"الخيرالدا".. رحلة بين عالميْ الأحلام واليقظة..بين الواقع والخيال..بين الماضي والحاضر.. تأمّلات مَضضيّة حَنظلية مُرّة عن واقعنا المعاش الكئيب، وعن حاضرنا الرديء المَعيب..وعن رَدَحٍ من الدّهر من ماضينا الذي عفا عنه الزّمن ومضى، وانقضى، وانصرف، وفات، وولّى، وذهب حميداً بأهله وقومه لحال سبيله.. سفريّة، أو جولة،أو نقلة في سديم الزّمن، عبر الأثير، تنقلنا إلى ماضٍ ذقنا فيه برهةً طعمَ الحضارة، واستضأنا بأنوار التألّق، والألق، والتفوّق، والتدفّق والإبداع والإشعاع، والإمتاع والإقناع، واستمتعنا بشكلٍ مغايرٍ من أشكال الحياة اللاّزورديّة، الماسيّة، الهنيّة الكريمة في كنف إشراق ورونق، وسناء، وبهاء أو ما نسمّيه اصطلاحاً ب: "الزّمن الجميل"، الذي نقول عنه مواساةً، وعزاءً، وحسرةً، وألماً عند استذكاره، أو استحضاره في العقل والذاكرة والوجد والوجدان: ليس في الإمكان.. أبدع، ولا أروع، ولا أنصع، ولا أمتع، ممّا كان...!!). وبرحنا المحطّةَ التي لا أذكر إن كان لها وجودٌ في أيِّ زمانٍ أو مكان..القطار يقطع المسافات في سرعةٍ مذهلة، المسافرون حيارى، ارتسمت علامات الشّدوه على وجوههم التي علاها التوجّس، والقلق، والمخاوف والانشغالات، الزّوابع والتوابع تهبّ علينا بين الحين والآخر، الأشجار والأحجار والمباني تعود الزّمانَ القهقرى أمام زحف القطار في إصرار مُذهل، وسرعةٍ فائقة، القطار ما زال مستمرّاً في انطلاقه كالسّهم الذي لا يلوي على شيء. أرخى الليل سدوله، بدأت أشعّة القمر تتسلّل بين المرتفعات والآكام، راع الناسَ ما رأوا، كلّ واحدٍ منهم صار ينظر إلى الآخر في عُجْب وذهول. فمنذ خروج القطار من ذلك النفق المدلهمّ الحالك، انقشع كلّ شيء أمام أعيننا، تغيّر كلّ شيء في لمحٍ من العين، وكأنّ الدّنيا قد أضاءت بعد ظلام، واخضرّت بعد اقفرار، تغيّرت ألواننا، وأشكالنا، وسحننا. التفتّ ناحية اليمين لأرى جليسي في المقعد، فإذا بقبّعته الإفرنجية تحوّلت إلى عمامةٍ زرقاءَ داكنة، وها هي ذي ملامحُ مُحيّاه تتغيّر كذلك لتفقد بياضَها، وتكتسب بشرة الوجه لوناً يميل للسّمرة يشبه لونَ الأرض. أخذ الرّجل يحدّق في وجهي وكأنّه يعرفني منذ قرون خلت، كانت دهشتي عظيمة أنا الآخر عندما رأيته يمعن النّظر في الجهة التي تعلو رأسي، ولم تكد ضحكته تتفجّر من فيه حتى ردّدت صداها المقصورة التي نملأها صحبة حفنة من المسافرين الذين كان معظمهم يغطّ في نوم عميق، بعد أن أصابهم ما أصابنا من تغيّر السِّحن، والجَنان واللسان والأردية. أيّ دابة هذه التي تركبها يا صاح..؟ كاد لساني يغرق في جوفي، فرّكت عيني وأذني، كيف يحدّثني هذا الإفرنجي الأشهل بلسانٍ عربيٍّ فصيح..؟ لم أتردّد ولم أترك للدّهشة مجالاً لتعتريني، بل رددتُ عليه بلغة الواثق من نفسه : -إنهّا حكمة الله يا أخي، وأنعم بها من حكمة. وأردفتُ: - من أين وإلى أين...؟ -من مجريط العامرة وإلى اشبيلية الزّاهرة. وعندما توطدّت صلاتنا، وتأكّدت من حسن طويّة الرّجل ونيّته، انقشعت غمامة الحيرة بيننا، وصار يسألني في انشراح عن أحوال بلنسية، وشأن مُرسية، وعن أخبار شاطبة، وجيّان. فاعتراني الشّدوه ثانيةً إلاّ أنني تظاهرتُ بأننّي على علم ويقين بأخبار هذه الحواضر، والمداشر، جميعها فقلت: - لا جديد كلّ شيء على ما كان عليه. وكان في اعتقادي أنّني تنصّلت من سؤاله إلاّ أنّه قاطعني : - تلك حكمة الإله، فلكلِّ شيء إذا ما تمّ نقصانُ. عندما طفقت أشعّة الشّمس تتوسّط كبدَ السماء، وصل القطار المحطة الواقعة في وسط المدينة العتيقة، فإذا بجموع من البشر في أثواب بيضاء ناصعة يمشون الهوينى، في زحمة بدون اكتظاظ، وعجلةٍ دون إسراع، وروائح الطّيب تملأ الأجواءَ عبقةً فوّاحة. نزلنا أنا وصاحبي واختلطنا داخل الجمع الغفير، فجرّنا مدّه حتى ألفينا أنفسنا داخل المسجد العظيم، وقد انطلق صوت المؤذّن حلواً رخيماً سُمع في كل المدن والقرى، والمداشر، والعشائر، والبقاع، والضّيع والأصقاع. صاح إمام المسجد في الجموع: الله أكبر، الله أكبر، وصار يخطب في الناس: " أمر يعقوب المنصور الموحّدي، رضي الله عنه، خلال إقامته باشبيلية بعمل التفافيح الغريبة الصّنعة، العظيمة الرّفعة، الكبيرة الجرْم، المذهبّة الرّسم، فرفعت في منارنا هذا بمحضره. وحضر المهندسون في إعلائها على رأيه مركّبة على عمود عظيم من الحديد الحامل لهذه الأشكال المسمّاة بالتفافيح إلى الهواء. كان عدد الذّهب الذي طليت به هذه التفافيح الثلاث الكبار، والرابعة الصّغرى، سبعة آلاف مثقال كبار يعقوبية.عملها الصُنّاع بين يديّ أمير المؤمنين، ولمّا كملت سترت بالأغشية من شقاق الكتّان لئلاّ ينالها الدّنس من الأيدي والغبار، وحُملت على عجَل مجرورة حتى إلى الصّومعة بالتكبير عليها والتهليل حتى وصلت، ورُفعت بالهندسة إلى أعلى الصومعة، ووُضعت في العمود، وحُصّنت بمحضر أمير المؤمنين أبي يوسف المنصور وبمحضر وليّ عهده أبي عبد الله النّاصر، وجميع بنيه، وجميع أشياخ الموحّدين، والقاضي، وطلبة الحضر، وأهل الوجاهة من الناس، وذلك يوم الأربعاء عقب ربيع الآخر من عام أربعة وتسعين وخمسمائة، ثمّ كشفت عن أغشيتها فكادت تغشي الأبصارَ من تألقها بالذّهب الخالص الإبريز وبشعاع رونقها". كنت كمن أغمي عليه لفترة ما من الوقت، فرّكت عيني، ثمّ جمعت حقائبي، وتقدّمت بخطى وئيدة، وامتطيت سيارة أجرة نحو الفندق الذي يقع قبالة صومعة الخيرالدة بالذات، الذي عادة ما أنزل فيه كلما عنّ لي زيارة مدينة اشبيلية وصومعتها الأسيرة. صاح سائقُ التاكسي