكن هذا الاستخدام العابر للحدود للفيتو لا يمر دون كلفة سياسية. مع كل نقض، تتراجع مكانة واشنطن كمحكّم دولي، وتزداد الشكوك حول نزاهة النظام الأممي، وتُسجَّل في ذاكرة العالم لحظة أخرى من لحظات الفضيحة الأخلاقية: دولة واحدة تملك أن توقف العالم، لا لأن العدالة غائبة، بل لأنها مكبّلة. وفي المقابل، تنمو في الضمير العالمي أسئلة لا تموت: من يحمي الفلسطينيين؟ من يمثلهم في النظام الدولي؟ ومن يجرؤ على محاسبة إسرائيل؟ في مجلس الأمن، يُستعمل الفيتو كأداة سيادية. في غزة، يُستقبل كطلقة إضافية في جسد مدينة محاصرة. لم يعد هذا امتيازًا دبلوماسيًا، بل صار امتيازًا في القتل. وإن لم تُراجع الأممالمتحدة آلياتها، فستفقد ليس فقط فاعليتها، بل حتى حقها في الاسم: "متحدة" ضد من؟ ومن أجل من؟