وهو يمرّ بمحاذاة سور "الجامع الكبير ": سنيور، رويناس أرابيس، رويناس أرابيس. فأدركت أنّه كان يقول لي إنّها آثارنا، إنها آثارنا. قهقه في خبث، ونفث دخاناً كثيفاً من فمه واستمرّ في سوقه في اتجاه الفندق، بينما سرت أنا أتمتم في همس، وأقول في نفسي: أجل... هذه آثارنا تدلّ علينا... فانظروا بعدنا إلى الآثار. ما أن استلقيتُ على السّرير حتى ظهرت لي صومعة الخيرالدا (**) عالية مشعّة، شامخة، جميلة تتوسّط النافذة، تناطحُ عنانَ السماء، تعلوها مجموعة من النواقيس، سرعان ما بدأت تقرع وتصمّ الأذان. كان الجوّ هادئاً ساكناً وقد بدأ الغسق يكسو أسوارَ المدينة بألوانه الحمراء الزّاهية، بينما تتراءى أشجارُ الليمون والحدائق العربية التي تملأ أرجاءَ المدينة وأرباضَها. دنوتُ من النافذة، وصرتُ أتأمّل الثمارَ المدلاة من الأشجار الباسقة. نظرت إلى أسفل فكدتُ أفقد عمامتي، أعدتها إلى رأسي، وعاودتُ تثبيتها، طفقت ريحُ الصّبا تأتي من كلّ صوب، محمّلة بروائح الطيب، والمسك، والعنبر، والزيتون، والتمر، والعنب، والفلّ، والقرنفل، والياسمين، والرّياحين، وحلو الكلام والأنغام، تبدّى لي وسط الرّصافة والجسر نخيلٌ كثيف، ومياه، وأنهار، وأشجار عالية مختلف ألوانُها وأشكالُها، يصل حفيف أوراقها أسماعي من بعيد، ويختلط بخرير المياه، والنافورة العتيقة المهجورة، التي تتوسّط الحديقة، يئنّان، يبكيان معاً العهدَ والجدَّ والدّارَ، يشكوان في انسجام وتناغم أبديٍّ مبكٍ بُعْدَ الدّيار، وشَحْطَ المَزَار. طفقتِ الطيورُ المغرّدة بالأدواح الشّاهقة تبعث أنغاماً رخيمة أصيلة تختلط فيها أصواتُ زرياب، والموصلي، بقوافي ابن خفّاجة، وابن زيدون، وابن سهل، التفتُّ داخلَ الحجرة، فقرّرتُ أن أخلد للنّوم بعد أن أخذ التّعب منّي كلَّ مأخذ، لم أجد تفسيراً للصّور التي تتراءى لي، وتلازمني ولا تبرحني، القطار، العمائم، الأذان، الخطيب، المصلّون، الخليفة، التفافيح، الطيور، الثمار، الأشعار. استعذتُ بالله، لعلّ اللهَ يُقصي عنّي ما يتراءى لي من صور، وأشباح وأوهام، تختلط ما بين النّوم، واليقظة، والأحلام، حاولتُ أن أثوب إلى رشدي، وأستجمع كلّ قوّاي العقلية والنفسية وأقنعها أنّني جئتُ إلى هنا مدعوّاً لحضور تظاهرة ثقافية تاريخية كبرى، وبالمرّة لأخذ قسطٍ من الرّاحة والاستجمام، إلاّ أنّ أصوات الأذان الرّخيمة التي تنطلق من مآذن الصّوامع والجوامع، وقرع نواقيس الكنائس، ومناداة بيع اليهود..كلّ تلك الأصوات التي تدعو الناسَ للصّلاة على اختلاف أديانهم، ومللهم، ونحلهم ما برحتْ تلازمني، وما فتئت تملأ أذني، وما زلتُ في حيرةٍ من أمري. قمتُ لتوّي وقرّرتُ أن أتوضّأ لأصلّي، خيّم الصّمت المُطبق في أرجاء الغرفة، وعيناي ما زالتا مفتوحتين أستجدي الكَرىَ في خنوع، ليس من ضوء سوى شعاع القمر الذي يتسلّل من النافذة في شكل ذرّات متناثرة قويّة، نفّاذة، وهّاجة. ترى لماذا يتضاعف ضوءُ القمر في هذه المدينة..!!؟. أظنّني حيناً أنّني قد نمت، أو مكثت برهة بين اليقظة والمنام، وأخالني حيناً آخر أنّني ما برحت أقاوم شياطين الجنّ والإنس بتوابعها وزوابعها التي تتمرّغ في دهاليز عقلي، وتسبح في أحشائي، وتحيلني إلى بوتقة اجتمعت فيها كلّ الحِقب الزّمانية. ربّاه ماذا أصنع..؟ تتلاطم الأصوات، وتتزاحم الصّور، ما انفكّت الكلمات تنثال منهمرة على فمي بدون رابط أو قيد..يا أهلَ أندلس للّه ذرّكم..أنظروا بعدنا إلى الآثار..يا زمانَ الوصل بالأندلس..وجاؤوا بأنفاطٍ عظام كثيرة.. يحطّمون أسوارَ المدينة المنيعة، سلام على القاضي ومن كان مثله..يا حسرتي للعلم أقفر ربعه..إذ يقود الدّهر أشتات المُنى..ما جنّة الخلد إلاّ في دياركم..أتى على الكلّ أمرٌ لا مردّ له.. يروع حصاه حاشيةَ العذارىَ ! أيّ سعيرٍ هذا الذي أتلظّى فيه، أضغاث أشعار وأشلاء أحلام، وبقايا صور، العمائم، والحمائم ما زالت تشكّل قوس قزح حولي حتى كدت أتحوّل إلى أثير تائه في عباءة هذا الليل الحالم البهيم، أو روحاً حائرة تحوم حول مساجد قرطبة، ووهران، وطليطلة، والفسطاط، وغرناطة، وحمص، واشبيلية، ودمشق، وشاطبة، وفاس، ومرسية، ويثرب، وجيّان، والقيروان، ومرسية، والمزمّة... باحثاً عن هذه الحبّات الثماني المتناثرة الثمينة التي فرّط الزّمن أطراف عقدها النظيم. فتحتُ عيني في إجهاد، كانت أصوات البّاعة المتجوّلين تصلني من بعيد، وغنائيات حسناوات اشبيلية، وضربات أرجلهنّ، وتصفيقات أكفهنّ تداعب سمعي ممزوجة بهديل الحمائم، وزقزقة العصافير من السّاحة العمومية الكبرى التي تفصلني عن صومعة الخيرالدا. نهضتُ لتوّي، واتجهت نحو النافذة التي تطلّ على السّاحة. فإذا بانعكاس الشمس يكاد يذهب ببصري يشعّ فا منارة "برج الذّهب" (***) وعلى صفحة نهر "الوادي الكبير" الذي يشقّ المدينة الفيحاء نصفين، التي كانت ذات يومٍ من أبهى حواضر المعتمد، كان له فيها الصّولة، والسلطة، والصّولجان. مرّت ثلاثة أيام في لمحٍ من البصر، في شغفٍ وحسرة، وحبور وحيرة، وعندما عدتُ إلى "مجريط" وجدت بالبريد ظرفاً، فتحته على عَجل، فإذا بداخله دعوة لحضور حفل كبير تقيمه ذلك المساء إحدى المؤسّسات الثقافية الإسبانية الكبرى بمناسبة "الذكرى الثمانمائة لتشييد صومعة الخيرالدا"، طويتُ الدّعوة في هدوء، وأدخلتها في أحد جيوب سترتي. ابتسمت، ودلفتُ إلى داخل البيت، أنزع عنيّ ملابسي، لأستريح من عناء، ووعثاء رحلةٍ طويلةٍ، طويلةٍ، دامت ثمانمائة سنة ! * عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا – (كولومبيا).